إن السياسة هي فن تركيب الأغراض القومية. إنها ليست لعبة، أو هواية أو قفز فقوق المستحيل، ولا ليست المستحيل بذاته، إنها كيمياء لمصالح الشعوب، تتأثر بها وتؤثر فيها، لذلك إن إفتراض الصراع فيها يكاد يكون أمرا حيويا لا يضاهيه أي شيء للوصول إلى غايات منشودة. لذلك إني أضع السياسة قبل كل شيء في خانة الثقافة. والثقافة إن تبصرت بها، ليست سحرا أو ضربا في رمل المستحيل، إنها التزاوج ما بين المادة والروح، هي القابلية للحياة، هي الحياة. وكل ما تعداها خروج على المنطق والواقع وجنوح خلف متاهات سراب الأوهام. أما العلمانية، فإنها تمثل وظيفة اجتماعية، من خلال مؤسساتها وأطرها. ويفترض في الكيان العلمي، أن يمارس دوره الطبيعي في نهضة الأمة وتحقيق تقدمها المنشود، من خلال تعميق المعرفة، وتحقيق قيم الأمة وغايتها السامية عملا بالقول:"إن المجتمع معرفة والمعرفة قوة". ولذلك ينبغي التنبه إلى أن الكيان العلمي يمارس حريته في نطاق ما ترسمه الأمة من قيم وغايات عليا وأهداف بعيدة أو قريبة المنال، ولا يفترض أن يمارس الكيان العلمي حريته، بأن يشكل الأمة على نسق القيم التي يريدها هو، أياً كانت إرادة الأمة، وخاصة عندما تكون القيم مستوردة.
إن الاهتمام العلمي يثير قضية مهمة بين المثقفين، حيث يغلب ظن البعض بأن العلم يرتبط بالعقلانية، والأخيرة لا توجد إلا في الحضارة الغربية أو من يساندها ويقف في طابور من يروج لها على كل المستويات ويصور الأخرين على هامشها. إن هذا التغريب والتصنيف يصح وينطبق على عارض الأزياء برتبة "كاتب" السيد نزار جاف. لقد صرح مستدركا في مقاله "الكورد أمة قبل جنكيزخان" قائلا:(أما ما کتبته بصدد الکورد ودول المنطقة، فقد أثارت ولاتزال تثير الکثير من ردود الفعل المتباينة، لکن جلها ترى في آرائي خروجا على منطق الواقع وجنوح خلف متاهات سراب الاوهام. وقد يکون للأسلوب المباشر و الصريح لکتاباتي، هو الذي دفع البعض الى إتخاذ مواقف متشنجة وحانقة منها، وسموه "ثقافة إنفصالية" أو "دعوات مشبوهة". ولازلت"وسوف أبقى" على إتباع هذا الاسلوب في الکتابة، لسبب جوهري مهم و هو أن الخط العام للاسلوب المراعى في عموم القنوات الاعلامية العربي). نعم، إن هذا لصحيح وفي محله، إنها الضبابية والفوقية وإخفاء وتشويه الحقائق على الجماهير، إنه التفتيت المباشر لقيم الخير والحق والجمال، وإحلال ثقافة المحتل في ذاكرة التواصل بين الناس، وما إتهامك للإعلام العربي بها منذ القرن الماضي وحتى الأن إلا غيض من فيض ما تكمنه أقلامك أمثالك الحاقدة. إن هجومكم على الإعلام ليس دقيقا رغم أننا جميعا نشترك في الكبت الإعلامي والثقافي، إن الإعلام يجب أن يخدم الثقافة ولا يتعداها ليكون عاملا من عوامل تفتيت الولاء الوطني وعاملا مقسما للإنتماء إلى وحدة الشعب والأرض والتفاعل الحضاري. وهنا، لا بد من أن أذهب لأستفهام مفاده، وهل أن تبني مفاهيم الليبرالية الإعلامية الأميركية المتوحشة هو في حد ذاته الصراحة والحرية الكاملة و"الكذبة" التي تدعو الضالين إليها؟ إن هذه المكينات الإعلامية لن تخدم قضايانا (في حال اعترفت أن قضايانا واحدة)، وأي عاقل سيذهب معك إلى التصديق أن علم الإجتماع لم يمتزج بالفلسفة والتاريخ والشعور بالإنتماء إلى وطن يسعى كل جاهل أن يكون على أساس مفاهيمه وأهوائه الضيقة العنصرية، والعاقل يراه واحة خضراء، وساحة للتلاقي والحياة المستدامة وحرية أكبر من العزل والتشتت والضياع، وسجنا تأهيليا لدعاة "الإستقلال – الإنفصال".. كيف بك يا سيدي تقول:"إنهم يمزجون القومية بالاجتماع والتأريخ والفلسفة ويقدمون طروحات "مثيرة للإشمئزاز" ويتصورونها کافية لإلغاء الاخر وإقصائه عن الساحة". إن الإنسان بطبعه مفطور على المحافظة على الموروث والتخوف من كل تغيير أو جديد، لأنه يطمئن إلى ما يعرفه وإن كان لا يرضيه، ويتخوف مما لا يعرف وإن كانت فيه احتمالات كثيرة واضحة لخير الجميع. إن الأفكار المنحرفة والمفاهيم والرؤى والنظريات التي ينادي بها المثقفون الكورد، والتي تشبعت بها أذهان النشء لا تتفق مع عقيدة الفطرة، ولا مع العلم الطبيعي، إنها أعادت تعويم العقيدة الوثنية المكتسبة بالجهل وبمظاهر وأشكال مختلفة، وبعض الأفكار العقيمة التي علمها الاستعمار للأجيال، والتي لم تبدل عقول النخب ونفوسهم تبديلاً جذرياً شاملاً، ولم تنتج على المستويات المختلفة أي عملية تطور بل زادت من تبعية المجتمع للغرب الذي لن يتأخر يوما عن مد يده للمساعدة في التفتيت والتقسيم. إن الإنسان يجب أن يستخدم كل الموارد المتوفرة في الوقت الحاضر من أجل تشكيل مستقبل يليق بالإنسانية، والتأكيد أن من حق كل فرد أن يكون له دوره في صنع المصير الجماعي. هناك تأكيد آخر بأن لا ينسى أي مجتمع ماضيه شريطة أن لا يكون الانشغال بالماضي صارفاً عن حاجات الحاضر والمستقبل، ذلك أن التحدي الذي يواجه الجميع هو المستقبل الذي يجب أن نشترك جميعا فيه، لا أن نستعيد أحقاد الماضي وأن نلبس ثوب العنصرية لكل من يخالفنا أو يختلف معنا في مفاصل الحياة.
أما إذا تسنى لأي كاتب أن يستطلع نظريات وهوبرات لا مصلحة إلا لمروجها بعرضها في سوق الثقافة، فذلك يصدق النظرية القائلة بأن بضاعته فاسدة، إن ما لا يمكنك ترويجه بأن سيد القتلة والمجرمين "شارون" هو رجل سلام ينتمي إلى دولة "معترف" فيها وأنه جزء من اللعبة. إن شارون هو اللعبة كلها، والذين اعترفوا به هم شاهدو زور على هذه اللعبة، ولا يمكنك دعوتي لمصافحته أو مهادنتة، وحتى لو اعترف العالم كله به وبسلامه، ما يمكن أن تراه مناسبا لك ولأهلك هو النقيض في كثير من الأحيان لأصدقائك وأعدائك في وقت واحد، إن صديق دويلات مسعود وجلال في كوردستان "السيد شارون" هو جزيل الإحترام عند قيادتكم فقط، وهذا ما تؤكده في كلامك أيضا: (أما العزف على قيثارة "العلاقة الکوردية ـ الاسرائيلية" فهو کلام قد أکل عليه الزمن و شرب، والاحرى بالسيد "قادري" أن يفقه أن قراءة الواقع يحتاج لدراسة معطيات الواقع لا القفز عليها، فما تسميه "الکيان الاسرائيلي الارهابي" هو جزء أساسي من اللعبة السياسية في المنطقة وهي بالاضافة لذلك دولة قائمة بحد ذاتها ولا أتصور بأنك مازلت من ضمن الداعين لإلقائها في البحر!). إن كلامك لا يمكن أن يدغدغ شعور المجروحين والمغدورين والمقتولين ومن هم على مقصلة الجلد والجلاد الإرهابي بأن يتركوا خياراتهم وثقاقتهم وأحزابهم وينساقوا مع مخططاتك الجهنمية التي استوردها كل من فخامة دولة جلال ومسعود. لا يمكن استعبادنا أو إيقاعنا في الجهالة أو تجهيلنا أو تمزيق وحدتنا أو الإنصياع وراء المفتتين لوحدة الشعب والوطن والأمة، وقريبا سيقول المقاومون لك وللسيد "شارون" كلمتهم: إننا باقون هنا إلى أبد لا ينتهي، ولو استطعنا أن نفر من النجاح لما وجدنا إلى ذلك سبيلا.. أليس صبح الظلم والظالمين بقريب؟! أليس الصبح بقريب؟
أما عن استدراكك كيف يختلف إثنان على الوجود الأميركي في العراق (إشارة للكتاب خضير طاهر ونضال القادري رغم الإتفاق على إنهاء دويلات جلال ومسعود)، فهذا أمر طبيعي بديهي قاله أبرز الكتاب العراقيين، قبل غيرهم: (د.سعد داود قرياقوس، د. محمد العبيدي، سمير عبيد، صبري حجير، هادي فريد التكريتي، عارف معروف، عصام شكري، رياض الحسيني، إيمان السعدون، صلاح عمر العلي، وغيرهم). فهل ذلك دعوة منك لإستغبائي أو تضليل القراء، للترويج بأن الإحتلال الأميركي للعراق هو حملة للتحرير كما زعموا (حرب تحرير العراق)، وأن التحرير قد انتهى وبدأت الأن حملة إعادة النقاهة للعراقيين على أسس "ديمقراطية، تقسيمية، تفتيتية" للشعب وللوطن ولكل الهلال الخصيب. ومن هنا إن السيد "خضير طاهر" لا يمثل الأغلبية الساحقة من العراقيين في تطلعاتهم ونظرتهم إلى الوجود الأميركي الذي أسمية إحتلالا، وإن تقاطعت مصالحنا على تفتيت دويلات كل من مسعود وجلال. إن أقوالك أثارت في نظر الكثيرين الدهشة، والإستغراب والإستغباء، لا لجهلك المطبق بالحقائق إنما لطمسك للذي تركوه لك غير مشوه، إن الأضحوكة التي طالعتنا بها، سنستقبلها بكل قرف عندما تستدرك:" لکن السؤال هو إذا کنت تتفق والسيد" خضير طاهر" على "تأديب الاحزاب الکوردية" (لا بد من اللجوء الى بعض الخطوات التأديبية لکسر غرور الاحزاب الکردية و إرجاعها الى جادة الصواب..الخ) فلماذا تختلفان في مسألة التواجد الامريکي في العراق، إذ يرى السيد "طاهر" أن الامريکان محررين، فيما توصمهم حضرتك بالاحتلال اللعين! فکيف تدعو أمريکا لتأديب الاحزاب الکوردية و أنت تلعنها؟". نعم، كم حري بك أن تذكر جميع القراء بمجموعة من الإستفهامات المستحيلة التحول، وخصوصا أولئك الذين يشدون على أياديك البيضاء من أجل "الإستقلال"، هذا الإنفصال الذي تمهدون له، والذي لا أراه إلا نصرا إسرائليا مبينا يضاف إلى جرائم "شارون" الذهبية. أول استفهاماتي: أولم تكن حروب دويلات مسعود وجلال الطاحنة كافية للتذكير بأن لا ليس من إتجاه واحد، ولا من تفكير واحد تستطيع الركون إليه على وحدة كردستان؟ أولم تقم في كردستان حكومتان محليتان وبرلمانان ذات إتجاهات مختلفة، قتلتم تحت جزمة "المتدمقرطين" ونهبتم ودمرتم بعضكم على مدى نصف قرن من الزمن؟ هلا قلت للقراء من الذي أجبر حكومتي مسعود وجلال على الوحدة قبيل إسقاط العراق (لا لن أقول إسقاط صدام، طان ذلك إسقاط كل الشعب العراقي بمن فيهم الذين يختلفون معا الرئيس)؟! الجواب واضح:"نعم، إنها إسرائيل التي تحبها – والتي هي جزء أساسي من اللعبة السياسية – على حد زعمك. إنكم لا تستطيعون "التقافز" فوق أوامرها ولا فوق طاعتها، إنها رداء الضالين منكم والجهلة والمرتزقة، إنها شوكة، ولغم، وسرطان هذا الوجود كله. أما وإذا جاء الحديث عن الإحتلال الأميركي اللعين، فيكفيني اعترافك على أني على خلاف مع الكاتب "خضير طاهر" في الوجود الأميركي، الذي لا يرقى إلى أي أدنى شك، على أنه احتلال عنصري، إحلالي، تفتيتي، لا يختلف في جوهر مضمونه أو حتى أسلوبه مع مسألة تقسيم الهلال السوري الخصيب عام 1916 من خلال معاهدة سايكس وبيكو، أو تقسيم فلسطين عام 1947، لن ولم أدع في يوم من الأيام إلى التخلص من احتلال واستبداله حتي بإحتلال أو قوة أقل ظلما وعدوانا، وكل حركات التحرر إذا ارتبطت في الخارج صارت وبالا على الداخل وعرضة للأقاويل والتأويلات، وهل إن ديمقراطية دويلات جلال ومسعود، وحتى أيضا نزار، ستمنعني من التعبير عن قناعاتي أو التبشير بها أو طرحها للنقاش؟
إنها الثقافة الجافة، الديمقراطية الجافة، والمطعمة دوما بالنكهة الإسرائيلية تحت جزمة الامريكان، لهي براءة لكل شريف يسعى لعزة وطنه نحو السيادة والحرية والإستقلال. وتدليلا لكل ما سبق، ولكل ما سيتقدم، وبناء عليه نردد قول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
دمتم للعراق، ولوحدة الشعب، ومصلحة الشعب العراقي في الصراع والحرية والإرتقاء. عاشت ديمقراطية الشرفاء، سقطت كل أطروحات التجهيل والتبجيل، وسقطت "ديموكراتية" البزارات الأميركية من كوردستان إلى فلسطين.
* هـوامش: المقال جاء ليوضيح التضليل المقصود منه تشوية كتاباتي من قبل السيد نزار جاف، والتجني على أفكاري وإلباسها صفة العنصرية واللاموضوعية، فقط لأنها لم تراع مشاريعه التفتيتية. للمزيد راجع المقالات حسب صدورها على الروابط التالية:
1- "الواقع الکوردي و المثقف العربي" ـ نزار جاف.
http://www.elaph.com/AsdaElaph/2005/3/47105.htm
2- "ليس للكورد أمة.. وما كانت من جنكيزخان حتى سقوط صدام" ـ نضال القادري.
http://www.ssnp.info/thenews/daily/Makalat/NidalAlKadri/Nidal_16-03-05.htm
3- "الكورد أمة قبل جنكيزخان" ـ نزار جاف.
http://www.elaph.com/AsdaElaph/2005/3/49085.htm
نضال القادري
اللوبي السوري في كندا
[email protected]
التعليقات