... والقافلة تسير

لا يحتاج شعب دولة الإمارات لي أولغيري كي يتصدى لواجب لدفاع أو المنافحة عن فارسهم الذي ترجل مؤخرا. إلا أن معايشتي لهذا الشعب، سواء مواطنوه العاديون أو بعض من كان منهم من الأسر الحاكمة، تفرض عليّ واجب الدفاع عن الحقيقة، قبل الدفاع عن " الخبز والملح " الذي تقاسمناه، في مواجهة من يحاول الافتراء عليهم وعلى زعيمهم الراحل، المسمى ـ دون مجافاة للواقع ـ بـ " حكيم العرب ". وفي مطلق الأحوال لا مديح مؤسس دولة الإمارات سيرفع من قدره الرفيع، ولا ذمه سيؤثر في إنجازاته.

ليس هذا الكلام بلا مناسبة. ومناسبته أن شاعرا أوصله الإفلاس السياسي، وربما الشعري، إلى حد أنه لم يعد يجد ما يفعله سوى محاولة " قطع الطريق " على سمعة رجل سيتذكر العرب أنهم فقدوا حكيمهم الوحيد في زمن حكامهم الحمقى الكثر. وإذ هو حاول، فإنه لم يجد ما " يهجوه " به إلا نعته بأنه كان يغدق الأموال على الناس.. وبالتحديد المعارضة العراقية ! وهذا هو هجاء سعدي يوسف، الشاعر العراقي المعني، الذي راح ينشر مؤخرا هذيانته التي لا يطمح من ورائها، ربما، إلا إلى أن يحصل على لقب مجنون ! وأعني هنا بالجنون ذلك النوع الذي يتلبس بعض "المبدعين"، أو يلبسونه لأنفسهم، افتعالا، كي يوهموا الناس بعبقرية مزعومة تقف وراء هذا الهذيان!

لكن المشكلة في هذيانات سعدي يوسف أنه من الصعب الرد عليها، لا لرصانتها وبلاغتها وقوة حجتها، بل لأنها أقرب إلى هذيانات الحشاشين منها إلى أي شيء آخر ! ومع ذلك سيكون من المفيد تذكيره، مع غيره من أولئك الذين استمرأوا التطاول على أهل الحكمة حين لم يستطيعوا، بفعل ولاءاتهم السياسية، رفع رؤوسهم في حضرة الحمقى، بحقائق يجب التذكير بها دوما، ولا سيما في زمن أصبحت فيه الحقيقة يتيمة الأبويين. ومن كبريات هذه الحقائق وأهمها أن زايد بن سلطان آل نهيان هو مؤسس المشروع الوحدوي الوحيد الذي نجح في العالم العربي. المشروع الذي يكمن سر نجاحه في أنه لم يقم، كما المشاريع الأخرى، من أجل خدمة زعيم توسعي مصاب بداء جنون العظمة ؛ ولا من أجل بلف الناس وخداعهم وتحويلهم إلى قطيع من الرعاع الهتافين. والأهم من هذا وذاك أنه قام واستمر لأن المخابرات لم تكن أقنوما من أقانيمه، ولا دعامة من دعائمه ! وإذا كان سعدي يوسف "ينعت " زعماء الإمارات بأنهم لا يعرفون كيفية الخطابة والتحدث إلى العامة، فقد كان الأولى به أن يعرف أن هذا سر من أسرار نجاح هذه الوحدة وديمومتها، خصوصا وأنه رأى "الوحدات" التي قامت على الخطابة ( والشعر!) كيف استحالت بعد أشهر إلى ممالك للرعيان ومزارع للخصيان!

يعرف سعدي يوسف جيدا أن الشيخ زايد، ومنذ بداية الوحدة، أعطى للإمارات السبع حق الحكم الداخلي الذاتي في إطار النظام الفيدرالي الوحدوي. إلا أن هذا، ومنذ البداية، لم يمنعه من تخصيص الإمارات الفقيرة كالفجيرة ورأس الخيمة بمساعدات مالية سنوية. هذا في الوقت الذي شجع فيه الإمارتين اللتين تعتبران الاغنى بعد ابو ظبي على وضع لمسات تجعلها معروفة على مستوى دولي، فكانت ابو ظبي العاصمة السياسية ودبي العاصمة الاقتصادية والشارقة العاصمة الثقافية. ولم يفعل، كما فعل عبد الناصر، حبيب اليسار العربي، في سورية حين حولها إلى مزرعة لعسكره ورجال مخابراته ولصوصه.

وفي الوقت الذي يتسابق " القوميون والوطنيون والتقدميون"العرب، من أولياء نعمة سعدي يوسف وأيتام الأيديولوجيات الرعاعية المنقرضة، على الانبطاح تحت ساقي شارون "بلا شروط مسبقة" (!!)، ترفض الإمارات التي يحكمها " الرجعيون " ( كما أحب سعدي يوسف وغيره أن يسميهم ) إقامة أي شكل من أشكال الاتصال مع إسرائيل. بل إن جميع المواقع الإلكترونية الإسرائيلية محجوبة داخل دولة الإمارات، على الرغم من تحفظاتنا على هذه النقطة. ويعرف سعدي يوسف أن غالبية المشاريع الطبية والخدمية والسكنية التي أقيمت وتقام في أراضي السلطة الفلسطينية، إنما هي بأموال دولة الإمارات العربية المتحدة. كما ويعرف أنه ما إن يقوم عسكر شارون بتدمير أي مساكن فلسطينية حتى يسارع الإماراتيون إلى تمويل إعادة بنائها.

أما بالنسبة للموضوع الأثير على قلب سعدي يوسف، موضوع المعارضة العربية والعراقية، فلا شك بأنه يعرف أن دولة الامارات تستضيف عددا من المعارضين من عدد كبير من الدول العربية مثل السودان وليبيا والجزائر واليمن. الا ان هناك اتفاق جنتلمان بين الطرفين بعدم التصريح اوالقيام باي عمل يضر بالمصلحة العليا لدولة الامارات اوعلاقاتها مع الدول العربية الشقيقة. وعلى سعدي يوسف أن لا ينسى استقبال دولة الامارات حتى لبعض رموز النظام الصدامي السابق بعد سقوطه. في حين رأينا ونرى كيف كانت الدول العربية ذات التوجهات القومية البعثية تستعرض احتضانها للمعارضة العربية وإغداق الأموال عليها، ليس لممارسة المعارضة الحقيقية، بل لممارسة العادة السرية المحببة لانظمة البعث، وهي تحويل المعارضين المقيمين على أراضيها إلى مخبرين ومخربين وهتافين وشتامين لأنظمة بلادهم، ظنا منها انه هكذا نستطيع تحقيق الانتصارات. وخير مثال على ذلك السيدة توجان الفيصل التي لم تكتف بممارسة سياسة الشتم العلني للنظام الاردني داخل الاردن، بل توجهت الى بغداد لشتم نظام بلادها من هناك ومن فوق منابر صدام حسين. وأرجو أن لا يفهم سعدي يوسف أو غيره أنني أدافع هنا عن الانظمة العربية. فكل ما أردت هو أن ألفت انتباهه إلى المعارضة المرتزقة التي تحدث عنها، لكن بصورة مقلوبة. فالمعارضة العراقية هي المعارضة العربية الوحيدة التي لم تهدر وقتها بشتم النظام، وهي الوحيدة التي ادركت ان النصر لا يتأتى بالشتائم والخطابة.. وأشعار الهجاء !
إذا كان الشيخ زايد قد أغدق على المعارضة العراقية الأموال، فسيسجل له ذلك بأحرف من ذهب في سجل التاريخ. لأن أمواله لم تذهب سدى، بل ساهمت في تخليص العراقيين، والعرب معهم، من العصابة البعثية التي حولت العراق إلى مقبرة جماعية . وعلى عكس ما يهذي به سعدي يوسف، فإن دعم المعارضات الحقيقية في نضالها ضد الاحتلالات المحلية هو واجب على كافة الدول التي تحترم نفسها، تماما كما هو دعم الشعب الفلطسيني الذي يعاني من الاحتلال الاسرائيلي، مع الاشارة الى ان اسرائيل لم ترتكب بحق الشعب الفلسطيني ثلث ما ارتكبه الاحتلال البعثي وبعض الانظمة العربية الأخرى بحق شعوبها.

يتساءل سعدي يوسف عما إذا لم يكن الشعب الإماراتي أحق بهذه الأموال. ولكنه لا يتساءل عما إذا الشعب العراقي أحق بالاموال التي أغدقها صدام حسين على الابواق العربية التي كانت تهلل له، وعما إذا كان الشعب السوري، ضحية " أصدقائه البعثيين الشوام "، أحق بالأموال التي تغدق على الارهابيين الذين يدعمهم النظام لتحقيق اهدافه المشبوهة على مستوى المنطقة. وكان على سعدي يوسف أن يتذكر قبل ذلك أن المواطنين في الامارات بعتبرون " الرقم واحد " في سلم اولويات الدولة، فلهم حقوق ليست موجودة في أي دولة من دول العالم الاول، بدءا من التعليم المجاني بكافة مستوياته واولوية العمل برواتب يجب ان تكون اعلى من رواتب الوافدين، وانتهاء بقروض تمويل المشاريع الفردية للوافدين الجدد إلى الحياة العملية. وربما لا يعرف السيد يوسف أن فشل أي مشروع فردي، ومهما كان حجم المبالغ الممنوحة لصاحبه، لا يرتب على صاحبه أي التزامات تجاه الدولة. إذ يتم شطب قروضه بالكامل. أما البيوت الشعبية التي تمنح للمواطنين، الذين توجب عليهم هدم بيوتهم واعادة بنائها، فهي عبارة عن فيلات حقيقية. وأما صندوق الزواج الذي يساعد الشباب الاماراتي على تكوين أسرهم فيقدم مساعدة نقدية تصل الى سبعين الف درهم (20 ألف دولار )غير مستردة الا في حالات الاخلال بالشروط كعدم اتمام الزواج او الطلاق. وغني عن الاشارة أن النظام الصحي مجاني للمواطنين. لكن لا بد من الإشارة هنا، طالما الشيء باشيء يذكر، الى أنه تم قبل أيام قليلة اصدار قانون جديد يشمل حتى الوافدين ( غير المواطنين ) بنظام العلاج المجاني بكافة مستشفيات الدولة ودون الحاجة الى استخدام البطاقة الصحية. هذا في الوقت الذي كانت تمارس فيه الثوريون العرب من حلفاء سعدي يوسف " ديمقراطية المجازر " ويوزعون " ثروة الموت " والدخل القومي من السواطير والزنازنين بالقسطاس على مواطنيهم ومدنهم، فلا تسلم من هذه الاشتراكية حلبجة أوتدمر أوحلب أوحماة أوالنجف أوجسر الشغور !

لم يكن غرضي مما تقدم أن اظهر ان الامارات هي جمهورية أفلاطون الفاضلة، فلكل تجربة اخطاؤها ايضا. ولكن التذكير بأنه من المعيب أن نبخس أي تجربة حقها لمجرد أننا لا نستطيع أن نجد ما يمكن الحديث عنه. ويبقى التساؤل الذي لا مفر منه : هل يكتب السيد سعدي يوسف ما يكتبه من هذيانات في هذه الأيام ضد الإمارات، وضد رفاقه الشيوعيين العراقيين القدامى، استجابة وإرضاء لأحبائه " الشوام " كما جرت عادته في غالب تصاريفها، أم لأنه كان يعاني إسهالا كتابيا فأخطأ في تحديد المكان المناسب لإخراج هذا الإسهال!؟

صحفية أردنية تعمل في دبي.
[email protected]