ترعة الفرخة! أطلق ذلك الاسم المضحك على فرع من ترعة المحمودية يغذي الإسكندرية. والترعة تنتهي في زاوية من حي محرم بك أطلق عليها أكثر من اسم من ضمنها عزبة الفرخة، ومن أشهر الأسماء التي أطلقت عليها اسم "عزبة البرابرة". اسم ساخر ينطقه الكثير في حسن نية وتلقائية أحيانا وقصدية متعالية أحياناً. وهذا الاسم هو الذي رضت به الجهات الرسمية في دفاترها فدونته. عام 1944 دخلت عالم الشهادة من خلال هذه العزبة التي تحوي كثافة نوبية سمراء، وعليه تم إطلاق هذا الاسم المشار إليه. والعزبة بيوت أغلبها بالأحجار ولا تعلو عن دورين، لكن تواجد فيها أربع أو خمس ناطحات سحاب عَلَتْ حتى وصلت إلى أربعة وخمسة أدوار خلال حقبة الخمسينيات! وعزبة البرابرة أخذت شكل مثلث متوازي الأضلاع، الضلع حوالي نصف كيلو. الغربي منه سور ترعة الفرخة العالي الأنيق "حوالي مترين"، والشرقي سور جنينة سجن الحدراء "مترين" أحجار وطين يبنيه ويرممه المساجين أنفسهم ولهذا كان قبحه وسقوط أجزاء منه كل فترة ليعمل في ترميمه المساجين. والسجن القائم في الجانب الآخر من الجنينة، عبارة عن مباني صفراء مستطيلة عالية جداً بالنسبة لبيوت هذا الوقت. أما الضلع الشمالي للعزبة فهو سور السكة الحديد حوالي ثلاثة أمتار بالدبش. إذن من أين يدخل سكان هذا الحي المثلثي ويخرجون؟ ثلاثة مداخل أيضاً، كل مدخل وكأنه زقاق صغير ضيق. ضلع ترعة الفرخة بالقرب من تلاقيها بضلع سور السكة الحديد بها كوبري هو أنبوب حديدي،سلكي شبكي من أعلاه، يفضي لمنطقة راقية من مناطق محرم بك. وسور السكة الحديد بالقرب من تلاقيه بضلع سور السجن، بها ممر ضيق حوالي مائتي متر. جانب منه سور جنينة السجن والجانب الآخر تشغله أبواب شقق متواضعة لعمال السكة الحديد، ويفضي هذا الممر الضيق إلى خطوط السكك الحديدية لينطلق منه العاملين لمقار أعمالهم. على رأس المثلث حيث يتلاقى ضلع سور جنينة السجن مع سور الترعة، يكون ممر وكأنه قد قُسم لممرين يفضيان إلى منطقتا غيط الصعيدي وأمبروزو حيث مساحات من الزراعات وحديقة شاسعة للأمير عمر طوسون.
هاجر النوبيون الأوائل من قراهم إلى مدن مصر الكبرى بداية من عام بناء الخزان 1902وتكاثفوا بعد التعلية الثانية للخزان 1932. فلاحين نيليين داكني السمرة فقراء لسانهم نوبي. هبطوا مدناً تختلف تماماً عن قراهم، فنالوا صدمة كبرى أسبابها من وجهة نظرهم:
1-مدن ضخمة وزحام كثيف لا يعرف بعضه بعضاً.
2-بشر لونهم فاتح "أبيض نسبياً" ويتعالى الكثير منهم على اللون الأسود.
3-لغة مختلفة وإن كانوا قد عرفوا بعض مفرداتها في قراهم النوبية.
4-اختفاء النيل.
إجمالاً صدمة مكون ثقافي مختلف. مع البطالة وعدم وجود مهنة الفلاحة التي يتقنونها بأسلوبهم دفعهم لأعمال الخدمات مثلهم مثل بقية الآتين من قرى مصر، وإن تخصصوا هم في أعمال حراسة البيوت والطبخ وإعداد الموائد والخدمة عليها، وكانت هذه الأعمال الخَدَمية هي أفضل الأعمال بالنسبة للآتين من الأقاليم، فغير النوبيين كانوا يعملون في أعمال الشيالة وجمع القمامة والصرف الصحي وشغل الفاعل، وكانت هذه الفئات بما فيهم عمّال السكك الحديدية، كانوا بتلمظون على العمل كبوابين أو سفرجية وطبّاخين، لكن كان النوبيون والسودانيون هم المطلوبين لهذه الأعمال، والأسباب عديدة، منها ميل النوبيون فطرياً للنظافة والأمانة والصدق وبعدهم عن العنف وقدرتهم على الحب عموماً. وحين تعامل النوبيون مع أهل المدن وجدوا فيهم المماطلة والأسلوب الحلزوني غير الصريح والتجبّر عندما يتمكنون من اعتلاء مركز أو ينجحوا في جمع شبة ثروة مالية. داهم النوبيين المهاجرين الشعور بالخوف وضياع الأمان وفقدان الثقة بالنفس والشعور المركب بين شد وجذب التفاخر بخصوصيته والإحساس بالدونية، بالإضافة إلى تأصل مرض الحنين إلى الموطن النوبي.
لَفَت نظري اختيار النوبيون لسكنى عزبة الفرخة. فالذي اختار المكان وكأنه قائد عسكري حكيم يتوقع هجوماً على قومه، فأسكنهم شبه قلعة محصنة مداخلها ضيقه ممكن التحكم فيها! والترعة تمثل النهر وهم نيليون بالإضافة لأنها مجرى مائي معوق للمهاجمين مع قرب العزبة من أماكن العمل، ثم تجمعهم سوياً ليأنسوا ببعضهم وليصيروا قوة ضد الغير ويساعدوا بعضهم بعضاً فالبطالة متفشية فيهم والفقر والخوف. إنها احتياجات نفسية نوبية دفعتهم لاختيار أمكنة متشابهة في بعض البنود ليقطنوها. فمثلاً يوجد تجمع كبير آخر في أقصى جنوب منطقة غربال، السبب.. أن ترعة المحمودية قريبة من هذا المكان، وكانت النساء النوبيات في بدايات وصولهن يذهبن إلى المحمودية ليلقين بعض اللقيمات فيها تودداً لـ.. (آمون نتو). وآمون نتو بالنوبية هم ناس النهر الذين يسكنوا مجرى النيل في النوبة الأصلية، ويعتقد النوبيون بتواجد صلة بينهم وبين هذه الكائنات، والنوبيات خاصة كن يلقين إليهم لقيمات من عصيدة في مناسبات عائلية ودينية.
يوجد تجمع ثالث في شارع الفراهدة، والسبب أن مديرية الأمن بجوارهم، أي البوليس كله بجوارهم ليطفئ خوفهم الكاوي وقلقهم العميق. وتجمع بدأ في الخمسينيات في منطقة سيدي بشر قبلي، أي قبلي خط شريط السكة الحديد –لاحظ "قبلي وبحري" وتقاربهما من مدلول التخلف والتقدم، الفقر والغنى في مفهوم "جنوب وشمال" العالميان-. وكان تساؤلنا نحن شباب الستينيات الذي وُلدنا في الإسكندرية.. لماذا ذهب أقاربنا إلى قبلي ولم يسكنوا بحري السكة الحديد حيث البحر والجمال والخدمات علماً بأن أسعار الأراضي تكاد تكون متساوية؟ كنا نسخر من غباء آبائنا، لكن بعد ذلك فهمت عذرهم وغباء جيلي الذي لم يحاول أن يتفهم نفسية الآباء الذين تلقوا صدمات الشتات والغربة واختلاف البيئة وحرقة الحنين للموطن. فبحري السكة الحديد معناه الاقتراب من البحر، والبحر في وجدانهم النوبي هو الرطوبة والمرض، هو النوات العاصفة. أما قبلي السكة الحديد فتترامى كثبان الرمال وعليها البيوت المنفصلة عن بعضها ولا تزيد عن دور واحد أرضي، والبدو في ذهاب وإياب بقطعانهم ونثريات من النخيل، أي مكان يشبه بيئتهم النوبية رغم افتقاد النيل، وسبب آخر.. الابتعاد عن ملاوعي الكورنيش والجِنّارات، أي العاهرات. أمّا النوبيون الذين اختاروا كوم الدكّة، فكانت أسبابهم تنحصر في سببين رئيسين.. أن كوم الدكّة تقع قبلي شارع فؤاد، وهو من أهم شوارع الإسكندرية والذي في قطاع منه يفصل بين حي كوم الدكة الشعبي الفقير الذي يقع قِبليه وبين حي من الأحياء الغنية الذي يستريح بَحريه ويسكنه الخواجات الأجانب مع البشاوات والبكوات المصريين، وعند هؤلاء يعمل النوبيون في مهنهم المعروفة. والسبب الرئيس الثاني، هو أن قوات البوليس من بُلُك النظام، تتواجد بجوارهم مباشرة. والذين اتخذوا منطقة الظاهرية قبلي امتداد شارع فؤاد كان لتواجد سببين.. أولهم قربهم من فيلات وعمارات الخواجات والبشاوات والبهاوات، وثانيهم أن المنطقة حتى الخمسينيات كان على تخومها كثبان رملية وزراعات وبدو بقطعان أغنامهم والزراعات على بعد قريب.
عندما ننظر لأمكنة تجمعات النوبيين في القاهرة، نجدها تتشابه مع اختيارت نوبيي الإسكندرية لأماكنهم، فأكبر تجمع كان في حي عابدين، وهو يجاور قصر عابدين ولا يبعد عن النيل. أي تواجد مكان العمل مع الأمان "القصر الملكي" والقرب من النهر. وفي بولاق أبو العلا، كان تجمع كبير "قبلي" النهر الذي على ضفته البحرية يقع حي الزمالك حيث الخواجات والبهوات والبشوات. وتجمع بولاق الدكرور وإمبابة القريبان من النيل وحولهما المزارع والنخيل. بهذا نجد بنوداً متكررة تشجع النوبيين على سكنى مناطق معينه.. تواجد النهر والطبقة الأرستقراطية التي يعملون عندها والأمن ثم الكثبان الرملية والمزارع.
نعود لعزبة الفرخة..
في هذا المثلث شبه المنعزل، تفنن النوبيون في بث عاداتهم وتقاليدهم بقدر ما يستطيعون لتكون العزبة أقرب ما تكون لما كانوا يعيشونه في موطنهم الأصلي، ملبس ومأكل وزيارات عائلية كثيفة خاصة في الأعياد، مع استخدام اللغة النوبية فيما بينهم، وبدون سخريات تجابههم. ورقصات الأراجيد (الرقص والغناء الجمعي في الأفراح ) ورقصات الورجيد ( رقص النائحات المصحوب بالغناء الحزين المفجع في الأتراح.) وهي رقصات الملحمية التي كان لها دور كبير في النوبة القديمة ثم تعمق الدور بعد الهجرات المتعاقبة في تجمّعات الشتات، فكانت مساعداً كبيراً لتبديد مخاوفهم من المجهول وترطيب مشاعر القلق مع التلاحم النفسي الجمعي، وهذا سيوضح في عدد من أعمالي الأدبية التي سأرصدها لاحقاً.
وعندما بلغت السابعة من عمري تقريباً، سافرت مع أمي إلى النوبة الأصلية، وكانت رحلة العمر التي ضاعت تفاصيلها وبقيت في قلبي خيالات حالمة رائعة تخايلني وتسحرني وتحزنني.. رحلة على سفينة البوسطة وسط سحر النيل ونحن نحتل رقعة على سطح أحد الصندلين السوداوين وهما جناحا البوسطة –الترسو- أما جسم السفينة الأساسي فهو الدرجة الأولى، بيضاء من غير سوء. على سطح الصندل يغطينا سقف صاج وكل أسرة أو أكثر تصنع لها حيزاً بمتاعها تبقى بداخله. النهر الواسع والجبال تأتي إليه لتحيط به ثم تنفرج عن قرى، ومراكب شراعية، نأتي بالمياه عن طريق كوز مربوط في حبل نلقيه في النيل ونسحبه وقد مُلء بالمياه النقية الدسمة اللذيذة. نصل إلى قريتنا "توماس وعافية" البيوت الواسعة الملونة المزركشة والأبواب المعبدية العظيمة والنيل الهادئ وغابات النخيل وكثبان الرمل الكهرمانية الحريرية والجبل الأشم وونسة عواء الذئب والأقارب السُمر والسود وذوي اللون القمحي حيث نكون منهم تماماً ويكونوا منا.
عدت لعزبة البرابرة بعد شهرين ثلاثة لأرى الفرحة الغامرة على ناس العزبة كلهم لنجاح حركة 1952. وفي المرحلة الإعدادية كان العدوان الثلاثي وضرب الإسكندرية. ثم إذا في الأفراح النوبية الملحمية التالية وقد امتلأ الشارع بالراقصين والراقصات المغنين معاً، إذا بمطرب القرية الأول "فؤاد بطانة" يغني أغنية وطنية ترددها معه الجموع النوبية..
أمريكانجون بَنّو.
إنجليزجون بَنّو.
إسرائيل آدِيّا
تر كانال آدِيّا
ناصِرِ تود توني
فا أدّمون آجيجنا
والمعنى.. (الأمريكان أمرو. والإنجليز أمرو، أن تعبر سفن إسرائيل قناة السويس. لكن ابن ناصر صمم، لن تعبر إسرائيل قناتنا). نشيد وطني في عُرس، تردده جماهير بسيطة ولا كاميرات تصورها ولا ميكروفات ترصدها فنقول أنها تمالئ أو تنافق! ويأتي محمد نجيب وعبد الناصر لزيارة الإسكندرية فيكون النوبيون مع غيرهم في انتظارهما في حشود محبة لهما حباً لا يوصف. يذهب نجيب فنصدق ناصر في مبررات إقصائه لنجيب ونستقبله استقبال الأبطال خاصة بعد حرب السويس.
تشبّعت تماماً بنفسية عشيرتي المركّبة. أذهل وارتعب في كل مأتم ورجيد يقام على نَفْس نوبية رحلت، رقصة الثكلى غاية في الحزن والأسى وكأنها بزوغ حي لرسومات رقصة النائحات الفرعونية. الحزن لاذع الحموضة يحمل هلعاً جمعياً على مأساتهم النوبية. مقابل رقصة الورجيد المأساوية، كانت حفلات المجاميع الراقصة المغنية في الأراجيد التي غُصْتُ فيها، وعشقت أغنية "القمر بوبا" خاصة وهي من أشهر الأغاني السودانية والتي صارت من أهم الأغنيات لدى النوبيين. سمعتها أولاً من المطرب النوبي حسن جزولي في مناطق تجمعات النوبيين، في عزبة البرابرة وفي منشية النوبة بالظاهرية وغيرهما.
فعزبة البرابرة كان ثلثها نوبيون وثلثيها تقريباً من مختلف أنحاء مصر، صعايدة وفلاحين الدلتا، وبها ثلاث بيوت يسكنها أقباط "نصارى" كل بيت يحوي من بابه عدد من الأسر هم أخوة وأخوات بأزواجهم وأطفالهم، ويتميزون باللون الأبيض الناصع والوسامة وأغلبهم يتميز بالنظافة وحسن العشرة. وبها صعايدة أشداء بهم طيبة مخبأة داخل مظهر يميل للعنف والمبادرة بالتخويف وإشهار العصي والسكاكين، وكانوا يشبهون النوبيين في أن ما بداخلهم من شعور يتجسد في صفحات وجوههم. وناس الدلتا بهم اللؤم واختباء النية. وهاتان الشريحتان اهتمامهما بنظافة الملبس والمسكن خاصة، اهتمام زهيد مما كان يساعدنا على التفاخر بأنفسها كنوبيين. ونفس هاتان الشريحتان كانوا ومازالوا يمتلكون قدرة على الادخار تجلب الحيرة للنوبيين الذين يميلون للتبذير بفطرة قديمة فيهم، ومع مرور السنين تقدمت هاتان الشريحتان ليكون منهما رجال أعمال وأصحاب عمارات والنوبيون مازالوا في شققهم المشتركة وميلهم للمأكل اللذيذ والملبس الوجيه. لكن الذي ساعد النوبيين على الصعود في السلم الاجتماعي كان عشقهم للتعليم، فمهما كان فقر رب الأسرة، وربما استمر عام بأكمله خالي شغل إلا من بعض الأعمال المؤقتة، فإنه يصر على أن يكون أولاده خاصة الذكور منهم في المدارس.
والعزبة حوت الكثير من المهن، الصنايعية وأعمال الخدمات والبائعين الجائلين وبعض الخادمات والشضلية، وسكنها بضعة الجِنّارات يمارسن مهنتهن خارج العزبة ثم اضطروا للرحيل لرفض العزبة كلها لهن. وبعض العائلات التي تدعّي أنها سكندرية الأصل ونحن نعلم تماماً أنهم مثلنا من خارج الإسكندرية لكنهم أتوا قبلنا بسنوات طويلة.
حدث مزيج إنساني رائع بين كل الفئات العمرية في العزبة، فنحن كأطفال كنّا نوبيين وغير نوبيين في سبيكة واحدة، والأطفال غير النوبيين عرفوا الكثير من مفردات اللغة النوبية خاصة ألفاظ السباب البشعة، يلعنوننا بها كما نلعنهم. كونا فرق الكرة الشراب معاً لا فرق بين نوبي وجُربَتَي، كل لاعب عليه أن يحضر فانلة داخلية نصف كم، نجمع الفانلات ونصبغها باللون الأحمر فتكون معنا فانلات رياضية عال العال. وفي أول مباراة حامية ننز العرق وتنز الفانلات اللون الأحمر فنصير وكأننا أصبنا إصابات متشابهة قامت بسلخ شرائح من جلودنا وهي التي نزت الدم الذي سال حتى صبغ اللباس –نتصوره الشورت الرياضي" الأبيض وسال على الأفخاذ والسيقان. وفي حفلات الأراجيد كان الأطفال غير النوبيين يشاركوننا الرقص. دائماً معنا في بيوتنا نأكل ونشرب. ولاحظت بعد ذلك أننا كنوبيين نفتح بيوتنا لغير النوبيين ببساطة، لكن العائلات غير النوبية "الجُربَتّية" لم تكن تفعل هذا معنا، إلا نادراً وتحت ضغط أبناءها الذين يصابون بالإحراج، كيف هم داخل بيوتنا ونأكل سوياً وأمهاتنا وأخواتنا البنات يعرفونهم بالاسم ويحادثونهم ويجالسونهم، لكن في بيوتهم لا يحدث هذا؟! والكبار كانوا سوياً في السراء والضراء. مسيحيون ومسلمون. وأذكر أن عُرساً مبهجاً أتى له البوليس وفضّة لأنهم لم يأخذوا تصريحاً من قسم الشرطة، فكان أكثر المتحسرين بيت المسيحيين الملاصق لبيت العُرس، ليس فقط مشاركة إنسانية، بل مشاركة فنية، فهم يستمتعون تماماً بالأغاني والرقصات النوبية. نساؤهم وفتياتهم يبقون لقرب الصباح في شرفاتهم يتابعون ورجالهم وشبابهم معنا في الشارع يتحلقون مع غير النوبيين يتابعون الرقص والغناء. وأذكر أن فتيات الأقباط "المسيحيين" كن على درجة واضحة من الجمال، لكن لم يحدث مطلقاً أن نشأت علاقة غرامية مشتركة. لكن نشأت علاقات نادرة بين فتيات نوبيات وبين شباب الجُربَتّية، وعلاقات أكثر بين شباب نوبي وبنات جُربَتيّة ولم تصل واحدة منها لحد الزواج. بالنسبة لي كان أول حب مراهقة دخلته، هو حبي لفتاة من بيت الشامية، وهو بيت تملكه عائلة مصرية أصلها من الشام وقد سكنّا هذا البيت لفترة، ثم فتاة صعيدية شقراء سكنت معي في بيت آخر. لكن كنا في عمر من 13 لـ 15 سنة. أما الكبار فكانت علاقات أكثر جرأة وعلاقاتهم الجنسية المشتركة وفضائحهم ليست بالقليلة.
أحببت المسيحيين منذ بدايتي في العزبة، مجدي كان من أقرب وأحب أصحابي، ووليام في المرحلة الإعدادية، وخلال عملي بالسد العالي كان فارس الآتي من بني سويف، من أطيب الأصدقاء وأقربهم خاصة أنه في كل رجوع من أجازه يأتينا بدجاج وبط وأوز محمّر. وفي سنوات الجيش كان دانيال رفيق السنوات السبع. ثم خلال مرحلتي الأدبية كان إلهامي بولس، المثقف النبيل والمحب للبشر. وعندما بدأت أتداخل مع الأديب الصعيدي السكندري نعيم تكلا، كان مرضه الأخير ثم وفاته فلم آخذ فرصتي لأفهم نفسه المعذبة القلقة الممرورة. وكانت حيرتي.. هل سرعة اندماجي وصداقاتي مع المسيحيين صدف؟ أم لأنني أحمل خصوصية عرقية ثقافية وهم أصحاب خصوصية عقائدية فكان ميلنا لبعض؟ أم لأننا أقليات عددية نحس بما تحس به الأقليات كلها؟ أم هو تكويني الشخصي الذي لا يأبه بالاختلافات ويعشق التعدد والتعارف؟ وربما اهتمامي بمبدأ مصر أولاً وسخريتي من وضع العروبة كأساس أولي أحادي لمصر، وأكثر من حاورتهم من المسيحيين يوافقونني على هذا الرأي. أم أن الأمر هو توافق شخصي فمثلما أحببت العديد من المسيحيين وأحبوني، أحببت الكثير من المسلمين وأحبوني. أم لأن النوبيين هم آخر شريحة مصرية دخلت الإسلام الحنيف، فهم بذلك أقرب زمناً من المسيحية الطيبة؟ مش عارف.
ونعود لعزبة الفرخة..
في هذا المثلث شبه المنعزل، حيث النساء النوبيات مع الأطفال هم الأغلبية، فالرجال في أعمالهم منذ الصباح ولا يعودوا إلا ليلاً، تجتمع النساء سوياً أمام باب بيت إحداهن يجلسن على حصير ينقين الأرز أو يجهزون الخضروات للطهي. في ركن ظليل صيفاً وتحت شمس في الشتاء. يحكين لبعضهن المتاعب والشوق والحنين للوطن، يحكين عن مآسي أزواجهن والبطالة ويصبرن بعضهن بضعاً. يحكين على التغيرات المقلقة في الأجيال الصاعدة من أولادهن وعدم إقبالهم على اللغة النوبية وتقاعسهن عن الذهاب للهيئات النوبية وعن الزيارات المنزلية لعمّاتهم وأعمامهن وخالاتهم وأخوالهم. وفلان بن فلانة "من خارج العزبة" الشاب الذي خسر ناسه وتزوج من جُربَتيّة، وسوف ترميه هذه الجُربَتيّة حين يصاب بالفلس أو بالمرض، حينها سيعود إليهن كشقيقات ليحملن همه وبؤسه وضياعه. فمنذ متى والجُربَتِيّات عندهن أصل؟ هذه التجمعات النسوية يقابلها تجمعات رجولية في الهيئات النوبية التي هي عبارة عن شقق بسيطة يلعبون الدومينو والطاولة ويخططون لإيجاد أعمال لخاليين الشغل، ويقيمون الوَنَسات مسترجعين الذكريات في نوبتهم الأصلية ويشكون غدر الزمن ولا مانع من الحديث عن النساء البيضاوات وجرأتهن وحلاوتهن التي تصيبهم بالخِبال، وأيضاً السخرية من بعض الرجال الذين تزوجوا منهن فخسروا نوبيتهم وراحوا في ستين داهية الخ. وما لاحظته أن الخوف من الجُربَتيّة لدى النوبيين يفوق كثيراً خوفهم من الذئاب في جبال النوبة! وما لاحظته أنهم نادراً ما يسخرون من الذين يعملون عندهم من خواجات وبشوات وبكوات، فمعظم هذه الطبقة كانت معاملاتها مع النوبيين معاملات عادلة، وهذا لا يمنع أن بعضهم كان فظاً متعالياً وقحاً بخيلاً، وكان العاملين عنده من النوبيين سرعان ما يترك العمل في أول فرصة. لكن بعد ذلك بسنوات، حينما انهارت هذه الطبقة الأرستقراطية وصعد مكانها انتهازيو انقلاب 1952، سمعت من كبار السن النوبيين سخرياتهم من هذه الطبقة، فقد كان الانتهازيون محدثي نعمة، سرقوا متاع الطبقة الأرستقراطية ومحال أقامتهم ومحلاتهم وشركاتهم، فاغتروا وعاملوا العاملين عندهم بتعالي وقح وعنصرية أشد وقاحة، رغم أن أغلبهم لم يكن يستطيع أن يجلس على سُفرة رسمية أو يستطيع أن يعرف أسماء الوجبات التي يعدها لهم الطباخين النوبيين! وربما كان هذا أحد أسباب تجبر وتعاليهم حتى يداروا جهلهم ووضاعة أصلهم. ومن بقى من النوبيين في هذه المهن ترك المهنة حتى لا يعمل مع "الأرابادِس" أي ولاد العرب. وأظن أن هذا الاسم كان منتشراً عند شريحة من الأجانب ويقولونه باستخفاف على أولاد البلد. فتجد الآن أن البوابين أغلبهم من أبناء أقاليم الصعيد وبعضهم من أقاليم بحري، عدا القليل من العمارات التي مازالت تحتفظ بأرستقراطيتها. والآن صار السفرجية والطباخين هم خريجي معاهد الفنادق. وأذكر أن أحد أقربائي في هيئة نوبية سكندرية "الدر وتنجالة" كان يقدم الشاي لمديره في الشركة وضيوفه. وكان أحد الضيوف لواء شرطة سابق. اللواء أحب أن يستخف دمه وسط الجلساء، فقال لقريبي ساخراً ما معناه لماذا تركتم شغل آباءكم البوابين؟ فأجابه قريبي.. تركناها للواءات. انكتم اللواء، والمدير حول الموضوع لناحية أخرى. كان قريبي يقصد أن شركات الحراسة الآن والتي تحرس العمارات والفيلات كبوابين موديرن، الكثير من أصحابها من اللواءات. فكان رده مفحماً وأعجبني، ودائماً ما أحرض النوبيين على أن يكونوا حادين غلاظ مع أمثال هذه اللواء الوقح.
ومن ضمن ردودي وردود غيري على وقاحات البعض منّا، أن أؤيده على أبي كان بواباً وطباخاً وسفرجياً، لكن ماذا كان يعمل أباك وقتها؟ زبال، شيال، بتاع مجاري، بائع متجول، قواد للإنجليز وغيرهم؟ ثم كان أبي عمل في هذه المهن داخل الفيلات وفي العمارات الكبيرة، فمن كانت الخادمة؟ أليست أمك؟ ومن من السيدات التي كانت تريح فحولة الإنجليز بجسدها؟ هل من الضروري أن أقول أم فهمتها وحدك؟ فمعروف أن النوبيات وسيدات الصعيد لم يعملن أبداً في هذه المهن، والسوداوات التي يشاهدهم البعض في الأفلام يعملن في الفيلات والقصور، لسن نوبيات، هم من الجنوب الأفريقي أتين لظروف معينة. وللعلم كن في منتهى الأدب والنظافة والأخلاق والأمانة.
كنّا أطفال، أغلبنا حفاة بجلاليب وبيجامات لا تترك أجسادنا إلا بعدما تشكو من الهري وغلبة الترقيع عليها، وتتبدل بالجديد في وقفتي عيدي الفطر والأضحى، ففهيما نلبس جلباباً أو بيجامة جديدة، أما في العيد نفسه فالبنطلون والقميص والحذاء، كسوة كاملة تحمل العائلات همها وكثيراً ما تفشل في استكمالها.. فيستكفي الطفل منا رغماً عن أنفه ببنطون أو قميص أو حذاء لأن والده خالي شغل، وبكاؤه لأمه وشكواه ورجاءاته تضيع في الأفق الواسع فيمر العيد فاتراً. خلال لعبنا في العزبة كلنا حفاة كما أشرت، ولما كبرنا قليلاً وضعنا في أرجلنا القباقيب الخشبية. لكن حين نلعب ونتضارب ونلعب الكرة الشراب، فعلينا ركن القباقيب حيث تحدث بعض السرقات لمجرد الشقاوة وللاحتياج أحياناً. وحين العراك تنتقل القباقيب من الأرجل للأيادي كسلاح جد خطير، وقد تعلمنا من طفل أتي حديثاً من الأرياف البحرية هذه الحركة وكانت اكتشافاً مذهلاً. فعندما كان يتم حصار هذا الطفل، بسرعة يمسك بجوز القباقيب كل فردة في يد، ويهدد كل من يقترب منه، فشبهناه ببطل أفلام الوسترن وقتها "أودي ميرفي" الذي كان شاباً صغيراً ويسحب مسدسه سريعاً ويستطيع اللكم ببراعة، لدرجة أنه تغلب في أحد أفلامه على "لي مارفن" الطويل القوي، ذلك الحرامي الناشف "كناية عن زعيم العصابة أو الشرير الخطير". تعلمنا نحن أيضاً خطورة سلاح القباقيب وقد نال بعضنا ضربات منه. وبعدما كبرنا قليلاً قرأنا وسمعنا عن شجرة الدر التي ماتت مقتولة ضرباً بالقباقيب! ضحكنا فنحن نعلم أن القباقيب سلاح قاتل وليس فقط لتدليل الأقدام.
قفزت مع أقراني سور ترعة الفرخة وسبحنا في الترعة وغطسنا لقرب قاعها بجوار الضفة، وكان أغلب من يدخلون حَرم الترعة من الأطفال النوبيين. سبحنا حتى قرب الكوبري الضخم الذي يعبر من أعلاه قطارات السكك الحديدية. لكننا لم نقترب كثيراً، فأسفل الكوبري شبه المظلم تتربص النداهة، التي يصل نداؤها لمن يقترب منها فلا يملك فكاكاً، تجذبه فيغرق عندها ولا يعود إلا جثة هامدة، وهكذا غرق منّا رجب ابن على محمود الصعيدي. لعبنا على الضفة نطارد الضفادع وتطاردنا الثعابين. نأتي بقطع صغيرة من الطين النظيف الملاصق للترعة، حصوات كالشكولاته لتأكله الحوامل النوبيات مثلما كن يفعلن في النيل النوبي. وكانت الترعة ملجأنا من غضب الكبار، ومنطقة الارتداد الآمنة حين ننهزم في حروب العصابات الطفولية، فعصابات الأحياء المجاورة يهابون الترعة ولا يجرءون على تخطي سورها، نحن فقط الذين نعرفها وتعرفنا.
النوبة تعمِّد مولودها في النيل وأظن أن هذه الشعيرة من قبل دخول الديانة المسيحية. تهبط زفة نسائية خالصة بمصاحبة الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، يحملوا المولود وطبق كبير به عصيدة ونموذج مركب يحوي شمعة وحبوب غلة وخلاص المولود وقطعة من ملابس الأم حين ولادتها. على الضفة يمسحون الطفل بالمياه المقدسة وبلون نباتي يرسمون الصليب على جبهته وهم يدعون له ويصلون على النبي محمد، ثم يدفعوا نموذج المركب لتبحر في النهر، وخلال ذلك يأتي صبي من بعيد مهرولاً شاهراً سكيناً هاجماً عليهم، لكنه يصل بعد إبحار نموذج المركب متقد الشمعة، فيغرس السكين في الضفة معلناً فشله في اغتيال المولود. بعدها يتناولوا كلهم قبضات من العصيدة. إنها حكاية سيدنا موسى ومطاردة جنود فرعون له، وأمه التي وضعته في التابوت! ونموذج المركب يذكرنا بمراكب الشمس التي تأخذ المتوفى إلى الغرب في الفرعونيات، وأيضاً بالمركب النموذج في أعالي قباب الكثير من الجوامع القديمة.
هذه الزفة وهي تهبط إلى الضفة تهزج بأهزوجة رائعة..
إر ماري مارين تو
يا صالاوي النِّبي (الصلاة والسلام)
من سُكّفي تلّيه
من كيرافي تلّيه. الخ
والمعنى.. (أنتِ يا مريم، وأنتَ يا ابن مريم. صلاة النبي عليكما. هل هو الآتي، هل هو الصاعد؟)
الغناء والرقص النوبيان، كل على حدّة وحين ينضمان سوياً، كانا ديوان النوبة. فالكتابة مفتقدة أغلب أحقاب التاريخ النوبي. الشفاهة تجبّر الفنان أن يصب إبداعه في أغاني متنوعة، الموال والسريع والراقص والروائي والملحمي. والرقصات تأتي من محاكاة البيئة والتأثر بها والتعبير الفني عنها. في الأراجيد حيث الأعراس، تجد النوبيين صفوفاً تتحرك للأمام والخلف يوحون بتدفق أمواج النيل، والدوائر التي تتشكل لتنسحب هي الدوامات، والأصوات التي يطلقونها بعضها يماثل وشيش النهر. وبعض الرقصات الخاصة وسط الجموع هي رقصات السمك. والمواويل مواويل نيلية مسترسلة هادئة مطمئنة. وفي السخونة تكون سخونة فيضان النيل الموسمي. هذه الرقصات دخلناها فداخلتنا صغاراً في عزبة الفرخة الشهيرة باسم عزبة البرابرة.
حجاج حسن أدّول
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات