ماذا يحدث في المنطقة الآن؟

ما أن تم إسقاط صنم الطاغية صدام حسين في ساحات بغداد و اشبع ضربا على يد العراقيين الأحرار، حتى علت أصوات غوغائيي الأمة مطالبة بضرورة مقاومة القوات الأجنبية. صحيح أن بعض العراقيين الوطنيين قد تجاوبوا مع هذا الطرح. لكن شرائح هامة أخرى من قيادات المعارضة العراقية ذات المصداقية التاريخية (مثل القيادات الكردية و مجلس الثورة الإسلامية) أعلنت عن "التقاء مصالح" بين العراقيين و الأمريكيين لإسقاط الطاغية، تماما كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية عندما التقت مصالح الأوروبيين و الأمريكان لتوحيد قواهم بهدف القضاء على النازية. و يتطلب الفصل في مثل هذه الحالات الاحتكام إلى الأغلبية، لكن هذا لم يكن ممكنا في عراق صدام، حيث كان التصويت الوحيد المسموح به نتيجته 100% لصالح الطاغية، و لم يكن ممكنا أيضا في حالة الفوضى التي تبعت انهيار النظام المقبور.

مع اختلاط الأوراق، قلنا وقتها بضرورة العمل بقاعدة "أهل مكة أدرى بشعابها" و ضرورة ترك العراقيين يحددون مصيرهم بأيديهم. و على هذا الأساس أيضا تساءلنا: من هم دجالو الأمة هؤلاء ليفتوا بضرورة توريط البلاد في حمام دم و الحال أن مرجعية كبرى مثال آيات الله علي السيستاني طالب بعدم التصدي للقوى القادمة للإطاحة بنظام الطاغية، كي تتخلص البلاد من محنتها في اقرب وقت ممكن. لكن التحريض تواصل. و ما هي إلا اسابيع قليلة حتى دخل فقهاء الإرهاب على الخط، لعل أشهرهمموقعي قائمة الـ 26 من السعودية، الذين أفتوا بضرورة توجه الشباب المسلم للجهاد في العراق. و نود هنا التذكير بما قلناه في مقال سابق ( بعنوان: فضائية الحرة و العمل بقاعدة "و للإرهابي مثل حظ المسالمين" ) بخصوص:

"اقتصار هؤلاء الفقهاء على إرسال العراقيين والفلسطينيين إلى قوارب الموت ، دون غيرهم. ففي سوريا توجد ارض محتلة اسمها هضبة الجولان ولا نسمع عن فتاوى من مساجد دمشق تطالب الشباب السوري بحمل السلاح. وتوجد في المغرب مدن سبتة ومليلة المحتلة من طرف إسبانيا دون أن تكون هناك فتاوى سواء من شيوخ جامعة القرويين أو من غيرهم تدعو المؤمنين إلى الجهاد. وسناء كانت أرضا مصرية محتلة من 5 حزيران 67 حتى اتفاقية كامب ديفيد ، واذا استثنينا فترتي حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، كان هناك سكون يخيم على الجبهة ولم نسمع بفتاوى من الأزهر وخارجه تدعو كل القادرين إلى حمل السلاح باعتبار الجهاد فرض عين." و كان سؤالنا آنذاك:

"ما السبب إذن أن يقتصر الإفتاء بإرسال الآمنين إلى قرابين الموت على الحالتين العراقية والفلسطينية دون الحالات العربية الأخرى؟"

لكن الوضع بدا يتغير الآن، حيث توالت الفتاوى المنددة بزج الشباب العربي في الأعمال الإجرامية التي تحصد بالأساس أرواح المدنيين. كان آخرها فتوى العقلاء الـ 64 من علماء العراق السنة الذين أفتوا بضرورة انخراط الشباب العراقي في قوى الجيش و الأمن دفاعا عن مصلحة و أمن الوطن. و السؤال الأساسي الذي سنحاول الإجابة عليه هو: لماذا فتوى الـ64 الآن؟ و لماذا لم نعد نسمع عن جماعة الـسعوديين الـ26 سيئة الصيت؟ و هل المستقبل القريب في منطقتنا سيكون من حظ العنف المسلح أم من حظ الأمن و الأمان؟

للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من متابعة تطورات عملية إفلاس فقه الإرهاب، بالاعتماد على نموذج مجموعة الـ 26 في السعودية.

كما هو واضح لكل متتبع للأحداث، تتلاحق الضربات هذه الأيام للإرهاب -فقها و ممارسة- بعد افتضاح أمره نتيجة الجرائم البشعة التي ارتكبها، التي حصدت و تحصد يوميا الأبرياء في العراق و دول أخرى مثل السعودية و الكويت و اليمن (بل قطر حتى).
على مستوى الفقه، توالت عملية دق المسامير في نعش هذه المجموعة الشريرة، لعل أهمها فتوى العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ رئيس هيئة كبار العلماء، رئيس اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، الذي اعتبر العمليات المسلحة خارج قرار ولي الأمر ضربا من الإفساد في الأرض، وقبلها فتوى شيخنا الفاضل عبد المحسن العبيكان الذي دحض بالأدلة الدامغة عدم توفر الأسس الشرعية للمقاومة المسلحة في العراق. هذا بالإضافة إلى ما نبه أليه من جهل مجموعة الـ 26 بأمور الإفتاء. و على هذا الأساس اعتبرنا، في مقالنا السابق، الاعتماد على فتوى هذه المجموعة الجاهلة كمن يستغيث باختصاصي في طب العيون للقيام بعملية جراحية للقلب المفتوح.

و على مستوى الممارسة، حصل نفس الشيء، حيث توالت الضربات الموجعة لمعاقل الإجرام. و يكفي أن نذكر هنا بما جاء مؤخرا في تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية بواشنطن، الذي أعلن عن القضاء على مجموع الخلايا الجهادية في السعودية باستثناء خلية واحدة و انحسار عدد الإرهابيين الذين ما زالوا على قيد الحياة. و لعل مصرع الإرهابي صالح العوفي زعيم الفرع السعودي للقاعدة الذي أعلن عنه مؤخرا في الرياض و تقلص قائمة المطلوبين السعوديين الـ 26 إلى اسمين فقط، يدعم ما توصل إليه التقرير السابق.

كما يحصل حاليا تقدم مشابه في العراق. عدد الهجمات على القوات الأمريكية تقلص بنسبة 50% على ما كان عليه قبل الانتخابات. و نفس الشيء يحصل بالنسبة للجرائم التي تحصد أرواح المدنيين الأبرياء، حيث تتزايد قوة رجال الأمن بالتزامن مع رغبة متزايدة من جانب العراقيين لتمرير المعلومات. و في هذا الجو المفعم بالأمل، من الطبيعي أن تأتى محاولات رجال الدين لراب الصدع. و هو ما حصل مع الفتوى الأخيرة للـعقلاء الـ64.

جاءت هذه الفتوى في الأول من هذا الشهر على لسان مجموعة من العلماء السنة العراقيين تحث المواطنين على "الالتحاق بقوات الأمن الوطنية لحماية بلادهم." و قد جاء على لسان الشيخ عبد الغفور السامرائي الذي تلا الفتوى "أن الالتحاق بقوات الأمن اصبح ضرورة لمنع سقوط البلاد في أيدي أولئك الذين سببوا الفوضى و الدمار و انتهكوا المقدسات." و بالرغم من أن هذه الفتوى تعتبر غير مسبوقة من طرف السنة العراقيين، إلا أنها تأتى في سياق عام مناهض للأجرام و القتل باسم الجهاد، كما قلنا سابقا، حيث جاءت في نفس اليوم فتوى مشابهة على لسان المرجعية الشيعية العليا علي السيستاني، المعروف و الحق يقال بحكمته و وقوفه الدائم ضد سفك الدم العراقي،
و هو الذي سبق له أن أوقف المغامر مقتدى الصدر عند حده في مدينة النجف الاشرف.

نحن نتحدث إذا عن زحف مقدس و بالتوازي على ثلاثة جبهات: (1) الجبهة السياسية -بتنظيم الانتخابات-، (2) الجبهة الفقهية -بإعلان الفتاوى الدينية المضادة للإرهاب باسم الشرع-، و (3) الجبهة العسكرية -بإعادة تنظيم قوات الأمن-. على هذا الأساس، سيسقط الإرهاب و من هم وراءه في المنطقة - و في العراق على وجه التحديد - لعاملين أساسيين. من ناحية، ستعمل الجرائم المقترفة ضد المدنيين و فتاوى رجال الدين العقلاء على عزل قوى التمرد. ومن ناحية أخرى، ستعمل العملية الانتخابية الأخيرة في العراق على إضفاء شرعية للسلطة (كما حصل بعد انتخابات الجزائر في منتصف التسعينات من القرن الماضي)، التي سيقوى ساعدها نتيجة ذلك، و بالتوازي مع تطوير قدراتها الدفاعية. و سيكون الحسم في النهاية لقوى الأمن التي سيكون لها شرف توجيه الضربة القاضية و الأخيرة لقوى الإرهاب و الإجرام باسم الدين. سيحصل هذا على الأرجح قبل نهاية السنة الحالية في كل من السعودية و الكويت و اليمن. و قد يأخذ اكثر من ذلك بأشهر معدودة في الحالة العراقية.

(*) ناشط حقوقي و رئيس سابق لفرع تونس لمنظمة العفو الدولية (بريد إلكتروني: [email protected]).