نفى رئيس اتحاد الصحفيين السوريين صابر فلحوط أن يكون أي صحفي سوري قد اعتقل لأسباب مهنية خلال العقود الماضية. ونقل عنه مراسل " الحياة " في دمشق السيد ابراهيم حميدي (وأرجو أن تذكروا هذا الاسم جيدا!) قوله في تقرير نشرته الصحيفة في 23 نوفمبر الجاري: " نفخر في سورية بأنه لم يسبق لأي صحفي أن دخل السجن لأسباب تتعلق بكتابة مهنية "، داعيا الصحفيين السوريين إلى نشر الغسيل الوسخ. لأن " نشر الغسيل الوسخ جدا حتى لو كان على سطوح الجيران، أفضل من بقائه في الرطوبة للعفونة " حسب تعبيره. وجاء حديث فلحوط هذا بمناسبة توزيع شهادات عضوية في اتحاده على تسعين صحفيا أحدهم ابراهيم حميدي نفسه. وأشار حميدي في تقريره عن هذا الحدث الوطني الكبير إلى أن عدد " الأعضاء العاملين" في الاتحاد قارب الألف وستمئة عضو. ومن المعلوم أن اتحاد الصحفيين السوريين الذي تأسس في العام 1974، يشترك مع جميع النقابات في سورية بكونه إحدى المؤسسات التابعة لحزب البعث الحاكم، ورئيسه يجب أن يكون بعثيا بحكم منطوق المادة 8 من الدستور السوري التي تنص على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع. مع الإشارة إلى أن كلا منهما، الدولة والمجتمع، دمرا عن بكرة أبيهما منذ مجيء هذا الحزب إلى سدة السلطة في العام 1963، وتم دفنهما نهائيا من قبل حافظ الأسد بعد ذلك بسبع سنوات.. دون أي مراسم جنائزية تليق بمكانتهما!
لا ينطوي حديث القائد الأبدي للصحفيين السوريين على أي إثارة. فماضي الرجل ينطوي على " قفشات " و " فهلويات " يكفي جمعها وتبويبها ليلحظ قارئها على الفور أي درك انحدر إليه الكذب الرسمي في هذا البلد، وأي حضيض انحطت إليه صحافته ؛ مثلما أن جمع " تراث " توأمه علي عقلة عرسان، الناطق الدائم باسم الثقافة البيروقراطية وثقافة البيروقراطية، يكفي لجعلك تكتشف واحدة من أكبر المحن التي تنزل بسورية منذ عشرات السنين، والتي ليس لها على ما يبدو أي نهاية قريبة ؛ مهما بدا " حديث الإصلاح " الجاري علكه واجتراره في سورية مدغدغا لأصحاب أوهام " المجتمع المدني " ومناضليه الذين " يريدون محاربة الكنيسة تحت راية لويس السادس عشر "، على حد تعبير أحد الصحفيين السوريين!
هل حقا أنه لم يجر اعتقال أي صحفي سوري لأسباب تتعلق بكتابة مهنية؟ وهل حقا أن الصحفي السوري الذي سيصدق السيد فلحوط ويبادر إلى نشر الغسيل الوسخ لن يتم.. نشر رقبته!؟
كان بودي، كمواطنة سورية الأصل حققت جميع أحلامها.. إلا حلم العودة إلى وطن مطهر من القمع، أن أصدق السيد فلحوط. إلا أن الوقائع تفقأ حتى عيون العميان. فعلى مدى العقود الماضية ارتبط قمع الصحافة والصحفيين في سورية بالسيد فلحوط نفسه بقدر ما ارتبط بأجهزة المخابرات. وما من مبالغة في القول بأن أي صحفي سوري، بمن في ذلك صحفيو السلطة أنفسهم، لا يستطيع التمييز بين رئيس نقابته وأي عريف في أي جهاز من أجهزة الأمن.
يعرف الجميع أن البعث الحاكم، ومنذ مجيئه إلى السلطة في انقلاب آذار / مارس العسكري العام 1963، ألغى تراخيص جميع الصحف المستقلة ولم يبق إلا على صحافة السلطة. واليوم لا يوجد في سورية إلا ثلاث صحف لعشرين مليون مواطن، جميعها توزع بشكل شبه مجاني بالنظر لأنه لا يوجد من يشتريها، لأنه في الأساس لا يوجد من يثق بها.. باستثناء باعة الشاورما والفلافل الذين يشترونها بالكيلو لزوم التغليف!! ووصلت المفارقة أواسط الثمانينيات الماضية إلى حد أن صحيفة حزب معارض ينشط تحت الأرض، أعني " الراية الحمراء " ـ لسان حال حزب العمل الشيوعي التي كان يرأس تحريرها الدكتور عبد العزيز الخير (معتقل منذ العام 1992 ومحكوم لمدة 22 عاما) ـ كانت توزع سرا في العام 1985 قرابة ثمانية آلاف نسخة، أي أكثر من أي صحيفة بالمعايير النسبية، وفق ما جاء في تقرير للمنظمة العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير. أما المفارقة الأكبر والأحدث فكانت قبل أسابيع قليلة، حين أعلن وزير الداخلية اللواء غازي كنعان أن "الإعلام السوري غير جدير بالقراءة "!! ووجه المفارقة في تصريح غازي كنعان يعود إلى أن اسم هذا الرجل، الذي يكفي ذكره لإثارة الهلع في نفوس المواطنين اللبنانيين، قد ارتبط ـ وفق تقارير لبنانية ودولية كثيرة ـ بتصفية العديد من الصحفيين اللبنانيين والتمثيل بجثثهم ( مثل سليم اللوزة ورياض طه، والصحفي الأردني ميشيل النمري )، ناهيك عن تفجيير مقرات عدد من الصحف اللبنانية كالسفير والنهار. ويحتوي ملف اضطهاد الصحفيين السوريين على قصص تقشعر لها الأبدان، بعضها أصبح معروفا على نطاق عالمي. ففي أواسط الثمانيات اعتقل الصحفي والشاعر فرج بيرقدار ليقضي ستة عشر عاما في السجن، وبعده الصحفي نزار نيوف الذي قضى عشر سنوات في زنزانة انفرادية، والذي يصارع في هذه اللحظات شبح الموت أو العجز الدائم في إحدى المشافي الفرنسية (عافاه الله ) نتيجة للتعذيب الوحشي الذي تعرض له. وفي الأول من فبراير / شباط 1992 قتل المذيع التلفزيوني الشهير منير محمد الأحمد (نجل الشاعر الكبير بدوي الجبل ) في فرع التحقيق العسكري بسبب ضربة تلقاها على رأسه بكرسي معدني أثناء التحقيق. هذا فيما يقبع الكاتب والأكاديمي البارز عارف دليلة في زنزانة انفرادية منذ اعتقاله والحكم عليه لمدة عشر سنوات سجنا صيف العام 2001، ويعاني وضعا صحيا بالغ الحرج. وسيكون من العبث سرد حكاية محنة الصحافة والصحفيين في مسالخ النظام الحاكم. ذلك لأن الأمر يحتاج لمجلدات لا يقوى أي بعير على حملها! بيد أن المفارقة التي تصفع القارئ في حديث صابر فلحوط، هي أن مراسل الحياة ابراهيم حميدي، الذي كان من بين تسعين صحفيا منحهم النقيب المزمن بركة العضوية في نقابته ( ولا نعرف أين وماذا سيعمل هؤلاء)، لم يزل رهن المحاكمة بعد أن أطلق سراحه إثر تقرير تافه ( في موضوعه ) كان نشره عشية الحملة على نظام صدام الفاشي و أشار فيه إلى أن السلطات السورية أعدت العدة لاستقبال حوالي مليون عراقي يتوقع فرارهم إلى سورية إذا ما بدأت العمليات الحربية. ومن غير الممكن لأي إنسان في العالم أن يتخيل مقدار الوقاحة التي يتمتع بها فلحوط بحيث أنه لا يخجل من إطلاق هكذا تصريح حتى في حضرة ابراهيم حميدي نفسه، الذي أصابه الذهول وجعله أعجز من أن يعلق على هذه الوقاحة إلا بعلامة تعجب كبرى أردفها بعنوان تقريره في " الحياة " ولسان حاله يقول " إذا لم تسح فقل ما شئت "! ويكفي صابر فلحوط عارا أن قانون الصحافة والمطبوعات في سورية ( الصادر بموجب المرسوم رقم 50 للعام 2001 ) قد صدر بمباركته. وهناك معلومات تقول بأنه هو من وضع مسودته لرئيس الجمهورية. وطبقا لتقرير المنظمة العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير، المشار إليه أعلاه، فإن هذا القانون لا يضارعه في العار إلا فرمان " تنظيمات المطبوعات " الذي أصدره السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1876!! والواقع أنه ما من نقيب للصحافة تبلغ به الجرأة على ممارسة كذب سافر على هذه الدرجة من الصفاقة، لولا أنه يعتقد بأن الصحفيين السوريين الذين اعتقلوا على مدار العقود الثلاثة الماضية إنما كانوا يهربون المخدرات أو يتجرون بها! ويكفي أن يعرف المرء مصداقية الصحافة السورية ومهنيتها عندما يعرف أن النقيب الذي يقود صحفييها هو رجل من هذا الطراز!
لا ريب في أن الدكتور فلحوط هو إحدى أعجوبتين " ثقافيتين " اجترحهما الرئيس الراحل حافظ الأسد. أما الأعجوبة الثانية، وكما عرفتم بالاستدلال دون ريب، فهي السيد علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب، الذي وصلت وقاحته هو الآخر إلى حد أن يكتب في رسالة لإحدى المنظمات الدولية التي طالبت بإطلاق سراح الشاعر فرج بيرقدار بأن " بيرقدار اعتقل بسبب ضلوعه في ممارسة الإرهاب "! وبحسب المستشرقة الإيطالية إيزابيلا دي فيلينو، فإن الرئيس الراحل حافظ الأسد " كان على درجة كبيرة من الذكاء بحيث أنه اكتشف باكرا أن إذلال الصحفيين والكتاب السوريين ومعاقبتهم عبر تنصيب صابر فلحوط وعلي عقلة عرسان رئيسين لهم، أفضل وأكثر جدوى من اعتقالهم. وهو ما عاود صدام حسين اكتشافه بطريقته الخاصة حين نصب ابنه عدي نقيبا لصحفيين ينتمون إلى بلد وضع النوتة الموسيقية قبل سبعة آلاف عام "! حقا إن نظامي صدام حسن وحافظ الأسد من عجائب الدنيا التي تستحق التأمل!

ناديا قصّار دبج
(فابيانا مارزوتشيني)

(*)ـ كاتبة ومخرجة أفلام وثائقية إيطالية من أصل سوري ـ نابولي.
[email protected]