عادات كثيرة لدى الشعوب تمثل طقوسا محترمة وتشهد جماهيرية واسعة لا تختص بفئة دون اخرى بل يشترك فيها حتى اصحاب الشهادات العليا والنخب السياسية والثقافية في ممارستها، وتختلف تلك العادات من شعب لاخر، غير بعض تلك العادات تصيب الناظر لها بالدهشة والذهول لقسوة الممارسة وشدة وطئتها على الممارسين ولكنهم بالوقت نفسه يجدون لذة ومتعة بممارستها كما نجد ذلك لدى الذين يمشون على الجمر وينامون على المسامير ومن يدفنون انفسهم تحت الثلوج وهم عراة الى غيرذلك من العادات والممارسات التي تعد معالم بارزة للشعوب في سلوكها الشعبي.
والشعب العراقي بالتأكيد ليس بدعا من تلك الشعوب ولا سيما الشرق اوسطية ولذلك لديه بعض العادات والطقوس التي تحافظ عليها قطاعات كبيرة من العراقيين ويعتبرون ممارستها نوعا من الاحساس بالمسؤولية التي لا محيص عنها والتي لا تقبل النقد ابدا والويل ثم الويل لمن يسل سيف النقد لبعض الطقوس الشاذة التي لا تناسب العقل والدين، ومن تلك الطقوس التي تحافظ عليها تلك القطاعات طقس جلد الذات والتلذذ بالعذاب وهذا الطقس له مظاهر عدة منها جلد الذات بالنقد الشديد واللوم والكلام الجارح وتحميل كل الاخفاقات للنفس وتهديم ثقة الفرد بنفسه.
لا يمر يوم من الايام لا نسمع فيه كلاما كثيرا يوبخ الفرد فيه نفسه وقومه وليله ونهاره وحظه وقدره الى غير ذلك ولا بأس بنقل بعض تلك الكلمات التي تدور على لسان الفرد وبمختلف المستويات يقول في هذه الممارسة من جلد الذات : ( يمعود احنه شعب مايفيد ويانه غير القوة ) و عندما يتكلم عن نفسه : ( انا كذا وانا كذا مايصير براسي خير لو تطلع الشمس من المغرب ) وهو بذلك ينفس عن مكبوتاته ازاء مشكلة مر بها، ويستمر المسلسل لينتقل ما بين محافظة واخرى حيث يلقي ابناء كل محافظة اللوم على غيرهم من ابناء المحافظات الاخرى فنسمع من الكلام البذيء والكلام الخشن بحق اؤلائك والصادر من هؤلاء كما في ظاهرة (الحواسم) مثلا حيث تتبادل التهم بين هؤلاء وهؤلاء، ولعل في ما يردده ابناء العاصمة ازاء أبناء المحافظات الأخرى والذي يتلخص بكلمة ( هذا محافظات........) ويعنون به انهم متفوقون عليه بكل شيء وهو لا يجيد شيئا لأنه من المحافظات المتدنية المنزلة بالقياس مع العاصمة، لعل هذا الكلام يوضح المطلب توضيحا دقيقا جدا، ثم تعود الدائرة لتضيق في المحافظة نفسها او العاصمة لتقسم المناطق من حيث المدح المفرط والذم الفاحش وهكذا الى ان يرجع القول الى المواطن نفسه فيوسعها ذما وتأنيبا وتوبيخا وتأففا وليس ذلك لسبب مهم جدا او لامر عظيم لا وانما ذلك يحدث لامور سأذكر لكم مثلين منها يقول سائق الباص أذا لم يلحقه ( السره) ( هو اني هم فد يوم راح يصير براسي خير الخ) ويقول الاستاذ الجامعي الذي يحتد نقاشه مع السيد العميد ( اني ما افتهم الي اجيت وتعينت بهذي الكلية اني...........الخ ) ويجيبه السيد العميد ( لا اني الي ما أفتهم الي قبلت انت تتنسب على ملاك الكلية ) وهكذا ولديكم من المفردات الكثير التي لا يناسب ذكرها في هذا المكان.
لماذا يجلد العراقي ذاته؟بالحقيقة انه سؤال تصعب الاجابة عليه اجابة كاملة ولكن ربما نستطيع ان نحدد بعض الخطوط العامة التي تتشكل منها هذه الظاهرة المستديمة و من هذه الخطوط العامة ان الشعب العراقي لم يمر ابدا بفترة من الاستقرار السياسي منذ تاسيس الدولة العراقية الى اليوم وبالتالي فهو قد تنقل مابين انظمة مختلفة في توجهاتها ولكنها مجمعة على تكميم الافواه فلم يجد العراقي مجالا لكي ينال من الحكومة التي يراها لا تعمل لصالحه فانقلبت ردة فعله على نفسه وبدأ يسب نفسه وهو يشعر انه يسب الحكومة، وخط عام اخر ان الشعور بالغبن ووالاجحاف والاسى من الواقع المر جعل الفرد العراقي يحمل معه نفسا مكسورة لا تجد جابرا لها وعند التأزم تنقلب على نفسها لانها لا تستطيع النيل من الاخر ليس على وجه الحقيقة وانما هكذا انطبع في وعيها. وقد فسر بعض علماء الاجتماع الحزن الطاغي على الغناء العراقي الريفي بالتحديد بهذا التفسير.
وهناك خط عام اخر هو تشخيص ان هناك حرصا من الفرد على كسب الاخر عاطفيا وايذاء النفس فقرة فاعلة في هذا المجال فاذا بدأ الفرد بلوم نفسه وسبها يتدخل الاخرون ليقولوا له ( يالله يمعود ميخالف شسوي انت العاقل الخ ).
هذه الظاهرة بحاجة الى علاج اجتماعي لا تقوم به الا مراكز متخصصة تضع الدراسات والبحوث لتخلص ببرنامج وخطة عمل تبدأ من الطفل في رياض الاطفال وجميع المراحل الدراسية اضافة الى برامج تلفزيونية خاصة تهدف الى تثقيف المجتمع وزيادة وعيه وزرع الثقة في النفس العراقية التي هذه بعض أدوائها

العراق – بغداد
[email protected]