يبدأ الإنسان حياته العقلية في الجزء الثالث من الحمل، حيث يأخذ الجسم البشري في بدأ تكامله، ليتطور المخ وتتزايد الخلايا العصبية، وتنمو حواسه كالسمع والبصر، وما أن يولد الطفل حتى تكون في عقله ستة وثمانين مليار من الخلايا العصبية. ولتبدأ هذه الخلايا العصبية بالتطور والتميز في وظائفها المختلفة، من خلال التربية وانعكاسات البيئة والظروف التي تحيط به. ولتبدأ عملية مهمة في التسليك البيولوجي، حيث تتواصل كل واحدة من هذه الخلايا العصبية، من خلال عشرة الآلاف سلك عصبي لكل خلية، ببعضها البعض، كما تتواصل مع باقي احساسات الجسم وعضلاته. فليبدأ الإنسان الصغير في النمو والكبر، ولينتقل من دراسة الحضانة، والابتدائية، إلى الدراسة الثانوية، والتدريبية أو الأكاديمية، ومنها لظروف العمل وابداعاته، ومع تحدياته، ولينتهي بمرحلة جديدة في الحياة، وهي مرحلة التقاعد. ويعتبر البعض هذه الفترة، فترة التقاعد عن العمل الحياتي والتهيئة للموت، لتزيد فيها الصلوات، والأدعية، والزيارات الروحانية، والاستغفار، وعمل الخير، لتجنب دخول النار. بينما يعتبرها البعض الاخر، مرحلة التقاعد عن المسئوليات المجتمعية، من مسئوليات العمل وحتى مسئوليات العائلة وتربية الأطفال، إلى مرحلة ولادة مسئوليات جديدة، وهي مسئولية الفرد عن نفسه، لتحقيق ذاته، وهواياته، وسعادته خلال هذه الفترة، وبدون ضغوط من رب العمل، أو قيادة الاسرة، ليحاول الاستمتاع بباقي حياته كما يشاء، من خلال السفر، أو الرياضة، أو القراءة، أو الكتابة، أو تعلم هوايات جديدة، أو التفرغ للعمل التطوعي والخيري الذي يهواه ويعشقه.&
ويختلف تعامل شعوب العالم مع مرحلة التقاعد، فمثلا في اليابان يعتبر الشعب الياباني مرحلة التقاعد، مرحلة مهمة في الحياة، وخاصة بأن الشعب الياباني يعيش بين عقدين، وحتى أربعة عقود من الزمن بعد مرحلة التقاعد. وتبدأ حياة الطفل عادة في اليابان قبل أن يولد هذا الطفل، حيث تقوم العائلة اليابانية بدراسة وتخطيط مستقبل هذا الطفل. ويعتبر تحديد اسم طفل المستقبل من أهم واجبات العائلة اليابانية، للاعتقاد بأن أسم الطفل يقرر شخصية الطفل، ومستقبل حياته، بمراحلها المختلفة من الطفولة والشباب، وحتى الكهولة والشيخوخة. وتبدأ هذه الخطوة بشراء مجلد كبير عن روحانية فن اختيار الأسماء. وقبل الخوض في عملية اختيار الاسم نتذكر عزيزي القارئ بأن الحضارة والثقافة اليابانية مرتبطة بقوة مع الحضارة الصينية. فقد انتقلت الكثير من مظاهر الحضارة الصينية إلى اليابان في النصف الأول من الألفية الأولى، وانتقلت معها الثقافة البوذية، من خلال شبه الجزيرة الكورية، بعد أن طورت وحدثت، وجمعت فيها الاخلاقيات الروحانية مع البراغماتيات الحياتية. كما استطاع اليابانيون تطوير لغتهم من خلال هذه الثقافة، حيث تضم الكتابة اليابانية على رموز كلمات "الكانجي"، التي أخذت من اللغة الصينية، والتي تجمع رموز عدة خطوط صينية، وتعبر عن كلمات معينة، كما تضم اللغة اليابانية حروف "الكانا"، وتنقسم أبجدية الكانا إلى قسمين، "الهرغانا" و "الكاتاكانا". وحروف "الهرغانا" هي حروف لكتابة الكلمات القواعدية، مع بعض الكلمات اليابانية الأصل، بينما تستخدم حروف "الكاتكانا" للتعبير عن الكلمات الدخيلة من أصل غير ياباني، وخاصة كلمات اللغة الإنجليزية.&
وهناك ثلاثة مراحل مهمة في عملية اختيار اسم الطفل الياباني. وتبدأ المرحلة الأولي بمحاولة تحديد الاسم، ولتبسيط فهم عملية اختيار الأسماء، نفترض بأن الاسم المختار هو أسم "رنا". ويتكون لفظ هذا الاسم في اللغة اليابانية من جزئين، "ر" و "نا". ولو رجعنا لرموز كلمات الكانجي لوجدنا بأن نطق الجزء "ر" من الاسم، له خمسة وعشرين رمزا، وتعبر كل واحدة منها عن صفات معينة في الشخص، كصفة الزهرة السحلبية (اوركيد)، أو صفة الجودة، أو صفة المتع، أو صفة الجمال. ويختار الوالدان أحد هذه الصفات لطفل المستقبل، وبكلمة رمز الكانجي المناسبة، ولنفترض أنهما اختارا الجزء "ر" بمعنى زهرة السحلبية، ورمز "الكانجي" لهذه الكلمة مكونة من تسعة عشرة خطا. ولو رجعنا للجزء الثاني من كلمة أسم رنا أي "نا" لوجدنا بأن هناك 84 رمز "كانجي" لها، وتعبر كل منها عن صفات معينة، كصفة الجمال، أو صفة إلهة الجمال، أو صفة الكثرة. ولنفترض بأن اختار الوالدان صفة الجمال، ورمز الكانجي لهذه الصفة مكونة من 7 خطوط صينية. وتتعلق المرحلة الثانية بجمع عدد الخطوط التي تشكل رمز هذا الاسم، أي جمع خطوط رموز الكانجى للجزء "ر" من الاسم، والتي التي تعني زهرة السحلبية، والتي تتكون رمزها من 19 خط صيني، وجمعها مع خطوط جزء "نا" والتي تعني الجميلة، والمكون رمز الكانجي لها من 7 خطوط صينية، ليكون المجموع 26 خطا.&
وترتبط المرحلة الثالثة بمراجعة الرقم 26 مع قائمة تربط هذه الارقام بالصفات التي قد يكتسبها الطفل بحسب عدد الخطوط. والجدير بالذكر أيضا بأن الارقام مقسمة في الثقافة اليابانية لأرقام سلبية وأرقام ايجابية، وهي مرتبطة بخمسة عناصر طبيعية، والعنصر الاساسي الأول هو الماء، وهو مادة مهمة للحياة على سطح الكرة الارضية، والماء تعبير عن حاجة الحياة للماء، لتعبر عن شخصية يحتاجها المجتمع في تقديم الطاقة للحياة للجميع، كما أن الماء الطبيعي يكون عادة بارد، لذلك تتميز هذه الشخصية بهدوء التفكير ورزانة السلوك. والعنصر الثاني هو الشجر، وهو رمز مهما للحياة، ويوفر الخشب اللازم لبناء السكن، وتوفير الطاقة والتغذية. والعنصر الثالث هو النار، والذي هي عنصر ناتج من طاقة الشمس، ومهم كعنصر طاقة في الطبخ والتدفئة، وإنتاج مختلف انواع الطاقة الاخرى. والعنصر الرابع هو التربة، وهي مهمة للزرع، ومختلف انواع الحياة، أما العنصر الخامس فهو الذهب، والذي يعبر عن الديمومة، وطول العمر، والثراء، والتحمل لتحديات الحياة المعقدة، ومعالجتها، مع بريق الحياة السعيدة.&
ويشكل التوازن بين عناصر الطبيعة الخمسة سكون عالم الطبيعة، كما أن كل عنصر من عناصر الطبيعة مرتبط بمفهومي "اليو" و "إن" في الثقافة اليابانية، وتعبر "اليو" عن الايجابية، أي عن الشخصية الإيجابية المشعة كالشمس، والعقل الايجابي المتفتح، والشخصية الفعالة المؤثرة في المجتمع. بينما تعبر "إن" عن شخصية سلبية، وهي شخصية تشبه أشعة القمر، شخصية مخفية هادئة، وبتفكير سلبي متشائم للمستقبل، مع ضعف في التواصل الاجتماعي، مع التحفظ والانطواء. والجدير بالذكر بأن كل شخصية طبيعية تحتاج للجمع بين العناصر السلبية والإيجابية، لخلق شخصية متزنة، فالعقل المتفتح الايجابي يحتاج في نفس الوقت للهدوء والحذر من غدر الزمان. كما يعبر عن عناصر الطبيعة المختلفة في الثقافة اليابانية بأرقام سلبية أو إيجابية، فالاشجار لها رقم "1" كرقم إيجابي و "2" كرقم سلبي، والنار رقم "3" إيجابي، ورقم "4" سلبي، والتربة رقم "5" ايجابي ورقم "6" رقم سلبي، والذهب رقم "7" ايجابي ورقم "8" سلبي، بينما الماء رقم "9" ايجابي ورقم "0" سلبي.&
ولو رجعنا لاسم "رنا" والمكون من 26 خطا صينيا، ليعني رقم "2" في الاسم بالخشب السلبي، ورقم "6" في الاسم بالتربة السلبية، لتكون شخصية اسم الطفل المختار شخصية مكونة من قاعدة كوكب الأرض وهي التربة، لتعبر شخصية صلبة القاعدة، مزروعة في تربة بشرية صالحة، وليعبر الرقم "2" عن الشجر، بمعنى أن هذه الشخصية القوية الصلبة محمية بنتاج الشجرة وهي الأخشاب، لضمان مستقبل منزل سعيد، ومحمي من كوارث الطبيعة من شمس قاسية، وبرد قارس، ونار محرقة. فباختصار يتوقع الأهل من اختيار أسم "رنا"، والذي يحتوي على 26 خطا صينيا، بأن تكون شخصية هذا الطفل المستقبلية شخصية تجمع المواهب التالية: النجاح في قمة العمل، وبشخصية محبوبة، ولها شعبية كبيرة، ولديها قدرة ادرية واقتصادية متميزة، وتملك قلب كبير، محب لمساعدة الضعفاء، ومقاوم لشراسة الاقوياء، وهي شخصية صادقة، وذات شرف رفيع، وضمير نقي. بينما تجمع هذه الشخصية سلبيات تعرضها للغيرة والحسد، لذلك عليها أن تكون حذرة من الحظوظ السيئة المرافقة من المشاكسين.&
وحينما يولد الطفل، تأخذه العائلة اليابانية إلى ضريح "الشنتو"، وهي الديانة القديمة لليابان، للتبرك بوضع رداء أحمر حوله. ويعكس هذا الرداء الأحمر مفهوم تهيئة الطفل للتعامل مع تحديات الحياة المستقبلية بنجاح. وحينما يبلغ الكهل الخامسة والستين من عمره، وهو عمر مرحلة التقاعد عن مسئوليات العمل في اليابان، يقوم الفرد بترتيب احتفالية يلبسه فيه اصدقائه رداء أحمر. ويعبر هذا اللون الأحمر، عن بدأ مرحلة جديدة في الحياة، أي ولادة مرة ثانية، لمعالجة التحديات الجديدة بعد التقاعد. ويرجع رمز اللون الأحمر في اليابان للثقافة البوذية، حيث كانت تبني الكثير من المعابد البوذية في أعالي الجبال، وتقوم الثيران بنقل الاخشاب من وسط الغابة إلى علو الجبال. وتتعرض هذه الثيران لتحديات كثيرة، وهي تتعامل مع الصعود لمرتفعات شاهقة، وعلى ظهرها أوزان ثقيلة من الأخشاب، بل كانت الكثير من الثيران تموت بسب الإرهاق، والثور الذي يصمد في هذه المهمة الصعبة يعتبر ثور قوي وناجح. ولذلك يعبر عن التعامل مع تحديات الحياة بنجاح في الثقافة اليابانية، بدمية خشبية حمراء اللون، ولها رأس ثور متحرك.
فقد أصبحت ثقافة التقاعد الإيجابية مفهوم مهم في مجتمعات اليوم، بعد أن أرتفع متوسط العمر في بعض الدول للثمانين عاما، بل يتوقع العلماء البريطانيون بأن الطفل البريطاني التي يولد اليوم لأن يعيش مائة سنة. ومع أن متوسط عمر الفرد يصل الأربعة والثمانين عاما في اليابان، ولكن هناك الملايين يعيشون فوق المائة عام. كما أنه من المتوقع أن تتجاوز بعض المناطق الأسيوية متوسط العمر إلى 95 مع قبول عام 2050 كتيوان، وهونج كونج، واليابان. وطبعا، مع زيادة متوسط العمر ستزداد كلفة الرعاية الصحية، فلو فرضنا بأن علاج الفرد في الثلاثينيات من العمر يكلف 100%، فتزداد الكلفة بعد سن 65 إلى 900%، اي لتسعة أضعاف. وطبعا تترافق كلفة هذه الرعاية مع كلفة الرعاية الاجتماعية، بدون أن يقدم المتقاعد أي عمل منتظم للمجتمع، وبذلك تزيد الكلفة المجتمعية بشكل كبير مع زيادة عدد المتقاعدين.
ويبقى السؤال كيف يمكن أن يهيئ المجتمع الفرد المتقاعد لان يولد من جديد، لكي يلعب دورا في سعادة المجتمع وازدهاره؟ وقد تبدأ هذه الثقافة مع بدأ نمو الطفل، بل يجب أن تبدأ مع العملية التعليمية، بمعرفة الفرد بأنه من واجبه أن يعيش نمط حياة صحية، من توازن الأكل الصحي، القليل في السكريات والشحوم واللحوم الحمراء، مع وجبات تحتوي على الخضروات والسلطات واللحوم البيضاء. ولنتذكر بأن ممارسة الرياضة مهمة، لأنها تحرق السعرات الحرارية الاضافية، وتزيد من زيادة الجزء الصحي من الشحوم البروتينية في الدم، والتي تحمي من انسداد الشرايين، لتقي من الجلطة القلبية، والسكتة الدماغية. كما بينت الأبحاث الطبية بأن تقلص العضلات بالرياضة تزيد من إفراز هرمون، يشبه هرمون النمو، المسئول عن نمو الطفل. وزيادة هرمون النمو في الجسم يحافظ على الشباب ويؤخر الشيخوخة وأمراضها. كما أن القلق والضغوط الحياتية هي من أخطر أسباب الشيخوخة، حيث تزيد من إفراز هرمونات الأسترويد، والادرينالين. ليؤدي هرمون الأدرينالين لزيادة تقلص عضلات الشرايين، ليسبب زيادة الضغط فيها. كما تؤدي هرمونات الاسترويد لزيادة حرق المواد البروتينية والتي تتركز في العضلات، كما تزيد من تجمع سوائل الجسم لحبسها ملح الصوديوم، مما يؤدي لزيادة ضغط الشرايين، والذي يؤدي لتلف الكثير من شرايين القلب والكلية المخ، ليسبب انفجار الشرايين وانسدادها. كما يؤدي زيادة الادرينالين لزيادة مقاومة عمل الانسولين، مما قد يسبب مرض السكري. ولنتذكر أيضا بأن التدخين، وشرب المشروبات الكحولية، تبكر الشيخوخة، وتزيد من نسب الامراض السرطانية. كما أن التزمت والتطرف، والصراعات الايديولوجية والسياسية، تبكر الشيخوخة، وتقصر العمر، بينما يؤخر التناغم والتعاون والتالف المجتمعي الشيخوخة، بينما تطول الابتسامة والسعادة الشبابية. ولنا لقاء.&&
&