من المعروف في عالم السياسة ان القيادات في دول العالم، وخصوصا في الولايات المتحدة، تتأثر الى حد كبير بما يقدم لها من دراسات وابحاث سياسية وفكرية تقوم بإعدادها مراكز الأبحاث السياسية والفكرية (Think Tanks). وقد انتشرت هذه النوعية من المراكز في الولايات المتحدة بشكل كبير منذ بداية السبعينات من القرن المنصرم، حيث زاد عددها على 1200 مركز ومؤسسة اغلبها غير ربحية، وتضم هذه المراكز مجموعة متخصصة من الأكاديميين والسياسيين الذين يشتركون في الاهتمام بمجموعة من المواقف والقضايا السياسية العامة، ويعملون بجد من اجل التعريف بهذه القضايا وتأمين الدعم والتأييد الرسميين والشعبيين لها، وقد ظهر تأثير هذه المراكز في صناعة القرار المرتبط بالسياسة الخارجية الأمريكية بشكل واضح وملموس في السنوات الأخيرة.

ويقسم الباحثون المراكز الفكرية في الولايات المتحدة الى ثلاثة أنواع. النوع الأول: الجامعات من دون طلاب، أي المؤسسات التي تقدم الأبحاث الأكاديمية المتخصصة في القضايا السياسية، ومن أبرزها "مجلس العلاقات الخارجية" المتخصص في دراسات المشكلات التي تواجه المجتمع الأمريكي داخليا وخارجيا وتقديم الحلول لها، وتصدر عنه دورية مشهورة كل شهرين هي "شؤون خارجية – Foreign Affairs".

النوع الثاني: مراكز الضغط السياسية، وهي المراكز الفكرية التي تستخدم الدراسات والبحوث والوسائل الأخرى كطرائق ضغط مباشر على الإدارة الامريكية للتأثير في صناعة القرار السياسي، ومن اهم هذه المراكز "مؤسسة التراث" التي ارتبطت بالتيار المحافظ في عهد الرئيس "ريغان"، وكذلك "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الذي يضم من بين اعضاءه نخبة من الشخصيات السياسية البارزة من بينها الداهيتان "زبيجنيو بريجنسكي" و "هنري كيسنجر". 

النوع الثالث: مؤسسات الضغط السياسي الفكرية الخاصة بالشرق الأوسط، واهمها "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" الذي يتبنى الدفاع عن المصالح الإسرائيلية، ودفع قضايا واهتمامات إسرائيل في الإدارة الامريكية، وكذلك "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" الذي يعمل كغطاء لإسرائيل في المجالات العسكرية والاستشارات الأمنية.

ويتم تمويل معظم هذه المراكز من الهبات والمنح التي تقدم اليها سواء من الأفراد او المؤسسات الخيرية او الحكومة الامريكية التي تتعاقد مع المراكز الفكرية للقيام بأبحاث معينة مقابل مبالغ مالية محددة. وتتميز هذه المراكز بميزانياتها الكبيرة مقارنة بالمراكز في باقي انحاء العالم، ويقدر أحد السياسيين الأمريكيين ان اجمالي الميزانية السنوية لأكبر عشرة مراكز فكرية في أمريكا تتجاوز الـ 500 مليون دولار.

وتتعدد الوسائل والأدوات التي تستخدمها المراكز الفكرية في التأثير في مجريات السياسة الخارجية الامريكية، فعلى الجانب الرسميتقوم هذه المراكز بتقديم الأفكار الى المرشحين للمقاعد النيابية، وكذلك لمناصب الإدارة الحكومية في محاولات مبكرة لاجتذابمساندة المرشحين في حال فوزهم في الانتخابات او الترشيحات الى المناصب الحكومية. كما تقوم بنشر أبحاث دورية مختصرة حول اهم القضايا المطروحة على الساحة، وإتاحة هذه الأبحاث وايصالها الى صناع القرار السياسي في الإدارة الأمريكية، إضافة الى ورش العمل التي يشارك فيها عدد كبير من السياسيين والأكاديميين لوضع مشروع "التصور العام لسياسة الحكومة المقبلة تجاه الشرق الأوسط". وتعد هذه الدراسة بشكل جيد وتقدم الى الإدارة الجديدة مرفقة بتزكيات الشخصيات السياسية المرموقة في أمريكا مما يعطي الدراسة قيمة سياسية كبيرة.

يقول الدكتور "روبرت كرين" مستشار الرئيس "نيكسون" في أثرهذه المراكز في السياسة الخارجية الامريكية: "تلعب هذه المراكز دورا مهما في الانتخابات الرئاسية فضلا عن انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، إلا ان دورها في الانتخابات الرئاسية أخطر ولا يستطيع رئيس امريكي الآن او مستقبلا الوصول الى مقعد الرئاسة من دون مساعدة هذه المراكز".

اما تأثير هذه المراكز في الرأي العام الشعبي الأمريكي فهذا يتم عبر وسائل الاعلام المختلفة، حيث يدعو كثير من المراكز الفكرية الباحثين فيها الى الكتابة في الصحف والمجلات والدوريات السياسية والعامة. كما تقوم هذه المراكز بإرسال البحوث المختصرة واوراق ورش العمل الى الصحف الكبرى لعرضها للنشر في هذه الصحف، مما يكسب المراكز الفكرية شعبية كبيرة لدى عامة الناس، وفي كثير من الأحيان تنجح المراكز الفكرية في تغيير قناعات ومواقف الرأي العام الأمريكي تجاه قضايا معينة بما يتطابق مع وجهة نظر هذه المراكز.

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، زاد ظهور الآراء المعادية للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة والدول الأوروبية بمقدار ازدياد تأثير المراكز الفكرية على الشئون الخارجية وفي مجريات الأمور في الشرق الأوسط، وكان من الواضح أيضا أن هذا العداء انعكس في دراسات منتسبي هذه المراكز وأبحاثهم وآرائهم. ولم يقتصر الأمر على النقد والتجريح لكل ما يرتبط بالعرب والمسلمين داخل الولايات المتحدة وخارجها، بل كان لدراسات الشرق الأوسط نصيبها في ذلك مادام نتاجها الفكري والبحثي ومواقف خبرائها تتعارض أو لا تنسجم مع تلك التي تخص أنصار إسرائيل والصهيونية، وهو حال مؤسسات "كمنتدى الشرق الأوسط" "ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى".

على الرغم من ان الساحة الفكرية الامريكية تزخر بالمراكز الفكرية التي تمثل التوجهات الفكرية والسياسية كافة، فإن الوجود العربي والإسلامي في هذا المجال لا يزال محدودا جدا، ويرجع ذلك الى عدة أسباب، أهمها: قلة الموارد المالية وندرة القدرات الفكرية المتميزة القادرة على مخاطبة الرأي العام الأمريكي باللغة التي يفهمها. السؤال: لماذا لا تعمل الحكومات العربية والإسلامية على دعم المراكز الفكرية العربية والإسلامية القائمة حاليا، وانشاء المزيد منها لتعمل لصالح قضاياها وخصوصا بعد ان أصبح للمواطنين الأمريكيين من أصول عربية وإسلامية ثقل انتخابي في عدد من الولايات الأمريكية المهمة؟ 

المصدر: مجلة المستقبل العربي – العدد 369 – نوفمبر 2009م. "أثر المراكز الفكرية في السياسة الخارجية الأمريكية" – الأستاذ باسم خفاجي، مدير المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب.