قد يستنكر بعض القراء هذا العنوان ولكن دعونا نغوص في أعماق بعض الأفكار الصهيونية التي نجد لها صدى كبير في بعض العقول العربية وبالتالي نجد المثقف العربي يخدم الفكر الصهيوني من حيث لايدري وهذا الفكر يمكن أن نعتبره ظاهرة غربية، عرقية، وإمبريالية، وإستعمارية وهو جزء لايتجزأ من الفكر الغربي الإمبريالي الذي لم يحصل على ماحصل عليه من مكاسب، ولم ينهب من ثروات الأمم إلا من خلال الحروب والإبادة والإحتلال بقوة الآلة العسكرية الغربية وبناء المستعمرات والقواعد العسكرية وحملات التطهير العرقي وليس من خلال المفاوضات والحديث العقلاني الهاديء وإن نادى بهذا الإتجاه بين الحين والآخر، ففكرة معاداة السامية أي معاداة اليهود هي في الأصل فكرة صهيونية تبناها النازيون الألمان قبل أن تتبناها بعض العقول العربية. ودأبت الأفكار الصهيونية على الدوام بإتهام يهود المنفى، بالهامشية والشذوذ والعجز وأنهم لاخير فيهم وتبنت هذه الأفكار بعض العقول العربية فهي لم تميز بين الصهيونية وبين اليهودية مع العلم أن الوجود اليهودي في العالم الإسلامي لم يكن هامشياً، حيث تفاعلوا في محيطهم الحضاري وإصطبغوا به فأبدعوا من خلاله وإنخرطوا في سائر المهن والوظائف. ولهذا إنقلبت بعض المفاهيم في بعض العقول العربية تجاه الفلسطينيين لدرجة أن اللاجئين الفلسطينيين في المنفى أتهموا بالهامشية والعجز وأنهم لاخير فيهم لدرجة أن بعضهم يقول لو أن هناك أي خير فيهم لحرروا أراضيهم، كما تبنت بعض العقول العربية الأفكار الصهيونية بجعل الوجود الفلسطيني في العالم العربي هامشياً ويحظر عليهم التفاعل في محيطهم الحضاري حتى لايندمجوا فيه ولايبدعون وحظر عليهم سائر المهن والوظائف. ولو نظرنا الى بعض الدول الأوروبية التي تتمتع بالحضارة الغربية نجد أن الوجود الفلسطيني في أمريكا وفي الغرب عموماً لم يكن أبداً هامشياً وإنما كان في صميم المجتمع الذي أسبغ عليهم صفة المواطنة من غير منه. ويرى الصهاينة أن وجود اليهود في المنفى والشتات (أي خارج فلسطين) حالة شاذة وهكذا يتبنى بعض المثقفين العرب نفس الأفكار وبتحوير بسيط أي ينبغي أن يبقى الفلسطينيين في المخيمات كحالة شاذة حتى لايضيع حق العودة وكأنما المخيم هو الذي سيحفظ حق العودة، وقد إنعكست هذه الظاهرة سلباً على الفلسطينيين حيث ظهر إزدواج الولاء عندهم. فهم نظراً لإفتقادهم الى الوطن وشدة المعاناة في المخيمات فإنهم يضطرون الى أن ينتمي الواحد منهم الى مجتمعات غربية غريبة يحاول أن يندمج فيها ولهذا نجد أن الفلسطيني أكثر إندماجاً في المجتمعات الغربية عنه في المجتمعات العربية وفي نفس الوقت نجد أن نزعته الشرقية الإسلامية الحقيقية تستمر في التعبير عن نفسها رغم أنفه، فينقسم على نفسه وتتنازعه الولاءات المتناقضة. ولهذا ظهرت بعض الأفكار المعادية لعزل اللاجئين الفلسطينيين عن محيطهم العربي الحضاري والإجتماعي وينظرون إليهم من خلال نماذج دنيا يجب أن تعيش في مخيمات ليبقى الفقر يداهمهم حتى لاتقوى شوكتهم وهي في الواقع تخدم مصلحة الدولة الصهيونية فمن يتبنى هذه الأفكار داخل العقل العرقي فقد تبنى الفكر الصهيوني من حيث لايدري.
ولو نظرنا الى النظام الديموقراطي الغربي نجد أن صنع القرار يتم من خلال مؤسسات الدولة الحديثة ويشارك أعضاء الجماعات منفردين أو مجتمعين في السلطة وعلى سبيل المثال يعد تعيين مادلين أولبرايت وزيرة للخارجية الأمريكية وهو يعتبر من أهم المناصب بل ثالث منصب من حيث الأهمية في الولايات المتحدة الأمريكية فهو تعبيراً صادقاً عن المساواة في المشاركة في السلطة، ولهذا لن نستغرب كيف جاء تيودور هرتزل (1860-1904) الصحفي النمساوي اليهودي على رأس المنظمة الصهيونية بل مؤسسها والمهيمن عليها حتى وفاته، ولهذا لم تمنعه هويته النمساوية من تأسيس هذه المنظمة وفي هذا رد على التيار المنادي بالحفاظ على الهوية الفلسطينية. هذا ولم يمنع إكتشاف نشاط الجاسوس الأمريكي اليهودي بولارد، من دعم أمريكا المستمر لدولة إسرائيل. هذا ولم تمنع الجنسية البولندية كل من ديفيد بن غوريون، ومناحم بيجين، وشيمون بيريز، وإسحاق شامير من الوصول الى قمة الهرم في دولة إسرائيل وكذلك لم تمنع الجنسية الروسية كل من حاييم وايزمان، وفلاديمير جابوتنسكي وليفي إشكول من الوصول أيضاً الى قمة الهرم في دولة إسرائيل وكذلك لم تمنع الجنسية العربية التي كان يتمتع بها كل من ديفيد ليفي وشاحل من الوصول الى قمة الهرم في دولة إسرائيل والأمثلة على ذلك كثيرة من اليهود الذين لم يولدوا في إسرائيل وإنما كانوا يحملون جنسيات غربية ويتكلمون الإنجليزية أمثال جولدا مائير، وموشيه أرينز، ومائير كهانا وأبا إيبان الذين وصلوا أيضاً الى قمة الهرم في دولة إسرائيل. وكما وجه الفكر الصهيوني النقد اللاذع لليهود وناقشوا المسألة في إطار نفع اليهود وهي عبارة عن مدى نفعهم للمجتمعات التي يوجدون فيها وهو منظور رفضهم وعدم قبولهم كبشر لهم حقوقهم الإنسانية المطلقة إذا لم يكن الواحد منهم نافعاً ومنتجاً بل يجب التخلص منه إن أصبح غير نافع وغير منتج وهي نظرة علمانية مادية تتساوى مع ماتطرحه الحضارة الغربية من أفكار غير إنسانية ومفهوم نفع الإنسان مفهوم محوري في فكر حركة الإستنارة نابع من الأفكار المادية البحتة وعند مقارنة وضع الفلسطينيين (في الشتات العربي وليس الغربي) بمثل تلك الأفكار نجد أن كثير ممن يحملون عقولاً عربية تنظر إليهم بنفس النظرة المادية غير الإنسانية، مستبعدين نظرية الجسد الواحد التي نص عليها الحديث الشريف بقوله (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وكأنما أصبحنا نحمل شعارات جميلة غير قابلة للتطبيق في هذا الزمن أما زمن المهاجرين والأنصار الذي آخى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بينهم قد ولى وذهب. ومثال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هو بحد ذاته رد على كل مثقف أو متملق ينادي بالحفاظ على حق العودة بترسيخ عوامل الشتات الفلسطيني.. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل للمهاجرين عيشوا في أطراف المدينة وفي مخيماتها حتى يثبت حقهم في مكة بعد أن هاجروا الى المدينة، وكان عمر بن الخطاب يعطى رجل يهودي أعمى من بيت مال المسلمين كصدقة، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور جاره اليهودي إذا مرض أما اليوم فهناك مسلمين لا إسلام بينهم و لا يعرفون سوى لغة الاضطهاد والإقتصاد، وأريد أن أتسائل هل هناك دولة عربية واحدة تعطي المقيم الفلسطيني العاجز حق من الضمان الإجتماعي فيها؟ أو تعطيه حق العلاج المجاني في مستشفياتها؟ رغم أن هذا المقيم الفلسطيني كان في شبابه يخدم هذه الدولة أو تلك بما أوتي من قوة فأرحموا ضعفهم يرحمكم الله. وكثير من أصحاب العقول العربية تتعامل مع الفلسطينيين كما تعامل الفكر الصهيوني الغربي مع اليهود في العصور الوسطى حيث كان ينظر إليهم بإعتبارهم مادة بشرية تستقدم للمجتمع كي تستخدم وتقوم بدور أو وظيفة محددة، ويتم قبولها أو رفضها في إطار مدى النفع الذي سيعود على المجتمع من جراء هذه العملية بل وينبغي الحفاظ عليهم في المخيمات بسبب دورهم الذي يلعبونه في المنفعة الإقتصادية للدول التي تشارك في اللعبة السياسية، ولكن هذا الوضع لن يستمر طويلاً بسبب التحولات العميقة التي يخوضها المجتمع العربي في ظل سياسة الإصلاح التي بدأت تعتمدها الدول العربية تجاه مواطنيها والمقيمين فيها والسياسات التي بدأت تطبق لمحاربة الإرهاب والعنف بعد الأحداث الأخيرة التي لم تستثني أي دولة عربية فجميع الدول العربية وقعت فيها حوادث إرهابية وهناك أسباب أخرى ومنها الدعوات المتكررة من أطراف عديدة لإعلاء الحرية والديموقراطية في العالم العربي بعد إحتلال العراق قبل أن يتكرر نفس السيناريو لإستخدام القوة لتطبيقها أو فرض النموذج الغربي على دول العالم العربي إذا نجحت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في العراق ومن الأسباب أيضاً التأكيدات الأخيرة حول فرص السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولاسيما أن الولايات المتحدة ستساعد الطرفين على حد زعم بوش "إقامة دولتين ديمقراطيتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنبا إلى جنب بسلام" وقد يتحقق هذا السلام ولكن بصورة مؤقتة لأن الخلاف جذري وعميق فهو خلاف بين عقيدتين ومن أجل تثبيت قيام دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية لذا لايمكن فهم تاريخ الحركة الصهيونية ولاتاريخ العداء لليهود أو للفلسطينيين إلا في إطار مفهوم المنفعة المادية البحتة التي يتمتع بها الفكر الصهيوني.

مصطفى الغريب – لندن