يبدو أن رياح التغيير التي تهب علينا نحن العرب والمسلمين في هذه المرحلة من كل صوب وحدب بصورة متلاحقة لا تترك لنا فرصة لالتقاط الأنفاس وكأننا انتقلنا فجأة من حال السكون والجمود لحال الحركة والانسياب وذلك في وقت دخلت فيه منطقتنا في صلب القرار السياسي العالمي بعد أن ظلت تعيش على هامشه لمدة تزيد على نصف قرن كان الصراع فيها بالدرجة الأولى بين القطبين الكبيرين حينذاك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي لم تكن فيها المنطقة سوى مخزن لوقود النفط المصدر الأول للطاقة في العالم لكن انقلب الوضع بعد أحداث سبتمبر2001م ودخول المنطقة في بؤرة الاهتمام الأمريكي.
صحيح أن هذه الرياح غربية مشبعة بروح الضغط والتهديد بكافة الأشكال والصور الممكن تصورها من عقوبات اقتصادية وتهميش سياسي للاحتلال بالقوة العسكرية وهو ما يدفع الحكومات العربية التي لا تملك في مواجهة قوة هذه الرياح إلا أن تنحني أمامها ظنا منها أنها عاصفة سوف تمر وتعود الأمور لسابق عهدها لكن يبدو أن معظم هذه الحكومات لا تحسن قراءة الواقع ولا تعرف أن الرياح هذه المرة عاتية ومدمرة فتخطئ في حسابتها ولا تريد الاعتراف بأن العالم تغير وأن ما كان ممكنا بالأمس أصبح مستحيلا اليوم ونوعا من حفظ ماء الوجه تظهر بعض هذه الحكومات العربية الرفض في العلن لكنها تهرول في الواقع لتنفذ المطلوب منها وأحيانا بصورة أكثر من المتوقع والشواهد كثيرة وعديدة بدءا من تخلي ليبيا عن موقفها عن برنامجها لإنتاج أسلحة نووية والتعاون الكامل مع واشنطن وتحولها من جبهة رفض لجبهة وديعة مسالمة تكفر عن ماضيها الثوري بدفع مبالغ سخية في صورة تعويضات لضحايا طائرات تم تفجيرها وتم اتهام النظام الليبي في الوقوف خلف التفجيرات فدفعت عدة مليارات لضحايا طائرة لوكيربي لتضمن رضا واشنطن كما دفعت تعويضات لألمانيا عن تفجير ملهى ليلي اتهمت في الوقوف خلفه واستمرارا لنفس النهج في إعلان حسن النوايا أعلنت القيادة الليبية عن رغبتها لتعويض اليهود الليبيين.
وعلى نفس النهج جاء تراجع الحكومة السودانية عن مواقفها المسبقة مع الجبهة الشعبية بقيادة جون جارنج واستجابت لطلبات اللجنة في اقتسام السلطة والثروة لتوقيع اتفاق السلام حتى تخرج من عداد الدول المارقة لكن مازالت مشكلة دارفور التي تم تدويلها مشكلة تؤرق الحكومة السودانية للضغط عليها من أجل تقديم مزيدا من التنازلات وربما لهذا السبب لم ترفع عنها واشنطن العقوبات كما كان متوقعا من قبل الحكومة السودانية.
وأخيرا جاء اغتيال رفيق الحريري ليكتشف العالم بأنه كان رجلا أكبر من حجم دولة صغيرة كلبنان إن تفخيخ الحريري الرجل الوديع والمسالم رجل البناء والعمل بعيدا عن الأضواء والبهرجة الإعلامية وأحد أفضل السياسيين العرب في العقدين الماضيين في حادث فاجع وأليم في قلب بيروت التي عاد بنائها بعد أن حولتها الحرب الأهلية لأنقاض وخرائب ليفتح أبواب جهنم على سوريا التي تحاول جهات عدة داخلية على رأسها المعارضة اللبنانية التي ارتدت قميص الحريري واستغلت التهديدات الخارجية لتزيد من ضغوطها في الشارع اللبناني مستعرضة قوتها ومطالبة بانسحاب خروج القوات السورية واصفة إياها بأنها قوات احتلال ومطالبة بتشكيل حكومة مؤقتة ورحيل الحكومة الحالية كما تتعرض سوريا لضغوط خارجية تقودها واشنطن وباريس بدوافع مختلفة وتسعى ل تحميلها تهمة اغتيال الحريري وهو ما تضغط عليه واشنطن بقوة منذ اللحظة الأولى لوقوع الحادث مما وضع القيادة السورية في مأزق صعب لا تحسد عليه خصوصا في ظل ضغوط وتهديدات لا رجعة عنها إلا بالاستجابة الفورية والكاملة لمطالب واشنطن والتي تتمثل بالانسحاب الفوري من لبنان وهو ما وافقت عليه القيادة السورية حسب تصريحات الأمين العام عمرو موسى السياسي المخضرم الذي اشتم رائحة النار التي تعد لسوريا فطار لدمشق في محاولة منه لإخماد نيران الفتنة التي تتربص بسوريا وهو الذي فهم مبكرا الأجندة الأمريكية للمنطقة في زيارة خاطفة قام بها لنيويورك قبل الحرب على العراق عاد على إثرها ليعلن إن المنطقة معرضة لعملية نصب سياسي.
وسوف تتواصل حملة واشنطن ضد سوريا بتحريض الصقور وكلاء الكيان الصهيوني في واشنطن المسيطرين على القرار في أمريكا من ألفه إلى يائه حتى ترفع يدها عن دعم حزب الله اللبناني الذي يمثل تهديدا حقيقيا وصداعا مزمنا لإسرائيل وحتى تتخلى سوريا عن مساندة منظمتي الجهاد وحماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية وهو ما سوف تستجيب له القيادة السورية في مرحلة لاحقة يبدو أنها في ضوء المتغيرات والمعطيات الجارية لن تطول فسوريا بالنسبة للصقور الجدد هدف سهل وفي متناول اليد وذلك من أجل صرف الأنظار عن المستنقع العراقي الذي خاضت فيه واشنطن حتى أذنيها كما أنه هدف أسهل من إيران الشوكة العالقة في حلق واشنطن ولا تستطيع أن تتورط معها في حرب مباشرة حاليا حتى لا تهيج عليها عش الدبابير من الشيعة فتفتح على نفسها أبواب جهنم في المنطقة.
ونتيجة لهذه الرياح العاتية المستمرة جرت أول انتخابات بلدية في المملكة العربية السعودية.
وفي نفس الوقت واصلت اللجنة المصرية من أجل التغيير حملتها ضد التمديد والتوريث وعلت نبرتهم في رفضهم التمديد للرئيس المصري حسني مبارك لولاية خامسة وفي رفضهم توريث الحكم لنجله جمال مبارك رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم ويبدو أن اللجنة سوف تزيد من تصعيد حملتها في الفترة القادمة كما أعلن أمين أسكندر أحد أعضاء لجنة التغيير عن أن اللجنة سوف تسمي رئيسا ونائبا له للاستعداد لخوض الانتخابات المصرية القادمة في مواجهة الرئيس مبارك وسوف تضع برنامجا انتخابيا وتدعو لمناظرة مع الرئيس وهذا أشبه بالحلم أو الأمنيات لأن السيد أمين أسكندر تناسى أن الدستور المصري بوضعه الحالي لا يسمح لهم بذلك فهل ستنجح ضغوطهم لإجبار الحكومة على تعديل الدستور في الفترة القليلة القادمة قبل أكتوبر القادم موعد التجديد للرئيس مبارك لفترة خامسة بحيث يسمح بأن يكون انتخاب رئيس الجمهورية بين أكثر من مرشح بالانتخاب المباشر دون تعقيدات الدستور الحالي...؟! رغم صعوبة الإجابة على هذا السؤال بنعم أو لا لكن في ظل الرياح العاتية التي تهب علينا حاليا لا يوجد مستحيل كل شيء ممكن خصوصا وأن الحزب الحاكم حسب تصريحات بعض مسئوليه كما جاء على لسان جمال مبارك رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطني مؤخرا يرى أن هناك مواد في الدستور تحتاج لتعديل وهو تطور إيجابي ومهم بعد أن كان الحزب يرفض ذلك من قبل بشدة ويرى أن الدستور من المحرمات التي لا يمكن المساس به أو الاقتراب منه.

وبعد كتابة هذا المقال بيومين فاجأنا الرئيس المصري حسني مبارك بمفاجأة من العيار الثقيل حينما أعلن انه طالب من البرلمان تعديل الدستور ليسمح بانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر بين أكثر من مرشح وهو تطور جوهري وخطير في تاريخ مصر السياسي سوف يكون له أثره الإيجابي المباشر على المنطقة جميعها وسوف تتبعه دول عربية أخرى وهو ما يدعونا أن نحيي الرئيس مبارك على قراره الشجاع الذي وإن تأخر كثيرا إلا انه تحقق أخيرا حتى وإن ذهب بعض المحللين أنه جاء نتيجة لضغوط خارجية قوية وشديدة فسوف تكون له إيجابيات كثيرة ومثمرة على تطور الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية والعربية ومهما اختلفنا مع الحكومة المصرية إلا أن هذا التطور له ما بعده فأول شيء سوف يضع نهاية للحرس القديم الذي زكمت منه الأنوف والذي ارتبط اسم رجاله بالفساد وربما سقط العديد منهم قريبا أمام تطور الأحداث وانكشف فسادهم وربما يتم تقديم بعضهم للمحاكمة ولم يكن يوسف والي سوى واحد من هؤلاء وسوف يتبعه كثيرون شكرا للرئيس مبارك الذي وضع بقراره نهاية لعصر طويل وكئيب من الركود في الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية التطورات كثيرة لكن المهم كيف يمكن تطويعها لصالح الأمة بما يحقق مصالح الجماهير ومطامحها وأشواقها في الحرية والتغيير.
رياح التغيير قادمة وعاتية وسوف يشهد هذا العام تغييرات جدية وجذرية في العديد من بلادنا ومنطقتنا دعونا ننتظر ونرى.

دكتور أحمد عرفات القاضي
كاتب مصري
[email protected]