صراع الأقباط من أجل المساواة على مدى قرن
تأليف: سناء حسن
عرض: نبيل عبد الملك *
مصر والأقباط وثقافتهم الخاصة
تقول الباحثة أن للأقباط طريقة خاصة يتصورون بها جغرافية مصر. ويرتبط هذا التصور بذاكرتهم الدينية حيث تشكل زيارة العائلة المقدسة لمصر والمواقع التى مرت بها، جزءا بارزا منها. هذا بالإضافة إلى سير شهداء وقديسي وآباء الكنيسة القبطية والمواقع التاريخية التى حفظت سيرتهم عبر القرون، منذ دخول المسيحية مصر، وإلى يومنا هذا. وهكذا ترتبط عند الأقباط جغرافية مصر بتاريخها، وحياتهم الإجتماعية.
وتتناول الباحثة موضوع تعداد الأقباط الحالى، لكنها لم تستطع، كغيرها من الباحثين، تحديد نسبتهم بالنسبة للتعداد الرسمي العام. ويعود ذلك، فى رأيها، إلى عدم إهتمام الحكومة المصرية بإجراء الإحصاء السكاني بشكل علمى خوفا من إفتضاح عدم صحة النسبة التى تعلنها، وهى نسبة لم تتغير عن النسبة التى جاء بها إحصاء السلطات البريطانية فى بداية القرن العشرين، أى 6% ! وتخلص الباحثة بعد تحليلها للمعلومات المتوفرة لديها، وإجراء بعض المقارنات، إلى تقدير نسبة الأقباط فيما بين 8 – 12 % من التعداد العام للسكان حاليا.
وتسجل الباحثة عدم إنعزال الأقباط فى مناطق سكنية خاصة بهم، إلا أنها تذكر أن نسبتهم العددية فى محافظات الصعيد أعلى من محافظات الدلتا، كما أن أعلى نسبة لهم فى الصعيد توجد فى محافظتى أسيوط والمنيا (أكثر من30%)، ومع ذلك فأن نسبة الأقباط فى الصعيد شهدت تناقصا ملحوظا، خلال القرن الماضى. وتعزى الباحثة هذا التناقص إلى هجرة العديد من أقباط الطبقة المتوسطة إلى المناطق الحضرية بدءا من نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدأوا فى الإستقرار فى مناطق شبرا، والفجالة والظاهر، وزاولوا كل الأعمال، سواء الحكومية أو الخاصة، بينما أستقرت جموع من فقراء المهاجرين الأقباط فى مناطق المقطم وعزبة النخل، وعملوا فى جمع القمامة وتربية الخنازير. وتسجل الباحثة حقيقة تهميش الأقباط فى الحياة العامة والوظائف الحكومية العليا، وتعزى ذلك إلى إحجام السلطات العليا عن تعيينهم فى مثل هذه الوظائف العليا تحاشيا لإثارة الأغلبية المسلمة!
وتثير الباحثة نقظة أخرى تتعلق بأصل (عرق) الأقباط، وإذا ما كان هناك إختلاف عرقى بينهم وبين المصريين المسلمين، وتخلص إلى ان الجماعتين تنحدران إلى أصل واحد مصرى، وإن كان حدث إختلاط نسبى بين الجنس العربى الوافد والمصريين الذين إعتنقوا الإسلام، و بين الأتراك والمصريين المسلمين في وقت لاحق تحت الحكم العثماني. وتقول الباحثة أن للأقباط هوية خاصة بهم لها جذور تاريخية مصرية كما أن لها جذور مسيحية قومية تتمحور حول تاريخ الإستشهاد فى العصر الرومانى وإنبعاث حياة الرهبنة من مصر ودور مصر المسيحية فى التراث المسيحي العالمي.
وحول هذه الهوية القبطية وإعادة إنتاجها بشكل معاصر، وفى ضوءها أيضا، تواصل الباحثة تقديم نتائج دراستها لوضع أقباط اليوم والكشف عن جوانب من حياتهم لم يتناولها باحث آخر، مثلما تناولتها سناء حسن، إذا جاءت عبر المعايشة الدائمة – لا عن قرب فقط، بل وإندماج فكرى فى المحيط القبطى - لمدى أكثر من ثلاث سنوات من الرصد والتسجيل والتحليل الإجتماعي.
لا نزال فى بداية الدراسة، ومع ذلك، تنتهى الباحثة إلى أن هوية الأقباط المعاصرة وإنعكاس التاريخ القبطي عليها بصور متعددة، كان له دور حاسم فى تشجيع الأقباط على الصمود فى مواجهة العدوان المتواصل من الجماعات المتأسلمة وما تواكب معه من ممارسات تمييزية رسمية ضدهم فى العديد من المواقع والمناسبات على مدى عقود مظلمة (ص 22).
عندما كانت مصر مسيحية.. وفيما بعد فى العصور المظلمة
على مدى الثلاثة فصول الأولى – وبشكل مقتضب – تتناول الكاتبة الأحداث الهامة والشخصيات البارزة، التى شهدتها الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الميلادى، والتى تركت بصمتها على الوعى القبطي، وساهمت فى تشكيل الهوية القبطية. وإن كانت تلك الفترة قد شهدت فى بدايتها وفى نهايتها سلسلة من الإضطهادات العنيفة ضد الأقباط – سواء على يد الرومان الوثنيين أو الكنيسة البيزنطية، إلا أنها شهدت أيضا إنتشارا للمسيحية وبلورة للشخصية القومية (المصرية المسيحية)، وخاصة بعد مجمع خلقيدونية.(فى القرن الخامس).
بغزو العرب مصر ودخول الإسلام فيها، و كما هو معلوم، سُمح لغير المسلمين بالبقاء على دينهم والإحتكام بشريعتهم، إلا انه سرعان ما بدأ الإسلام فى الإنتشار بوسائل متنوعة، منها الضغط المادى على الأقباط بزيادة الجزية المفروضة عليهم، الأمر الذى أدى إلى إمتزاج الفلاحين المصريين مع الغازاة العرب بحلول القرن التاسع الميلادى (ص 31).
وبشكل عام، ترى الكاتبة، أن فترة الحكم العربى إتسمت بالتسامح النسبى. ولكن بمجئ القرن الثالث عشر، مع بداية حكم المماليك، إلى أوائل القرن السادس عشر، تحت الحكم العثمانى، خضع الأقباط لكل أنواع القهر، لدرجة جعلت الباحثة تصف تلك الفترة بأنها أحلك فترة عاشها الأقباط عبر تاريخهم. ولقد أشارت الباحثة إلى قيام الأقباط ببعض الثورات ضد المماليك، بينما لم تذكر ثورات الأقباط السابقة والأعنف – والمعروفة بالبشمورية نسبة لمنطقة أحراش البشمور بشمال الدلتا - وكانت بدأت تحت الحكم العربى الأموي وإستمرت إلى العصر العباسى، أت على مدة مائة سنة.
التحديث والليبرالية فى مصر
بمجئ محمد على باشا، ومع دخول مصر القرن التاسع عشر، بدأت أحوال الأقباط تتحسن، وخصوصا بعدما ألغيت الجزية، وخضع كل المصريين لضريبة واحدة وشاركوا معا فى الخدمة العسكرية لأول مرة. وهكذا بدأنا نرى وصول بعض الأقباط لأرفع المناصب، حتى مناصب حكام الأقاليم ورئاسة الوزارة.
هنا بدأ تلاحم عنصرى الأمة المصرية (المسلمون والأقباط) فى أحسن الصور تحت زعامة سعد زغلول فى مواجهة الإحتلال البريطانى، وتقوم ثورة 1919 على أسس قومية علمانية. (وكان ذلك بعد أن كان الأقباط قد عبروا عن إحتجاجهم السلمى عام 1911 من جراء ما وقع عليهم من حرمان وتمييز رسمي، وفى وجود الإحتلال البريطاني). ويبدو أن إندماج الأقباط فى الحركة الوطنية، ومشاركتهم فى الكفاح والتضحية، كان له مردود سياسي واضح، إذ تبوأ بعضهم أرفع المناصب، مثل رئاسة الوزارة ورئاسة البرلمان والوزارات السيادية والتمثيل الدبلوماسي. ويمتد التلاحم الوطنى – السياسي الإجتماعى – لدرجة إعتبره بعض المؤرخين بمثابة "شهر عسل"، لنصل إلى عام 1922 ويبدأ المصريون (مسلمون وأقباط) فى صياغة أول دستور فى تاريخهم. والجدير بالذكر أن اعضاء لجنة صياغة الدستور من المسلمين إقترحوا النص فى الدستور على حرية العقيدة وضمان تمتع الأقليات (مسيحيين ويهود) بكل الحقوق أسوة بالأغلبية المسلمة، وقاد هذه المجموعة رئيس اللجنة، رشدى باشا، أحد رؤسا وزراء مصر السابقين. وكان من مؤيدي تلك الضمانات الدستورية - على الجانب القبطى - والمطالبين بتحديد نسبة للأقباط فى التمثيل البرلمانى، توفيق دوس باشا من حزب الأحرار الدستوريين، ومعه يوسف قطاوي والأنبا يؤنس (المطران القبطي)، وكان موقف هؤلاء غير موقف أغلبية الأقباط المنتمين إلى حزب الوفد.
وتلفت الباحثة النظر إلى أن الأعضاء الأقباط الثلاثة فى لجنة صياغة الدستور لم يعترضوا على النص فى الدستور بأن "الإسلام هو دين الدولة"، تصورا منهم بأن "شهر عسل" ثورة 1919 لا يزال ممتداً، ومع ذلك فات على مجموعة الأرستقراطيين – مسلمون وأقباط - أعضاء لجنة صياغة الدستور أن النص على أن "دين الدولة الإسلام" يلغى عمليا صلاحية النصوص التى تضمن حقوق الأقليات. (38)
وتسجل الباحثة إنهيار الحلم الليبرالى وإندلاع الأزمة الإقتصادية فى الثلاثينات وتصاعدها بعد الحرب العالمية الثانية فى الأربعينات، الأمر الذى ساهم فى ظهور منظمات ذات ميول فاشستية وإرهابية مثل جماعة الإخوان المسلمين، وشباب محمد، ومصر الفتاة، وكانت أيديولوجياتها تحرض على التمييز ضد غير المسلمين وتطالب بمعاملتهم على أساس انهم من "أهل الذمة" وليسوا مواطنون.
وتسجل الباحثة موقف حسن البنا، مؤسس و مرشد الأخوان المسلمين الأول، تجاه الأقباط، بقولها: "بينما كان يوصى المسلمين بعاملة الأقباط معاملة حسنة، كان يصر على أن تولى أى قبطي السلطة على المسلمين أمر يتعارض مع تعاليم الإسلام."(ص 52) ولقد تعرض الأقباط وكنائسهم لسلسلة من الإعتدات المتواترة، بل ووصلت هذه الإعتداءات لحد إنتشارها فى كل محافظات الصعيد، فيما عدا مدينة أسوان. ولم يقتصر العدوان على الرموز الدينية، بل ولم يعد فى مقدور الأقباط خوض حملات إنتخابية كما كان يحدث قبلا، فى العشرينات، إذ تعرض المرشحين منهم للضرب، ولم يستطع حزب الوفد أن يفعل شيئا.
أمام هذا التحول الجذرى فى العلاقة بين الأقباط والمسلمين، عادت جريدة مصر القبطية ذات التوجه "الوفدي" لتطالب فى عام 1946 بوضع ضمانات دستورية لحماية حقوق الأقباط. هذا فى الوقت الذى إمتدت فيه الإعتداءات على الأقباط فى محافظات الدلتا، ويبدو أن الصراع بين الملك وحزب الوفد، جعل الأول يمتطى الموجة الشعبية الإسلامية ويوجهها ضد الحزب، الأمر الذى أجج نعرة التعصب وصعد العدوان على الأقباط.
أحقا أن "التاريخ يعيد نفسه". لا أعتقد إطلاقا.. إنها مقولة خاطئة فلسفيا وواقعيا، ولكن أحداث الحاضر قد إستدعتها، إذ أن ما شاهدناه بالفعل عبر العقود الأربعة الماضية وإلى اليوم لا يختلف كثيرا فى أحداثه وعوامل نشؤها عما حدث فى العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين!
نقول ونؤكد أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الحادث أن هناك من الشعوب من لا يزال يعيش فى الماضي، والمستقبل يطل علينا اليوم برياح جديدة تحمل الحرية والعدالة والمساواة، رغم أنف عبدة شياطين الماضي!!
* رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان
التعليقات