لاتبنى اي مؤسسة على النيات الحسنة او الصافية، فكيف بدولة تمتلك سلطات كبيرة، واكبرها سلطة استعمال القوة او سلطة احتكار القوة، بالاضافة الى سلطة تشريع القوانين، وجباية المال واعادة توزيعه.

بعد ان تطرقت الحلقة الاولى من هذه السلسلة الى كيفية ضمان حقوق القوميات (من خلال انشاء مجلس القوميات او الشيوخ) الحلقة الثانية لكيفية ضمان حقوق المذاهب والاديان (من خلال الدعوة لعلمانية الدولة) والافراد من الناحية الدينية، والثالثة لتفنيد نظرية وجود الدولة الاسلامية (عدم امكانية التعايش بين سلطة دينية والدولة المعاصر وما تكبله بها القوانين الدولية التي يجب ان تعلى على القانون الوطني)، نتطرق في هذه الحلقة الى الضمانات التي يجب ان يتمتع بها المواطن.

كانت ولا تزال بعض الدول تتعامل مع المواطنين كرعية، عليهم السمع والطاعة، ولكن من اهم ما ادخله التطور على ما نتج عنه الدولة( بعد انقطاع التطور الحضاري بسقوط روما، عاد التطور القانوني لمسيرته برغم بطئه، ليستقر على تأسيس الدولة الحديثة وبداية العودة نعتبرها في مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في القرت الثالث عشر في بريطانيا، حيث لاول مرة تنص وثيقة على الحد من صلاحيات حاكم ما)، هو حقوق المواطنين، والتي هي في حالة تطور دائم، على حساب حقوق الدولة، والتي هي في انحسار مستمر، فعليه ضمن حوارنا المستمر عن الدستور العراقي المقبل علينا ان نطرح هذه المسألة بصورة واضحة، فالحقوق ليست مسألة يمكن الركون فيها الى التطمينات اللفظية، بل يجب ان تكون واضحة وان يدعم هذه الحقوق مؤسسات متعددة، فالبلد الذي لا يحمي مواطنيه من جور السلطات التنفيذية، لن يحميهم من اعتداء خارجي.

ان احد اهم ما يجب ان يحتويه الدستور الجديد، والدول العصرية سائرة، الى تضمينه، هو الاعلان العالمي لحقوق الانسان، الصادر بتاريخ 10/12 /1948 ميلادية، والذي يمكن الاطلاع عليه على الرابط ادناه.

http://www.un.org/arabic/aboutun/humanr.htm.

سبق ان قلنا ان ادراج الحقوق ليس بكافيا، فالعراق كان من الدول التي وقعت على الميثاق هذا وغيره من المواثيق، الا انه عمل (نظام الحكم في العراق) بكل ما يخالف ذلك، فاقترفت ابشع الجرائم ضد الانسانية، وبعض هذه الجرائم مصنف جرائم ابادة، كما ان المواطن كان متهما الى ان يثبت برائته، والحقيقة فأن اي مادة من مواد هذا الاعلان، وكذالك اي مادة من مواد الدستور المؤقت، والخاصة بحقوق المواطنيين لم تنفذ، بل عمل عكسها تماما، وكان سائدا ان القانون شئ والممارسة شئ اخر.

كما ان اطراف عديدة في الدولة طبقت قانونها الخاص، والذي كان فوق اي قانون او اعتبار، وهذا ما ادى الى ان مكانة القانون والحقوق غير واضحة لدى العراقيين اجمعيين، لا بل ان الكثيرين ممن التجاؤا الى دول اخرى، لم يتمكنوا من الدفاع عن قضيتهم، لعدم درايتهم كفاية بماهية بحقوق المواطن.
سمعنا كلنات مصطلح الدول الفاشلة والذي انتشر استعماله في العقد الاخير من القرن العشرين، وكان يقصد به الدول التي لم تتمكن برغم من استقلالها التام، وكون الحكام من نفس شعب الدول، من احراز اي تقدم، في حقوق المواطنيين، او في معيشتهم او في امنهم، بل ان السلطات الحاكمة بددت ثروات الدول في حروب لا طائل من وراءها (هذا اذا كان هنالك طائل من وراء اي حرب اصلا)، بل ان الحكومات صارت تحكم استنادا الى ايديولوجيات اغلبها شوفينية استئصالية، لا تقبل اي تمايز ولا حتى في الملبس، في ظل مثل هذه الدول، تقوقع المجتمع على ذاته، وبدلامن التأثر بالعلوم والمعارف والاعلام الحديث وما يفرزه ذلك من الانفتاح على جميع الصعد، تفتت المجتمع الى اولياته ما قبل الدولة اي العشائرية وقيمها، هذا من الجانب القانوني والاجتماعي، اما من ناحية الاقتصاد فحدث ولا حرج، فكل امكانيات الدول تم التفريط فيها في حروب او مؤامرات لتحقيق احلام السلطات، كل هذا حدث في غياب مؤسسات الدولة، وما صنع منها كان على الاغلب كديكور لتزين الموجود والتباهي وليس لممارسة دور رقابي.

اذا دولنا تراجعت الى ما قبل حقب الاستعمار الاوربي، الى زمن السلطة العثمانية في مجالات بناء الدولة، برغم من تمتعنا بالتلفاز والاجهزة الكهربائية الاخرى وبالملابس التي تأتينا من شارع شانزلزيه وغيره من شوارع اوربا.

من الضمانات التي لا يجب ان يغيب بال اي مشرع عنها هي المحكمة الدستورية او العليا، هذه المحكمة يجب ان يتم وضع الية تشكيلها بحيث لا تتمكن السلطة التنفيذية او التشريعية من التاثير في قراراتها، وان تضمن استقلالية هذه القرارات وان يكون لهذه المحكمة سلطة تنفيذ القرارات، ان عملية موازنة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية هي مهمة جدا، لكي لا يطغى اي منها على الاخر.

ان المحكمة الدستورية هي ضمان لتفسير القوانيين والدستور، صحيح انها ممكن ان تتاثر برؤية اعضاء المحكمة، الا ان هذا التاثير سيكون بحدود الرؤية وهي مسألة محددة بزمن وليس التناقض مع مواد الدستور، فالعضو المحافظ يفسر بعض الحريات تفسيرا محافظا، والعضو اليبرالي يفسرها اكثر تحررا، وهذا ضمن المتعارف عليه، اي ليس متناقضا مع القانون.

ان اقامة دولة القانون، ومجتمع يحترم القانون، ويتعامل مع افراده الذين يحترمون القانون بتقدير وليس مجرد اعتبارهم جبناء كما كان الحال سابقا، هو ضمانة الضمانات لاي دولة تحترم مواطنيها، لان القانون سيبقى الملجاء الاخير والفيصل لاي مواطن اراد انصافه، سواء كان هذا الملجاء محكمة عادية او القدرة على الوصول للمحكمة الدستورية، وبهذه يمكن تحجيم الدولة او الموظفين لدى الدولة من التمادي، والعمل ضمن صلاحياتهم باعتبارهم موظفين لخدمة المواطن، الذي يدفع رواتبهم من جيبه الخاص، باعتبار ان رواتب موظفي الدولة من رئيس الجمهورية الى اصغر موظف هي استقطاع من الميزانية، التي يحب ان توزع بالعدالة بين المواطنين. وهذا يشمل سلطات تنفيذ القانون من الشرطة والاجهزة القمعية الاخرى، وكذالك الجيش، ان مسألة احتواء سلطات تنفيذ القانون والجيش، يتطلب اتفاق جميع التوجهات السياسية ومنظمات المجتمع المدني الاخرى،على ان تدخل هذه السلطات في السياسة من المحرمات، وانها يجب ان تخضع لمؤسسات الدولة ( السلطات التنفيذيو من ناحية التعين والنقل والترفيع واداء المهمات، والتشريعية من ناحية المسألة وتجديد الثقة او رفعها، والسلطات القضائية من خلال الخضوع لما يبدر منها من قرارات عقابية).

يجب الادراك التام انه لايمكن اقامة الدولة الفاضلة، لسبب بسيط ان هنالك مؤثرات انسانية فيها، اي ليست مسيرة الدولة بشكل الي، ولكن افضل نظام حكم هو النظام الذي يتمكن من ان يتطور داخليا وبشكل سلسل كما هو في الدول المتقدمة، ولماذا نقول عنها دول متقدمة، لانها خلقت بيئة لابناءها لكي يتطوروا، ويطوروا مهاراتهم ضمن اطار قانوني لا يميز في ما بينهم بأي شكل، وليس مثل الدول التي اسميناها الدول الفاشلة، والتي تحتاج الى هزات خارجية لكي تصحو وتسير في الدرب المؤدي الى الاستقرار والامن والتساوي والتطور.

ان عالم اليوم لن يرحم من يتباطئ عن المسير، لانه ببساطة عالم مترابط، فمن تباطء، سيكون سببا لاذية الاخرين، وهذا ما نشاهده بأم العين، فالدول الكبرى والتي تمتلك ترسانات من الاسلحة الفتاكة ومن الحضارة الممتدة في عمق التاريخ ومن ثقافة راسخة، تمنح مقاليدها لقانون الحياة والمسار الانساني،وتخلي عن عنجهياتها وتقر بوجود قوانين عالمية واجبة القبول والتنفيذ.

فلندخل العالم من بابه الواسع باحترام الانسان كانسان، لانه القيمة العليا، وبضمان حقوقه وتهيئة ظروفه لكي يكون دوما هذه القيمة العليا.

تيري بطرس