يخافني الناس لبشاعة الظاهر
و أخاف الناس لبشاعة الباطن
قاسم حداد
لحطة المواجهة مع بياض الورقة حالة لا يدركها المرء ببساطة حيث تحتبس المفردات بطريقة خانقة لتستعصي بدورها الافكار من أن ترمــي بظلالها الزرقاء على الورق و يحاول الكاتب جاهداً أن يعثر على منفذ ما لتدوين السطور المكتوبة في رأســه، فدائماً ما نحشو هذا الرأس الذي نحملــه بين أكتافنا بالافكار المؤجلة، و مع هذا تبقى الكلمات حبيسة و عصية على الامتثال في ذات الوقت.
في بعض الأحيان تصيبنا شهية الكتابة فلا ندري كيف يمكن أن نُوقف هذا السيل الجارف من المفردات و أحياناً نُصابُ بالجفاف و غياب الشهية، ربما نتيجة للكسل.... أو الأحساس بلا جدوى الكتابة في عالم يتنشق فيه المرء الغازات السامة و كأنه يشمُ رائحة التفاح. يا للعجب!! أي مفارقة تلك التي أتحدث و نتحدث عنها، أيصدق هذا؟
البعض من الكتاب يتدثر بالتراث هارباً من سوداوية الحاضر و إشكالاتــه الميتافيزيقية التي تصل به الى حالة اللاجدوى، فيجد نفسـه محققاً و محاكماً لكتب التراث من جهة و مبتعداً عن سلطة الحاضر القاسيـة من جهة ثانية لعلـه يجد ضالـته أو لرغبة ملحـة يجد من خلالها أجابة عن الكثير من الأسئلة المتشابكة و المختلطة بمحلول الواقع الأسود
ثمة شعراء يبحثون بجهد من أجل الوصول الى صيغٍ جديدة لنصوصهم يتجاوز الشكلانية، فنراهم يخرون صرعى التقليد و يشوشون في الوقت نفسـه على اقرانهم، و هناك من يحاول أن يجد لـه منفذاً من خلال التقنية الحديثة المتوفرة في هذا العصر بصورة مفرطة والمتمثلة بوسائل الاتصال الحديثة و الأنترنيت حصراً، فيغدو مثقفاً انترنيتياً و الكترونياً بلا رقيب يكتب ما يشاء و يشتم من يشاء محاولاً استثمار هذه التقنية لتفريغ شحناته المكبوتة و الموروثة من بيئته المليئة بالتناقضات و المفارقات ليخرج كما يتوهم من سطوة الالغاء التي مُورست معه ليسقط فيها من جديد. و هناك من يتلفع بوشاح الماضي بوصفه الشفيع الوحيد لتقديم شهادة حسن السلوك و تبرئة سلوكياته الجديدة كما يتصور و تمشياً مع متطلبات الحالة بوصفها أيضاً المبرر الوحيد لنزاعاته و نزعاته الوهمية التي يفتعلها مع خصومه الوهميين، و هناك من وجد نفسه بين ليلة و ضحاها و قد تحول الى جيفارا معاصر أو مؤرخاً ينافس الدكتور علي الوردي في منهجيته و قراءته للتاريخ. كما نجد بعضاً ممن يحاول القيام بتوزيع العطايا و كأنه صاحب كرامات لا حدود لها لينسى نفسه داخل بيته فنراه اشبه بدون جوان حين يكون بالاماكن العامة يصطنع كل نأمـة و إيماءة و حينما يلج عتبة داره يكشر في وجه عيالـه فيغدو عشائري التفكير ،بدائي السلوك و بازدواجية خانقة متصوراً ان يصلـه هذا الاسلوب الى مبتغاه.
هناك الكثير ممن أعتمروا عمائم بيضاء و أخرى سوداء، البعض منهم يدعي انه من تلامذة السيد الفلاني في الحوزة العلمية الفلانية و أنه قد وصل الى درجة مجتهدٍ أو منظرللفكر السياسي الشيعي ليلغي بدوره جهود الاخرين و بطريقة ذات نظرة فوقية و منهم من ادعـى بنسبه الى الرسول الكريم مانحا لنفسه خصوصية ينفرد بها عن الاخرين، و كأن كل من إتصف بلقب السيد محصناً من كل الاثام و فوق مستوى الشبهات، علما ان البعض يخفي بين طيات عمامته ــبغض النظر عن لونها ــ الكثير من الخطايا، أما حكاية اولئك الذين قارعوا النظام السابق فيتحدثون بلسان لم ينزل الله به من سلطان، فقسماً منهم ارتضى لنفسه ان يبقى مرمياً في احضان المنافي اللذيذة متمتعاً بامتيازات لم يكن ليحلم بها بمكان و بدأ يشتم من هناك و ينّظر للديمقراطية، و القسم الآخر من ادعى مطاردته من قبل السلطة ثم نعس و تعب من التخفي و نام على ابواب المنظمات الدولية متأملا في الحصول على مباركة هذه المنظمة او تلك لتمنحه لجوءاً( سياسياً) إستناداً لما قدمه من وثائق مزورة تفيد بان السلطة القائمة حينذاك قد طاردته و اصدرت بحقه حكماً بالاعدام، و هناك من تنكروا لماضيهم و كتبهم التي طبعت على نفقة الشاذ عدي و بمباركة من المعتوه ابيه. أما ( بعض ) الذين عادوا بجوازاتهم الاوربية فقد نسوا في غمرة حالات الاشتياق الآنـي ـ باعتبارهم سواح ـ الكثير من الذين ذابوا في مقلاة القائد الضرورة و قبوره الجماعية التي تحولت بطريقة سريالية الى مقابر فدرالية.
يبدو اننا قد اصبحنا منقسمين بمحض ارادتنا الى فريقين احدهما يُدعى فريق الانصار و في الجهة المقابلة فريق المهاجرين، و ها نحن الآن بحاجة ماسة الى معجزة من معجزات الخالق أو هرقل جديد ليقوم بعملية المؤاخاة و لكن هيهات.....و هذا لا يعني تشاؤماً أو رمي الكلام على عواهنه لمن يحلو له ذلك، بل قراءة واضحة بعيدة عن التكلف و كل انواع اللغط و خالية في الوقت ذاته من أي جدل يحمل بين نقيقه صبغة بيزنطينية. فما نراه من مشاهد بلا رتوش و ما نسمعه من سجال ذو نبرة افلاطونية و هوى كانطياً يجعلنا نسقط في تلك القوقعة المظلمة المليئة بالوجوه القادمة من كوكب لا نعرفه حتى و إن قمنا بقراءة الواقع الحالي بامكانياتنا المعرفية المختلفة.
لا أريد لكلماتي هذه ان ترمى هكذا جزافاً و لا أرغب من ذلك الدخول في حلبة لصراع الديكة، فعصرنا هذا هو عصر الغضب و التسقيط و الألغاء و من ثم البحث عن دور زائف في خضم هذه الفوضى و الأباحية المتفشية في كل جوانب الحياة و خصوصاً الحياة الثقافية باعتبارها من اخطر الممرات و لا يمكن الولوج في تفاصيلها اذا لم يكن المرء ممسكاً بجمرتها، مستوعباً لقيمتها و ممتطياً في نفس الوقت ناصيتها، لا ان يتحول الى حصان ليخرج في النهاية من هذا الرهان الأحمق الذي يجعله خاسراً منذ الحظة الاولى.
فمنذ شباط 1963 و العراقين قد حُشروا في القمقم البعثي ذو الصوت الواحد و اذا ما خيّرنا كنا نجنح بلا ترددالى الصمت الذي يوفر لنا احياناً الاسلوب الامثل في الابتعاد عن متاهات الاقبية السرية، فمنذ ذلك التاريخ ونحن ننام ونصحو على حذر لدرجة تأصل فيها هذا الحذر و انقلب الى خوف أبدي منعنا من كل محاولة للخروج من هذا القمقم فأمسينا نعيش اكبر هزيمة و اسوأ نكبة عرفها التاريخ العراقي المعاصر،و كم كان محقا صديقي الشاعر كمال سبتي في عبارته الدقيقة حينما قال في نصه المسمى ( جثث لشمس الله) :
قبل الحرب كنا نموت قتلا، و في الحرب نموت قتلا، و بعد الحرب نموت قتلاً.....أيضاً.أما لنا غير القتل؟ ماذا نحتاج كي نتغير؟ أنحتاج الى حربٍ اخرى،حتى نتغير؟
التعليقات