عجبت لوضع الأنظمة العروبية والمستعربة المتربعة على عرش وسدة الحكم في منطقة الشرق الاوسط، فانها لا تعي ما يدور من حولها وكأنها تقرأ التاريخ بالمقلوب ولا ترى الحاضر والمستقبل. أحياناً نقرأ صُفيحات التاريخ عَلَّنا نجد فيه ضالتنا وطريق خلاصنا، إذ نتعظ من سلبيات الأقوام التي سبقتنا أو السُبل الخاطئة التي كانت تتبعها حتى وصل بها الأمر إلى الانهيار والإضمحلال. كثيرة هذه الأمثلة في تاريخنا الحافل بالنكسات والنكبات والهزائم التي حولتها الألسنة التي تحيط بالقائد أو الزعيم أو الرئيس إلى انتصارات ونجاحات ما بعدها نجاح.
فقراءة مبسطة لتاريخ منطقتنا في القرن العشرين الذي يستذكره معظمنا يكفينا ويكفي الأجيال اللاحقة أيضاً، كي تعي ما كنا عليه وما هي الأسباب التي دفعتنا للوصول إلى هذه الحالة التي يرثى لها ويتأسف عليها كل من يحمل بين جنباته ولو قليلا من الوجدان والأخلاق. فوقوع الأنظمة التي وصلت إلى سدة الحكم في احضان الاستعمار آنذاك وعملية التكيف التي قامت بها من أجل الحفاظ على ما وصلت إليه واستمرار هذه السياسة إلى راهننا، هي نتيجة طبيعية لوصول المجتمع إلى حالة الإنغلاق والتقوقع على الذات وبالتالي أخذ شكل مجتمع استهلاكي بعيد كل البعد عن الإنتاج والإبداع ولو في مستواه الأدنى.
فنظرة استطلاعية سريعة على الأنظمة العربية المتواجدة الآن في الساحة تُغنينا عن التحليل والنقاش لمعرفة ما ستؤول إليه أوضاع المجتمع من مأساة وتراجيديا. إذ أنه ليس المجتمع الفلسطيني لوحده فقط ينبغي على الأنظمة تحريره من الاستعمار كما يَدَّعون ويقولون في خطاباتهم الإعلامية المتلفزة وشعاراتهم العفنة التي ملّ منها الجميع، بل إن كافة المجتمعات في الشرق الأوسط ينبغي أن تتحرر من الأنظمة المتواجدة والمتسلطة على رقاب الشعب المختنق والذي لا حول له ولا قوة. وحسب ما أعتقد أنه ليس هناك قوة يمكن ان تغير شيء إذا لم تستطيع تغيير ما في ذاتها أولاً. فكفى لتلك الأنظمة أن تطبل وتزمر من أجل الديمقراطية والعدالة والسلام وعليها أن تبدأ بذاتها كخطوة أولى لتنتشل مجتمعها من الهوة التي هو فيها.
وإن الخطوة الهامة هنا لكي يعبر المجتمع عن ذاته هو أن يقوم المثقفون بدورهم الملقى على عاتقهم بتوعية المجتمع الشرق أوسطي وتخليصه من فكرة ونظرية وعقيدة القائد الضرورة والحزب الأبدي والعدو الأزلي والقوموية العروبوية السرمدية. لأن هذه المفردات والمصطلحات تعتبر أكبر داء أصاب الشعب وراح يتغلغل بين أحشائه حتى ولج نخاع عظامه. فليس هناك شيء اسمه سرمدي وأبدي بالنسبة للإنسان (عدا عزَّ وجَلّ هو المطلق)، وأن كل أمر في تغير دائم ومستمر وكذلك الإنسان وقوانينه.
ولكن والحالة هذه، لا تريد الأنظمة اللاهثة وراء مصالحها الشخصية والعائلية أن تعي هذه الأمور وتقوم بتغيير منهجها وسلوكها وذهنيتها، وتسمع لما يريد أن يقوله الشعب. فهذا هو الواقع الذي نعيشه الآن.ودليل ذلك ما يحدث الآن في العراق، فبعد أن ركب النظام رأسه (كما يُقَال) ولم يلتفت إلى شعبه وراح يقتل بهم ويرميهم في القبور الجماعية واستخدم بحقهم كافة صنوف الأسلحة، كانت نهايته التراجيدية والمأساوية بالنسبة له ولعائلته. وكذلك الحال بالنسبة لسورية فبعد كل الآمال التي عقدتها على تدخلها في الحالة العراقية واستخدامها الورقة الفلسطينية واللبنانية لتثبت قوتها، راح كل ذلك أدراج الرياح بزيارة مسؤول امريكي واشهار عصا التحديد والوعيد لها. حتى رأينا سورية تنصاع لهذه الضغوط رويداً رويداً حفاظاً على ماء الوجه والمكانة التي هي فيها وأن لا تصبح كعكة وفريسة بأيدي الآخرين كما حدث للعراق. وهناك الوضع الليبي الذي انقلب مائة وثمانون درجة من رامبو العرب وسوبرمانه إلى انسان وديع وأليف ينفذ ما يطلبه أسياده منه بدون تذمر ولا "آه"، ويدفع لهم الملايين من الدولارات كتعويضات لما فكر به ونفذه هنا وهناك دفاعاً عن شرف الأمة العربية كما كان يَدَّعي.
الأنظمة العربية إذا أرادت أن تبقى على عرشها الأبدي عليها أن تُصغي إلى الآخر وتنفذ ما يطلبه وتمنح الحقوق للآخرين بعيداً عن التفرقة القومية والدينية والسياسية، عسى ولعل يرضى عنها الشعب وتستمر لعدة سنوات آُخَر. لكن واقع الحال يقول إن هذه الأنظمة لا تعي وتفهم إلا بأن يلوح لها أحداً بالعصا ويقوم بتهديدها كما تقوم امريكا الآن بفعله على ظاهرة الأنظمة العروبوية الشوفينية العنصرية. هل هذه هي حقيقتنا وواقعنا؟ أم أن حكامنا أدامهم الله هم الذين أوصلونا إلى ما نحن عليه. لذا على المثقفين أن يقوموا بواجباتهم وما تمليه عليه أمانتهم الأدبية والثقافية بأن يجعلوا تنمية المجتمع ثقافياً واجتماعياً وحتى سياسياً هدفهم الأساسي، لأن بدون تنمية وازدهار أي مجتمع لا يمكن الحديث عن التقدم والتطور والإبداع.
ونحن بحاجة ماسة إلى المثقف السياسي قبل السياسي المثقف، لأن المثقف السياسي يدرك تمام الإدراك كيف يوجه المجتمع في طريق الصواب ويحميه من كل الهجمات لبلوغ الهدف السامي في خلق الإنسان، بينما السياسي المثقف هو أيضاً يدرك، ولكن ماذا يدرك؟ يدرك كيف يستغل المجتمع في مصالحه السياسية الضيقة والآنية. فهناك فرق كبير بين مثقف سياسي وسياسي مثقف واننا لسنا بصدد الدخول في هذا الموضوع هنا لأننا سوف نعطيه حقه في مقال آخر.
صحافي عراقي
التعليقات