لم يشهد عالمنا منذ الحرب الغربية (العالمية) الثانية فوضى عارمة في المفاهيم والأحلاف والعقائد الفكرية كما هو الحال اليوم. وباستقراء التاريخ القريب نعلم مثلاً أن الاستقرار النسبي عالميًا كان ثمرة فكرتين رئيستين هيمنتا على المناخ السياسي والاقتصادي والعسكري العالمي وتحكمت (على مر عشرات السنين) في الأمصار والمصائر وهما الشيوعية (بمدارسها) والليبرالية (بأفكارها). وفي النهاية انتظم ونظم الفكر الليبرالي العلماني حياة الغرب ومعظم الشرق متأرجحًا بين اليمين واليسار السياسي، ثم تلاشت معظم المدارس الشيوعية واضمحلت الفروق الكبرى بين اليسار واليمين ولم تعد تسمع صداها سوى أيام قرع طبول الانتخابات مع نفاق واضح لجذب أنصار كل معسكر دون ثبات للمبادئ.

وعلى بقايا صراع الغرب (الولايات المتحدة) على ظلال زعامة العالم مع القُوَى الصاعدة ظهرت مشكلات عالمية تطلبت تشاركاً عالمياً يعلو على السياسة ولكن القُوَى الكبرى المنهكة أخلاقياً وعسكرياً واقتصاديًا لم تستطع رص الصفوف. نعم لم تستطع مخاطر كبرى لم شمل الخصوم مع فداحتها مثل كوفيد 19، وانفلات الأسلحة البيولوجية، وانتشار الأسلحة الفتاكة، فضلًا على مشكلات البيئة والاحتباس الحراري والهجمات السيبرانية.

إن ما يحدث في أوكرانيا وما حدث ويحدث في الأراضي الفلسطينية لهي مشاهد مؤسفة لتبعات فوضى السياسة العالمية، إذ لم تنجح كل جهود المعسكرات المتناقضة في فرض السلام وإحقاق الحق بل فضلت إدامة الصراع لأن الحلول تعني الانتقاص من هيبة طرف قوي مقابل طرف منافس. هناك أوكرانيا رمز لهيبة روسيا ومقاومة الغرب، وهنا فلسطين بقية البقايا لسياسات الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط. ومع أن الصين تتثاءب بحذر بحثاً عن مساحة تتوازى واتساع الطموح وفراغ المسرح، والهند إلى جوارها تنفض الغبار عن أحلام قديمة، وطموحات جديدة ولكن هذين البلدين الضخمين يتسلحان حتى الآن بالعناد لا بالتعاون ما حال بينهما واقتسام الأسواق وتعبئة الفراغ السياسي الذي سيمتلئ بالتناقضات الكبرى مع الانسحاب الغربي الطوعي والإجباري من مناطق نفوذ ملأها ظلماً وجوراً ومزج العداوات فيها بعمق ثراها قبل سمائها.

ويشكل عام وبناء على دراسات وتحليلات يمكن أن نقول إن القوى التي أنشأت النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت في مواجهة القُوَى الجديدة التي تتحدى هذا النظام ما سيعطي ثلاثة سيناريوهات محتملة. الأول إطالة عمر النظام الدولي الحالي بسياسة التنازل والابتزاز، أو النموذج الثاني الذي ستكون الكلمة الأولى فيه للقوى الصاعدة والتي ستعزز نشوء نظام عالمي متعدد الأقطاب. ويبقى السيناريو الثالث وهو الأخطر وهو غلبة الفوضى على العالم نتيجة الانهيار الاستراتيجي في المنظومة الدولية. ولكل سيناريو ما يقوي احتمالات وقوعه وتبقى عناصر ثلاثة مهمة وهي الاقتصاد والموارد والأسواق المؤثر الأكبر في تشكيل إرادة الدول والشعوب لدعم هذا السيناريو أو ذاك.

  • قال ومضى:

ما هو أسوأ من تزوير التاريخ أن يدونه من لوثوا صفحاته..