سيعذرني بابلوا نيرودا!،مستعيرا صرخة استنكاره ؛
تعالوا انظروا الدم في الشوارع..
تعالوا انظروا الدم في الشوارع..
تعالوا انظروا الدم..

صرختُ:
تعالوا انظروا الدم في بابل!!....
وكأني بالديكتاتور يقف صارخاً بلهجة جلاد عتيق مرّ بمزاميره على بابل:
يا اَبنةَ بابل الصّائرةَ إلى الخراب، هَنيئًا لِمن يُعاقِبُكِ على ما فعَلْتِهِ بنا. هَنيئًا لِمن يُمسِكُ أطفالَكِ ويضرِبُ بِهمِ الصَّخرةَ..
صخور المكان لطّخها الطاغية بإسمه ورموزه..
غيّر وجه بابل، بعد إن بنى جبلا هشا جلب له ترابا صحراويا سيحيل المكان الى طمي..
صارت بابل الى الخراب..
ألقى بأطفالنا الى الصخرة..وهو يقول هنيئا هنيئا لعلي كيمياوي.. هنيئا لسبعاوي..إنكم والله تقاتلون نيابة عن العرب!!..
صخور المكان بعثرها سرّاق التاريخ أيضا واختلط عليها الدم..
صخور المكان مرّ عليها قاتل ما سمعنا بمثله في أهلنا الأوليين؛ قاتل يذبح الموتى!!..
صخور المكان مقلوبة في المشهد البابلي..
قريبا منها كانت الكاميرا تدور..أرض لم تعد صالحة للزراعة.. يجتمع فيها خلق كثير، من بين أقدامهم يتصاعد الغبار والألم والصراخ،كما لو انه عزاء جماعي،إنه عزاء جماعي حقاً.
هل هو فلم؟!.
ليس في المكان سوى كاميرا واحدة.. يحملها شاب ثلاثيني عليل قادم من منفاه النرويجي،تركت الغربات على كبده وجعها وأحزانها..
ودونما سينوغرافيا أو ديكورات..تخرج مجموعة نساء يشبهن ما نسمع عنه في الحكايا السومرية عن مسيرة النادبات بعد الطوفان..أو هي الى حدّ بعيد كتل سواد كانت تحاذي الجنازات العراقية حيث يصطف الرجال لحمل تابوت..كان -في الغالب- جثة مثقلة بشظايا الحرب..فأهل المعدوم لا يأخذون نصيبهم في الحزن والتشييع فهو ممنوع بأمر رئاسي،يستلمه الأهل بعد التوقيع على استلام الجثة شرط دفع سعر الإطلاقات النارية للجريمة.
لم يكن بين النادبات "ننجال" تلك الملكة السومرية الأولى في الندب.. كانت أمهات يصرخن..قرب ذكرى عظام مقبرة جماعية.
الزمان:
آذار السنة الماضية،ذكرى اكتشاف اكبر مقبرة جماعية في مدينة بابل.
يتداخل الزمن والوجوه في تلك الحكاية،والكاميرا تجوب بين العيون الحمراء من شدة الحزن والمخضلّة بالدمع. بسهولة كنت سترى أسفلها أخاديد الألم العراقي..
كما يتكرّر في التاريخ العراقي ؛ ما أقسى ان لا يحظى الإنسان ببقايا من يحب.
ما أقسى ان يكون رجاءك في القاتل ان يدلّك على قبر من تحب.
كما لم يتكرّر ابدا في التاريخ؛ الأهالي يتشاجرون على بقايا عظام جماعية،كل واحد يظنّها لإبنه.

كان بطل الحكاية رجل في الخمسين..يسعل كثيرا..وهو يحدّث عن مشاهد الرعب..
- كنت في ارض مجاورة لهذا المكان اعمل.. وطيلة أيام كانت شاحنات عسكرية وأخرى مدنية تحمل سجناء من مختلف الأعمار.. أصغرهم كان ابن سنتين.. كانت تلقيهم في حفر هنا ويبدأ إطلاق النار عليهم.
وجه آخر يتحدث:
-ايها الناس اين وحيدي؟...كل هذه القبور والعظام ولم أجد وحيدي ..قالت إمرأة.. وكررتها بنحيب: لم أودّعه،أين ذهب وحيدي؟..
ووضعتُ يدي على قلبي كما في الأغنية..
موسيقى للناي تعلو،وكأن كل نغمة تمرّ في تجويف عظم لتحدث نشيجا لا يطاق..

وجهه ثالث دامع الكلمات،حتى لكأنه يسمع للتو بخبر مقتل إبنه:
- منذ سنة ونحن نأتي هنا..أخذوه منذ عام 1991 ونحن الى الان نشعر أنهم يعدمونه في كل يوم لا نجده فيه..
الرجل صاحب الأرض المجاورة قال:
- القائمة تجاوزت الألف وبضع مئات ممن تعرف الأهالي عليهم..لكن المكان أصبح مزارا ومقصدا لأناس يأتون بالآلاف كل شهر..
لهذا نحن بلد مزارات وآثار كثيرة أيها الشيخ..

وجه رابع..وخامس وسادس..
الوجوه تبتعد والكاميرا تنسحب عن المشهد العزائي..صوت الناي يخفت..رويدا رويدا..
انتهت الربع ساعة؛مدة الفلم..هل يُختصر سبينا وحزننا في هذه الدقائق البسيطة..

هذا الفلم حملته معي من أوسلو،وشجعت مخرجه المبدع ماجد جابر على إرساله الى فضائية الفيحاء التي ستعرضه مشكورة يوم 27-2-2005.
الفلم يحكي عن توسونامي كان لنا تحت ارض بابل لم يشعر به احد..
"ماذا احكي بعد"،حقا أنت مصيب يا صديقي ماجد بهذه التسمية لفلمكَ..
وماذا احكي بعد، سأقول فقط: تعالوا انظروا الدم في الفيحاء!!..