هذا هو السفر....
يمنحنا فرصة الإبحار في أعماقنا من خلال السفر في الطبيعة وفي عيون الآخرين.
يصبح الآخر مرآة لنا، ونكون مرآة للآخر...
كل يرى نفسه ومتاعبه وهمومه عبر المرايا التي لايصنعها غير السفر.
وكلما كان كل منا مرآة أكثر نظافة ونصاعة كلما كان للآخر سطحا يرى نفسه فيه أكثر وضوحا.
قالوا : سافروا ففي السفر سبع فوائد، لكنهم لم يقولوا أن السفر يصنع للإنسان مرآة يرى نفسه عبرها.
فالواقع الذي يعيش فيه الإنسان كثيرا دون أن يسافر، يطمس حقيقة النفس حتى يـــُخيل للإنسان أنه بلا أمراض أو متاعب دون أن يدرك أنه ربما قد يكون المرض كله، والمتاعب كلها، خاصة عندما يكون ضحل الفكر وسطحي المعرفة.
في السفر : يأتي المأزوم بمشاكل ضعفه وجهله ليلقي إسقاطاته على مرآته التي ترافقه أو تلاقيه في السفر، دون أن يستغل فرصة رؤية حقيقة نفسه كي ينقلها من واقع التعب إلى مستقبل الأمل.

هذا هو السفر...
محطات للنفس وللعقل.. فأما أن ترتوي النفس المتعبة من حوض المعرفة التي يمنحها السفر عبر المشاهد التي يراها ويسمعها ويشعر بها الإنسان المسافر لتشكل في النهاية حصيلة من الأفكار تنعكس أمامه عبر مرآته التي يقترن بها سواء عن طريق رفيق السفر، أو صديق الصدفة، أو جموع المارة، وملامح الشوارع، وخضرة الجبال وزرقة السماء وأمواج البحر. وإما أن يستريح العقل في شرفة غرفة فندق أو فوق تلة تطل على منظر بعيد ليمارس التأمل الذي يطلق عنان الخيال كي يرى مالايراه القابع في مكان تعود فيه أن لا يفكر، لأنه أصبح جزءا من جمود المكان وخارجا عن حدود الزمان حتى خـُــيــــل لذلك الكائن الجامد أن العالم بأسرة يأتمر بأمره ويتطبع بطبائعه.

والإنسان المسافر : يحتاج في سفره إلى أوقات مستقطعة من الضجيج العشوائي كي يرمي كبتا فرضه عليه جمود واقعه، وهو ضجيج يخرج النفس المتعبة من جمودها حتى وإن سلبها القدرة على التمتع ببعض أوقات السفر الجميلة كثمن يجب أن يدفعه المسافر القادم من الصمت المطبق.

إن أعظم فوائد السفر أنه يعرّف المسافرعلى ذاته وخاصة ذلك المسافر القادم من واقع يسلب الإنسان قدرة التعرف على الذات، لكنه يصاب بالفجيعة والألم عندما يتعرف إلى ذات متعبة ومنهكة و يدرك مستويات التعب والألم.
وإذا كان السفر للمرفهين مطلبا سنويا ضروريا، فإنه للمتعبين حقا مقدسا كي يتعرفوا على ذواتهم قبل أن تذوب وسط واقع لايجيد اكتشاف الذات ولا إعادة الروح إليها، بقدر ما يعمق الإحباط فيها ويرغمها على إخضاع نظر عيونها صوب الأرض
كيلا ترى قمرا يضيء في السماء ولا تلمح أملا يطوف في الأفق.

[email protected]
غدا الحلقة الثانية.