تم تبني المبادئ الدستورية، التي تقر بالحريات الفردية، منذ اكثر من مائتي عام في الدول الغربية، ان تجربة هذه الدول، وتطور مجتمعاتها، الذي جاء حصيلة لانتشار ثقافة التنوير، فرضت على هذه المجتمعات تبني، مبادي المساواة والحريات الفردية، وخلال المائتي عام التي مرت تطور مفهوم الحريات، تبعا ايضا لتطور المجتمعات، ومن خلال هذه المبادئ الدستورية تمكنت المجتمعات الغربية من تجاوز الازمات والصعوبات التي واجهتها بصورة ناجحة.

من جانب اخر، نرى خروج اطراف من المجتمع الغربي، او على اقصىالشرق منه، ولكنه اعتمد مراجع الغرب والياته الفكرية، الى تبني مفاهيم تعتمد على ان تحقيق العدالة الاقتصادية، من خلال سيطرة الاكثيرية المغبونة، اي البروليتارية، سيقيم المجتمع العادل، لا بل بشرونا بزوال الدولة، واقامة المجتمع المثالي، الا ان تجربة ما يقارب السبعين عاما من عمر تطبيق مثل هذه التجارب اثبتت فشلها التام في اقامة المجتمع العادل، او المجتمع الذي تتوفر فيه سمات العدالة الاجتماعية والتطور الاقتصادي والعلمي، برغم من بعض الانجازات العلمية التي لا يمكن نكرانها، ولكننا وصلنا مرحلة من اقرار اكثر المجتمعات التي تبنت هذا النموذج، بفشل نموذجها، فتخلت عنه كليا، كما في دول المعسكر الاشتراكي السابق، او تستمر بمحاولة التخلي التدريجي كما تحاول الصين، اما الدول الباقية على نظامها السابق مثل كوبا وكوريا الشمالية، فحالها ينبئ بمستقبلها.

اما دول منطقتنا، منطقة الشرق الاوسط، والتي تمتعت باستقلالها السياسي، منذ اكثر من نصف قرن، العراق ومصر والسعودية وغيرها كمثال، فقد حاولت تبني النمط الغربي في الاقتصاد، اما في مجال الحريات الفردية فقد تبنت دستوريا معضم ما ورد في الدساتير الغربية وبالاخص مصر والعراق، وكان من المؤمل ان تتقدم هذه العملية بمرور الزمن، الا ان المد القومي، المصطبغ بنكهة دينية فرض اجندته، وحول مسار الامر الى تقديم الذرائع للقمع والحد من الحريات، وكانت الذريعتان الكبريتان، اننا نختلف ثقافيا ودينيا عن الغرب، وبالتالي ان نشر مفاهيمه، يعني سلخنا من جذورنا، وكان التأكيد الغير المباشر في سلخنا من جذورنا، وان كان قويا وصارخا في مدلوله على الدين، بمعنى ان تبني المبادئ الدستورية الغربية ومبادئ ميثاق حقوق الانسان بشكله الراهن، سؤدي الى ترك الكثريين لانتمائهم الديني. والذريعة الثانية للقمع وكم الافواه كانت القضية الفلسطينية، والتي سميت بالقضية العربية المركزية، والتي لا نزال ومنذ اكثر من نصف قرن نعاني من ويلاتها، وبالاخص الويلات التي صنعها لنا حكامنا، بدعوة تحقيق العدالة للاخوة الفلسطينيين، واسترجاع الارض السليبة.

ومن جهة اخرى تبنت بعض الدول التوجه الاسلامي، اقتصادا وقانونا، ومثالها المملكة العربية السعودية وايران لاحقا، وبالطبع كانت لهذه الانظمة حروبها المعلنة او الغير المعلنة، ولكنها كانت مع الغرب، بنظامه الديمقراطي العلماني الليبرالي، وركز الخطاب الاسلامي عداءه لهذا النظام على القيم الاخلاقية، ليس بمعنى القيم الاخلاقية المجتمعية مثل السرقة والكذب والانانية، بل على الاخلاقية الجنسية والاباحية، بمعنى الخوف من انتقال هذه الممارسات الينا، ولم يكن الخوف من ان يمارسها رجالنا، فهذا شائع وممارس على اعلى المستويات، ولكن الخوف كان ان تمارس هذه الحريات نسائنا، وتم اختصار كل القضية، قضية التطور المجتمعات بهذين الخوفين، اقصد الخوف على الدين، والخوف من انجراف نسائنا الى ممارسات الغربيات.

ونتائج هذين النظامين (اعني القومي العروبي، والاسلاموي) واللذان يسيراننا منذ اكثر من نصف قرن، واضحة وجلية للعيان، فاموال النفط، وتقدر بمئات المليارات، استثمرت لتحقيق احلام التيارين القومي والديني، دون رقيب ومحاسب، في الوقت الذي كانت دول تعتبر اكثر تخلفا من قبل اربعين عاما مثل كوريا الجنوبية، والتي خرجت من حرب طاحنة، ويابان والتي خرجت من حرب فاقدة لاستقلالها السياسي، ومفروض عليها دستور يخالف كل تاريخها، اقول احتلت هاتين الدولتين، وبقية نمور اسيا، ولحقت بها الصين وفيتنام، الى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا وعلميا.
ان علة مجتمعاتنا، خوفها من تبني المفاهيم الديمقراطية الليبرالية، برغم من ان كل الشواهد تؤكد على ان هذه المفاهيم هي الافضل لتطور المجتمعات من كل النواحي، والسبب خوف المجتمعات، اغلبية شعوب وحكام المنطقة، من انه في المستقبل، وجراء استشراء مفاهيم التحرر، قد يقوم البعض بالتخلي عن عقائدهم الدينية. ان مجتمعاتنا تحصر نفسها في مخاوف، لن تكون مسؤلة عنه لان المستقبل ملك لمن يعيشه، ولا يمكننا من فرض وصايتنا على الاجيال القادمة، بل يمكننا من توفير مستلزمات تطورهم وتقدمهم، واحد اهم هذه المستلزمات، هو توفير البيئة القانونية، التي تساعدهم في تطوير ذواتهم والتمتع بقناعاتهم، ولن تتوافر هذه البيئة الا باقرار الحريات الفردية كلها، بدون لكن، ولكل مجتمع وزمان سيكون هناك تفسير لمعنى ومدى الحريات، قياسا الى تطور المجتمع ذاته، وباعتقادي ان المجتمع سيقبل التفسير لانه سيكون نابعا منه، ولن يكون مفروضا بشكل قسري، بحجج واهية، تختفي وراء الخوف على القيم والعادات، فالمجتمع هو الكفيل بحمايتها او تغيرها.

ان الديمقراطية، كنظام سياسي، والليبرالية كنظام للقيم التي تتحكم في العلاقات، هم لحد الان افضل الانظمة التي خلقت الاجواء المناسبة لاستمرارية تطور الانسانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتبني مفاهيم العدالة والسلام العالمي، وان انتشار مفاهيم اليسار والمحافظون والوسطيين، وغيرها في الانظمة الديمقراطية، لا يعني ان حملة هذه المفاهيم هم في حالة عداء مع الليبرالية، لا، فالحقيقة ان كل هذه التيارات السياسية تتبني القيم الليبرالية، ولكن هذه التمايزات في الليبرالية ذاتها.