يمثل يوم الرابع عشر من تموز عام 1958 منعطفاَ مهماً في تأريخ العراق و العراقيين .. ففي صبيحة ذلك اليوم الذي لا أعلم أن كان مشرقاً أو غائماً كما يختلف عليه العراقيين الآن أنتهت حقبة مهمة و حاسمة من تأريخ العراق وهي حقبة تأسيس الدولة العراقية الحديثة و أختيار و أقرار النظام الملكي كنظام حكم سياسي لهذه الدولة الفتية حكم العراق في الفترة الممتدة من عام 1921 حتى عام 1958 و ذلك بسقوط النظام الملكي بعملية أنقلاب قادها مجموعة من ضباط الجيش العراقي كان على رأسهم الزعيم عبد الكريم قاسم و زميله و رفيق دربه العقيد عبد السلام عارف .. و في نفس هذا اليوم بدأت حقبة جديدة من هذا التأريخ و هي حقبة الأنظمة الجمهورية التي تعاقبت على حكم العراق و كان آخرها نظام صدام حسين الذي سقط الى ظهيرة التاسع من نيسان 2003 مخلفاً ورائه مجموعة من التساؤلات المهمة .
أحد هذه التساؤلات و الذي نحاول الأجابة عليه في هذه المقالة هو .. هل يفرح العراقيون بذكرى 14 تموز أم يحزنون ؟ .. فقد أنقسم الشارع العراقي في أجابته على هذا السؤال الى فريقين .. فريق دأب خلال العقود المنصرمة التي تلت هذا التأريخ و حتى هذه اللحظة على الأحتفال بهذه المناسبة و أظهار فرحته بها بأعتبارها عيد و طني ما بعده عيد .. و فريق آخر تملّكه الحزن على ما جرى في ذلك اليوم من مجزرة يندى لها جبين الأنسانية بحق اناس أبرياء يقول حتى ألد أعدائهم بأنهم لم يكونوا يستحقون ما جرى لهم في ذلك الصباح التموزي و قد دأب البعض في هذا الفريق و منذ ذلك اليوم على أقامة مجالس الفاتحة سنوياً على أرواح من قضوا يومها و من هؤلاء كان الناجي الوحيد و أسرته من هذه المجزرة سمو الشريف الحسين بن علي والد سمو الشريف علي بن الحسين ابن خالة الملك المغدور فيصل الثاني و راعي الحركة الملكية الدستورية العراقية .
و للأجابة عن السؤال الذي طرحناه في الفقرة السابقة موضوع هذا المقال لا بد من النظر الى هذا الموضوع من جميع جوانبه بشكل عقلاني و منطقي بعيد عن العواطف و الأنفعالات التي لا تزال تفعل فعلها في البعض رغم مالهم من ثقافة و خبرة واسعتين .
من الناحية الأنسانية فأن ما حدث صبيحة 14 تموز كان و بكل المقاييس جريمة و مجزرة بحق أناس أبرياء لم يرتكبوا من الأخطاء ما يبرر ذلك الذي أرتكبه بحقهم بعض أشباه البشر من عديمي الأنسانية و الضمير من قتل و سحل و تقطيع للأوصال و تمثيل بالجثث وصم مرحلة من مراحل التأريخ في العراق بدموية و وحشية لم نكن نتمناها .. لقد وصف الدكتور فالح حنظل الذي كان ملازماً في القصر الملكي عام 1958 و شهد عملية أبادة و سحل العائلة المالكة تفاصيل أحداث ذلك اليوم بشكل دقيق و صادق في كتابه " أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق " .. فبعد أن يصف عملية الهجوم على القصر و طلب المهاجمين من الملك و باقي أفراد العائلة الخروج الى باحة القصر يقول الدكتور فالح : .. ( قبل الساعة الثامنة بقليل فتح باب المطبخ و خرج منه الملك و خلفه سار الأمير عبد الأله حاملاً في يده اليمنى منديلاً أبيض و وقفت الملكة نفيسة وراء الملك وقد رفعت القرآن الكريم عالياً بيدها فوق رأسه و خلفها سارت الأميرة عابدية ثم الأميرة هيام ثم أحدى خادمات القصر و الطباخ التركي و خادم آخر ) .. و يضيف .. ( خرج الملك فيصل و سرعان ما رفع يده بالتحية العسكرية للضباط الموجودين أمامه و ظهرت خلفه جدته و هي تحاول أن تجعل الجمع كلّه يشاهد القرآن الذي بيدها و بعدها سار الأمير عبد الأله الذي خاطب ضباط القوة المهاجمة بقوله " أن كنتم طلاّب حق و شهامة فأن هؤلاء الموجودين أمامكم أمانة بأعناقكم " ثم تقدم أحد الضباط و صرخ فيهم أن يجتازوا ممراً من الشجيرات ينتهي الى باحة خضراء صغيرة و توقفوا بجوار درجات النافورة القائمة هناك و وقفوا بشكل نسق يتطلعون الى أفواه رشاشات الضباط الموجهة نحوهم .. و في هذه الأثناء كان النقيب عبد الستار العبوسي داخل قصر الرحاب فترك القصر و نزل هابطاً درجاته الأمامية و رشاشته بيده و عندما أستدار الى اليمين شاهد الأسرة المالكة و هي تسير في صف واحد .. بعد أقل من نصف دقيقة كان العبوسي يقف خلف العائلة المالكة ثم فجأة و بلمح البصر فتح نيران رشاشته من الخلف مستديراً من اليمين الى اليسار فأصابت أطلاقات رشاشته الثمانية و العشرون ظهر الأمير عبد الأله و رأس و رقبة الملك و ظهري الملكة نفيسة و الأميرة عابدية ثم فتح ضابط آخر نيران رشاشته من الأمام على البشر الموجودين أمامه و تبعه بقية الضباط الذين كانوا يشكلون نصف حلقة حول الأسرة المنكوبة فبدأت النيران تنهال من الأمام و من الخلف و من الجانب و من كل يد تحمل سرحاً في تلك اللحظة .... أصيب الملك بعدة طلقات و سقط في أحضان الأميرة هيام التي تهاوت أرضاً و قد أصيبت ساقها بجروح طفيفة و قتل الأمير عبد الأله في الحال مع باقي أفراد أسرته و قد حاول الطفل جعفر اليتيم الذي كانت تربيه الأميرة عابدية أن يهرب الى أحدى زوايا القصر ألا أن رشاشات المهاجمين سرعان ما عاجلته بنيرانها لترديه قتيلاً في الحال كباقي أفراد العائلة ) .. و يسترسل الكاتب في سرد الأحداث فيقول في مكان آخر ( بعد أن كفّت الأطلاقات النارية كانت الجثث الميتة ملقاة أرضاً فجُلبت سيارة من نوع بيك آب كانت تستعمل للمشتريات اليومية للقصر و وضعت فيها الجثث بعد أن تقرر نقلها الى وزارة الدفاع غير أن جماهير المتظاهرين أعترضت السيارة و سحبت منها جثة الأمير عبد الأله و فعلت بها ما لا يمكن ذكره أو كتابته .. بعد ذلك توجهت السيارة و هي تحمل جثة الملك فيصل الى وزارة الدفاع و أمرت من هناك بالتوجه الى مستشفى الرشيد العسكري حيث نقلت الجثة الى أحدى غرف العمليات ليتم فحصها وما أن فتح أحد الأطباء جفني عين الملك التي بدت جامدة لا حراك فيها حتى قال لمن معه " أنه ميت " و لم تستطع الممرضات الموجودات في الغرفة من أن يغلبن دموعهن و هن يتطلعن الى وجه فيصل و قد خضبت الدماء محياه و شعر رأسه و تركن الغرفة الى الخارج و هن ينشجن ) .. و لمن يريد الأطلاع على بشاعة ما جرى في ذلك اليوم عليه العودة الى الكتاب الذي ذكرته للدكتور فالح زكي حنظل و كتاب " الليلة الأخيرة .. مجزرة قصر الرحاب " اللذان يرويان بدقة تفاصيل المجزرة التي حدثت في يوم 14 تموز 1958 .. و مما يؤكد على سوء النية التي كان يبيتها بعض الأنقلابيين للعائلة المالكة على عكس ما يحاول البعض تبريره من أن ما حدث يومها كان عن طريق الخطأ ما ذكر من أن عبد السلام عارف و بعد عودته الى داره في اليوم الثاني للأنقلاب أستقبلته زوجته قائلة ( لماذا قتلتم الملك ؟ أما تخافون من الله ؟ ) فأجابها عبد السلام ( أذا لم تقطع الأفعى من رأسها فلن تموت )
أما من ناحية تأثير ما حدث يوم 14 تموز على تطور البلاد و تغيّر وضعها السياسي و الأجتماعي و الأقتصادي فالجميع يعلم و يقر بأن النظام الجمهوري لم يكن يحمل للعراق برنامجاً مستقبلياً محدداً لتطوير أقتصاده و تحديث بنيته التحتية و معالجة مشاكله الأجتماعية .. فهناك فرق بين أن تقوم بتوزيع الأموال و قطع الأراضي بشكل عشوائي و غير مدروس على الفقراء لأشعارهم بسعادة و قتية و أنتشالهم من حالة الفقر و العوز التي يعيشونها كما فعل الزعيم عبد الكريم قاسم و حكومة الأنقلاب و بين أن تتبنى و تباشر بتنفيذ مشاريع تنموية جليلة و جبّارة في مجال البنية التحتية للبلاد كمشاريع الري و بناء السدود و المصانع التي كان يتعهدها و باشر بتنفيذها مجلس الأعمار الذي شكل في العهد الملكي و التي أنقذت العراق من الفيضانات السنوية المتكررة و كانت ستضع الأسس الأولى لأزدهار أقتصادي في شتى المجالات يتمكن معه الشعب العراقي و بكافة شرائحه من جني ثماره .
و بدلا من أن يؤدي تغيير نظام الحكم الى بلورة حالة سياسية تتلائم مع طبيعة المجتمع العراقي بتوازناته المختلفة و تؤدي الى تطوير هامش الديمقراطية و الحكم الدستوري الذي كان واقعاً ملموساً أبان العهد الملكي .. وصل العراق و بعد سنوات معدودة من قيام النظام الجمهوري الى حالة مزرية جداً من الفوضى السياسية و أنعدام المؤسسات الدستورية و مؤسسات المجتمع المدني و أصبح العراق بلداً تحكمه العسكريتاريا و أجهزة الأمن و المخابرات و يقوده زعماء من البلطجية و قطاع الطرق و أرباب السوابق بعد أن كادت تجربته الديمقراطية الفتية التي أرساها رجال العهد الملكي أن تصل الى مستوى وضع القوانين الدستورية لحكوماته أواخر العهد الملكي .
لذا فأن النظام الجمهوري و بعد أن فشل في تغيير وضع العراق نحو الأحسن لم يستطع حتى أن يحافظ على ما كان عليه الوضع أيام النظام الملكي مع أجراء بعض التعديلات بل زاد الوضع سوئاً حتى وصل الحال بالعراق الى ما هو عليه اليوم من حاجة الى عملية أعادة تأسيس للدولة قام بها رجال وطنيون كفوؤن قبل ما يقارب قرن من الزمان .
و في حين كان دعاة عودة الملكية الى العراق و على رأسهم الشريف علي بن الحسين حاضرين في مجالس عزاء و تأبين الكثير من قادة اليسار العراقي بشكل عام و الحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص ممن توفوا في المنافي .. نجد أن أغلب تنظيمات اليسار العراقي و فروع الحزب الشيوعي العراقي في الكثير من بلدان المهجر تصر على الأحتفال و بشكل مبالغ فيه بذكرى أنقلاب 14 تموز دون مراعاة لمشاعر دعاة الملكية و على رأسهم سمو الشريف الذي قتل في هذا اليوم و بوحشية الكثير من أهله و أقربائه كان على رأسهم جدّته الملكة نفيسة و خاله الأمير عبد الأله و خالاته و أبن خالته الملك الشهيد فيصل الثاني .
أما العوام فلازالت تنظر الى مسألة تقييم ما حدث في 14 تموز على أنه من المحرّمات التي لا يجب الأقتراب منها لهذا السبب أو ذاك ألا أن السبب الرئيسي هو تأثر هذه العوام بكاريزما الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان ذو شعور وطني عارم و قلب طيب و كبير أتسع لكل العراقيين على أختلاف مشاربهم و ألوانهم أضافة الى أنه كان بسيطاً حد العفاف في حياته فكان بذلك يمثل و بشكل صادق شخصية أبن المحلة التي يعشقها العراقيين .. و بما أن كل هذه الأمور قد أفتقدها العراقيين في من جاء من بعده من الرؤساء و الزعماء العراقيين فقد ظلت صورة الزعيم تداعب خيال شرائح واسعة من الشعب العراقي كرمز لقائد وطني يتمناه و يحلم به الكثيرين منهم و وصل الحال ببعض المغالين في حب الزعيم الى نسب بعض الكرامات أليه كأدعائهم لظهور صورته في القمر بل أن البعض الآخر أعلن قبل فترة في العراق عن تأسيس حزب سياسي سمّي بأسم الزعيم الراحل و يدعو لأفكاره رغم أنه رحمه الله لم يؤمن يوماً بالأحزاب و لم يروج لأفكاره عن طريقها .
بعد كل هذا .. هل يفرح أي أنسان بشكل عام أو أي عراقي بشكل خاص على ما حدث في صبيحة 14 تموز أم يحزن ؟
بقراءة بسيطة نجد أن ذلك اليوم قد غير مجرى تأريخ العراق .. و لكن .. نحو الأسوء حسب كل الدراسات و التقييمات المنطقية للعهدين بدليل ما أوصلنا أليه العهد الجمهوري من تحكم للرعاع و للنكرات و المجرمين في مقدرات العراق و مصائر العراقيين .. ففي هذا اليوم قتلت أرواح و أنفس طاهرة و بريئة و مُثّل بجثثها بطريقة و حشية .. و فيه تم تغيير نظام حكم راقي بنظام حكم همجي أوصل البلاد بعد سنوات من مصائبه و ويلاته الى ما هي عليه اليوم من تراجع و تردي في كل مجالات الحياة بل لقد وصلت آثار هذا النظام السيئة و المدمرة الى داخل شخصية الأنسان العراقي الذي فقد الكثير من سماته و صفاته الحميدة بعد سنين الجمهوريات العجاف .
لذا حسب رأيي الشخصي و المتواضع و وفق المعطيات التي ذكرت فأن ذكرى 14 تموز هي ذكرى للحزن و ليس للفرح .. أذ من غير المنطقي أن يفرح الأنسان العراقي بالأحداث التي رافقت هذه الذكرى و ما تلاها من نتائج مدمرة على العراق أرضاً و شعباً كما أن علينا أحترام الحزن الشديد للبعض بسبب الآلام التي تحملها ذكرى هذا اليوم لمن فقد فيه أخاً أو قريباً أو عزيزاً أو لمن فارق يومها و الى أجل غير مسمى وطناً سعيداً و عيشاً هانئاً و حلماً مشروعاً بمستقبل زاهر و مشرق له و لأولاده و أحفاده من بعده .. و مع علمي بأن هذا الكلام سوف لن يعجب البعض و منهم أحبة و أصدقاء خصوصاً ممن لازالوا يعيشون أوهام الماضي و شعاراته الثورية الطنانة ألا أنه كلام حق كان يجب أن يقال في محاولة لتصحيح بعض المفاهيم السطحية و الهامشية التي لازالت في عقول البعض .

[email protected]