مضى شهر وهل ثان وبقيت عشرة أشهر طوال في عام جديد أهل علينا بما له وما عليه وذلك في وقت دخلت فيه منطقتنا في صلب القرار السياسي العالمي بعد أن ظلت تعيش على هامشه لمدة تزيد على نصف قرن وذلك أن المنطقة لم تكن سوى مخزن لوقود النفط المصدر الأول للطاقة في العالم وربما لهذا السبب فقط شعر العالم بأهميته أثناء حرب أكتوبر 1973م بعد أن قرر العرب الاستجابة لدعوة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله بقطع النفط دعما لموقف الدول العربية المحاربة مصر وسوريا وأطلق في حينها مقولته الشهيرة النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي وقفزت أسعار النفط حينذاك لأسعار خيالية نتيجة لتضامن العرب ووقوفهم صفا واحدا لكن هدأت الأمور وعادت المنطقة لحالة من التهميش خصوصا بعد عقد معاهدة السلام بين مصر أكبر الدول العربية وإسرائيل وانتهاء الصراع العسكري المسلح بين العرب وإسرائيل.
لكن بعد أحداث سبتمبر وجدت المنطقة نفسها فجأة ودون سابق إنذار في وجه العاصفة التي جاءتها من حيث لا تحتسب ومن خلال قراءة متأنية للأحداث التي مرت في الشهر المنصرم يمكن أن نستشف منها ملامح العام الجديد عربيا فقد استقبل العام الجديد بانتخابات فلسطينية أسفرت عن فوز محمود عباس أبو مازن برئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية في جو ديمقراطي وبصورة حضارية تعكس وعي الشعب الفلسطيني بقضيته وبالظروف الدولية والمحلية وتكررت التجربة مرة أخرى في انتخابات المحليات التي أسفرت عن فوز ساحق لحركة حماس فاجأت الجميع وانتهى شهر يناير مع أول تجربة انتخابات عراقية منذ مايزيد على نصف قرن وسط حذر مشوب بالأمل تارة وبين التفاؤل المفرط من قبل بعض المحللين والتقليل من شأن العملية من قبل بعض آخر باعتبار ما شابها من عيوب ونقص نتيجة لإجرائها في ظل قوات الاحتلال من ناحية ولغياب فريق لا يستهان به عن المشاركة في العملية الانتخابية ومقاطعتها وهم أهل السنة الذين أعلن أكبر تنظيم من تنظيماتهم وهم جبهة علماء المسلمين مقاطعتهم المسبقة للانتخابات ورفضهم المشاركة نتيجة لعدم إعلان جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية وقوات التحالف من العراق.
من الأحداث الهامة التي مرت في الفترة القليلة الماضية من العام المنصرم خطابين للرئيس الأمريكي جورج بوش في فترة وجيزة الأول كان بمناسبة تتويجه لفترة رئاسية ثانية أكد فيه على استمرار سياسته في تأكيد الحرية ونشرها في كل مكان باعتبارها حصن الأمان لحماية المجتمع الأمريكي الحر ضد أعداء الحرية وفي خطابه الثاني عن حالة الاتحاد أمام الكونجرس الأمريكي وفيه هدد دولتين من دول المنطقة باعتبارهما من داعمي الإرهاب وهما سوريا وإيران فالأولى تدعم المنظمات الإرهابية والثانية تسعى لامتلاك قنبلة نووية كما طالب دولتين أخريين بدعم الديمقراطية وهما مصر والسعودية وأثنى على مجموعة دول أخرى كالبحرين والأردن والمغرب بمعنى آخر صارت المنطقة في واجهة الأحداث وأمام تحديات كبيرة وكثيرة ويبدو أن الإدارة الأمريكية بعد إعادة انتخابها مصرة على تنفيذ خطتها في إصلاح المنطقة المعروفة باسم مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وسط هذه الأحداث الكثيرة والمتعاقبة على منطقتنا التي اشتهرت بالثبات والهدوء لفترة زمنية طويلة لم تشهد فيها تغييرات من أي نوع تحولت لمرجل يغلي بالأحداث والتطورات ورغم ما يبدو للمراقب بطء التغييرات في المنطقة فإن نظرة فاحصة وعميقة تكشف أن حجم التغييرات التي مرت في السنة الماضية وحدها ربما تجاوزت ودون أدنى مبالغة حجم التغييرات التي مرت بها المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عاما وإذا أردنا أن نضرب أمثلة تؤكد هذه الرؤية نشير إليها سريعا في نقاط محددة على النحو التالي:
-معاهدة السلام التي جرت في السودان بين الحكومة السودانية وحركة التمرد الجنوبي بقيادة جون جارنج والتي استمرت الحرب بينهما لمدة تزيد على ثلاثين عاما خلفت دمارا وقتلا هائلا وفتحت الطريق نحو نهاية الصراع في هذا البلد العربي الذي مزقته الحروب والصراعات وسينتهي الصراع في إقليم دارفور قريبا نتيجة لضغوط خارجية ويحتاج هذا البلد الشقيق لحركة وفاق وطني تجمع جميع أطيافه ليبدأ مسيرة التنمية مستفيدا من كنوزه وخيراته بعيدا عن الاحتراب الداخلي.
-ستشهد المنطقة انفراجة حقيقية في مجال الحريات وحقوق الإنسان وستجري انتخابات لأول مرة في بلدان محافظة كما ستشهد بلدان أخرى كسوريا تجربة تعددية سياسية لم تعرفها من قبل فستفتح الباب أمام حركة تأسيس الأحزاب وربما تتبعها دولا أخرى كالجزائر وليبيا.
-ستبدأ قوات التحالف في الانسحاب من العراق قبل نهاية هذا العام إذا استقرت الأمور وتم تشكيل حكومة وفاق وطني تمثل كافة الاتجاهات والطوائف في العراق وكانوا على وعي بحجم المسئولية ولم تدخل الأطراف العراقية في حروب طائفية توسع الشقاق والفرقة فيما بينهم وتدع الفرصة أمام هذه القوات الاستمرار لأكبر وقت ممكن.
-هناك حالة من الانتعاش الاقتصادي في كثير من بلدان العالم العربي وخصوصا منطقة الخليج نتيجة لارتفاع أسعار النفط لأسعار خيالية كما ظهرت حركة انتعاش اقتصادي في بعض البلاد الأخرى كالأردن وهناك بوادر انتعاش اقتصادي في مصر بعد اتفاقية الكويز بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل مؤخرا ظهرت آثارها في ارتفاع معدل حركة الأسهم في البورصات العربية بصورة مرتفعة جدا مقارنة بالأعوام السابقة.
-وأخيرا جاء اغتيال رفيق الحريري في قلب بيروت وفي وضح النهار ليصب الزيت على النار ويزيد من وتيرة الأحداث وسرعتها نحو التغيير.
هذه مؤشرات على أن المنطقة تسير نحو التغيير وأن حركة التطوير والإصلاح بدأت بوتيرة تكاد تكون غير متسارعة لكنها متلاحقة ولا يمكن إيقافها أو التقليل من شانها وعلى الجميع أن يستعد لمرحلة جديدة من التغيير بدأت مؤشراتها منذ سقوط بغداد وستستمر لعقود قادمة سينتج عنها تغييرات جذرية وعميقة في المنطقة وستشمل كل مجالات التغيير السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فهل استعدت الحكومات والشعوب لانتهاز هذه الفرصة وتطويعها نحو الأفضل أم أنها ستترك الأحداث تشكل المنطقة حسب الصدفة دون تخطيط منظم ورؤية مستقبلية هذا ما ستجيب عنه الشهور القادمة من عام 2005 الذي بدأت ملامحه تتشكل في الأفق.

كاتب مصري
[email protected]