في خضم الاحداث التي تتالت على العراق، من حرب تحريره من سلطة صدام، الى قيام عصابات القتل والاجرام، ومجموعات الملثمين، باعمالهم المشينة من تفجيرات السيارات المفخخة واطلاق القنابل كيفما كان الاتجاه، المهم لديهم القتل والقتل ولاجل القتل، كانت اغلب القنوات الفضائية العربية تقوم بنقل الصور من الارض مباشرة لاشلاء الجثث والدماء، كنت احاول تجنيب اطفالي هذه المناظر البشعة، واحاول ان اشاهد الاخبار برغم ان البث كان مستمرا وهذه المناظر البشعة تملئ شاشات التلفاز ليل نهار وتصدم الانسان السوي، الا انني وبحكم تتابع الاحداث، ومأساويتها
ما كنت بقادر على عدم البحث عن كل ما يحدث عن كل جديد واعتقد ان هذه كانت حال اغلب العراقيين، باحثا عن الخبر وسبب الاحداث، فشعوري انها كانت عمليات اجرامية، الا ان الانسان يظل يبحث عن ما يؤكد قناعاته، في ظل هذه الاجواء المحموة والمتتابعة، دخل على ابني (كشيرا) والبالغ ثمانية سنوات، ودون ان اتمكن من ادارة القناة، لكي ابعد المشاهد المقززة التي كانت احدى القنوات العربية تبثها، فشاهدها، وبادرني بسؤاله المحرج، الا تخجلون من مشاهدة هذه الاشياء؟ وكان يقصد مناظر الاجساد المهترئة بفعل سيارة مفخخة والدماء التي كانت تغطي كل ما في الصورة.

نعم يا بني لقد تبلدت احاسيسنا، لقد فرض الارهابيين جدولهم واجندتهم علينا فرضا، لسنا من هواة مشاهدة امثال هذه المناظر، ولكنهم فرضوها علينا، ليس اليوم يا ولدي بل منذ زمن بعيد، يا ولدي من عمري البالغ خمسون سنة، لم ارى بلدي مستقرا الا سنوات تعد باصابع اليد الواحدة، يا بني، وعمري اربع سنوات، حدث انقلاب 14 تموز، وقتل من قتل وسحل من سحل، ولكن القتل والسحل استمرا في العراق، فمن شواف واعماله الى المقاومة الشعبية وجرائمها، في عام 1961 استولى الجحوش على قريتي واحرقوها، انها لم تكن مع المعارضة ولم تكن مع الحكومة، كانت قرية وديعة، اهلها فلاحين بسطاء، واحرقت قريتي، وقتل فيها من قتل ولاول مرة عرفت معنى القتل وعرفت القتلى، وتم سلب القرية وكل مافيها وخرج من بقى فيها سالما بعد دفع مبالغ من المال، او ما كانوا يحملونه من الاشياء الثمينة، اي خرج سالما من افدى نفسه بشئ، وتتالت اخبار القتل، شبان من عمر الورود يقتلون في الحرب الاهلية المندلعة بين الاكراد والحكومة، ونحن كنا ندفع ضريبة القتل مع الاثنين، وضريبة الشك في الولاء بين الاثنين.

يا بني ووالدك لم يفرح بتخرجه، وبدء اعتماده على التفس، الا وصدام يشعلها حربا طاحنة، حرب شعواء وقودها اجساد شباب كان كل الامل بهم، خمسون الف من بين ابناء شعبك يا ولدي ذهبوا ما بين قتيل وجريح، والكثير الكثير من بين ابناء شعبك العراقي، في كل هذه المعمة، ووالدك يشاهد في الجبهات القتلى، وفي الاجازات التي كانوا يمنون علينا بها، يقضيها في اداء واجب العزاء، من يومها صار الموت لدينا رخيصا، خلال خمسة ايام ما بين كل اربعين يوما يا ولدي قسمناها نهارا لاداء واجب العزاء باصدقاء واقارب سقطوا قتلى، وليلا للترفيه، ولم يعد ترفيهنا مسرحا ولا كتابا، وهل نضمن العودة، فصار العرق العراقي الزحلاوي
والمستكي رفيقا، يا ولدي ضقت ذرعا بالبعث ومحاولاته، ونحن امام الموت لفرض نفسه علينا بدون رغبتنا، وبمهمة من اصدقائي ورفاقي، اخترت الانتقال الى الطرف الاخر، الى المعارضة المسلحة، ويوم وصولي الى المنطقة الخاضعة للمعارضة، شعرت ان كابوسا ثقيلا رفع عن كاهلي، ولكن يا ولدي، كان هنالك ايضا القوي والضعيف، ورأيت من ابناء قومي من شعر انه قوي وخاول فرض اجندته ورؤياه على ابناء قومه، ومن الجهة الاخرى، لم يتوقف منظر الجثث، فصدام زرع الدم والقتل والجثث اينما طالت يداه، فبالاضافة الى عملائه الذين كانوا يقومون بقتل كل من تطاله يدهم، كانت المدفعية المسماة النمساوي تدك القرى التي كنا ملتجئين اليها، وتزرع الارض جثثا، وكانت السمتيات تستهدف كل ما يتحرك، يا ولدي لم يرحم صدام الاطفال، عندما ضرب مدرسة زيوا في ايران، لم يقتل اي مقاتل قتل اطفال، كانت اشلائهم تنقل محمولة بالايادي لكونها مقطوعة الى قطع صغيرة، لم يعرفوا لمن تعود هذه القطعة او تلك، وحرب تلو حرب، لم يكن وقودها غير البشر، يا ولدي اعذرني، لو كنا ابدينا اشمئزازت لما بقينا احياء، كانوا يقولون من يبدي اشمئزاز لمرأى الجثث، فهو ليس من الرجال، واعذرني لانك قد لاتفهم ما يعني ذلك، ولا اريدن ان تعرف، لقد حددوا لنا مقايس الرجولة، ملبس غامق، شارب كث، ونظرات حادة، ووجه صارم، والابتسام خنوعة، ياولدي تحدثني عن الطبيعة وواجب حمايتها، انهم يعلموك اشياء جميلة وضرورية لمستقبلكم، ولكن اتدري ان صدام وزبانيته كانوا في كل شهر ايار يدكون الجبال بالمدفعية، لكي يتم حرق كل ما هو اخضر، يا بني اعذرني، فبلادة المشاعر، لم تاتينا بين ليلة وضحاها، لقد تعرضنا لعملية غسل ادمغة، ارادونا ان نكون شيئا واحدا، كلنا من نوع واحد وبصورة واحدة، ارادونا ان نكون مشاريع لزرع الموت اين توجهنا، انهم فهموا ان القوة والصرامة تجلب الاحترام، ولكن اي قوة، قوة من يتلذذ بتعذيب الضعيف، وكانت القوة مسلطة علينا فقط، على من هو منا، الم تشاهده، ذالك الذي كان قد زرع الرعب، ليس في قلوب العراقيين فقط، بل في قلوب كل منطقة الشرق الاوسط، الم ترى اين وجدوه، لقد كان مختبأ في جحر الفئران، خائفا مثل الجرذان، ولكنه وابناءه كانوا علينا جبابرة عتاة، افهمت يا ولدي من اين اتتنا بلادة الاحاسيس؟

ان ورثته يزرعون الموت في بلدي، وانا متهلف لمعرفة اخبار اهلي، فاعذرني يا ولدي، ليس لدي وسيلة اخرى، الا هذه، برغم من تلذذهم بدمائنا.