واخيرا افترس الموت جسد الشاعر حسين الحسيني ، سقطت قبله حقيبته ونظارته وسيكارته في لعبة من الغيبوبة اللزجة، لم يتحسس الحسيني ايقاع الموت العجول اذ كان يحمل معه اقراصا للخصوبة ومنع الحمل وكل مصدات الموت ، حقيبته اشبه بكيس العم بابا نوئيل اوربما صندوق العجائب، لها اسرار عميقة وارقام اشبه بارقام منصات اطلاق الصواريخ، كان يمارس الحلم بقسوة، يذوب عند رائحة أي جلد استثنائي اوعطر يكشف عن انوثته ، لغته اشبه بالبوح او النداء العميق الطاعن في الاستلاب، شعريته لايمكن تصنيفها على انها كلام والسلام !! او تصريف امور شاعر تيبس في فحولته !! انها كتابة عن سيرة طويلة وغريبة لحالم وشاهد على تحولات العصر الشعري العراقي بكل اسراره وحرائقه واحزانه وهزائمه ويوميات شعرائه الماكثين عن بيوتهم الرمزية او عند حكوماتهم العاطلة عن المعنى !! او شعرائه المنفيين عند شتات الارض والمدن البعيدة ، المتورطين باحلام لاتصلح للاستهلاك الوطني !!
واخيرا افترس السكون جسد حسين الحسيني بعد نوبات طويلة من القلق والكلام والشهوات المؤجلة ، انكسر قلبه العجيب عن اللهاث، وانغلقت عيناه عن ممارسة لذة التجوال في غابة الجلود والانفاس ، هبطت اصابعه العنيدة بالعاب الاشارات الى عطالة باردة بعيدا عن اصابع الدخان وسايكولوجيا التعويض ،،
فما اقسى ان يموت الشاعر !! وما اقسى ان يترك مقعده وضجيجه واحلامه ، ما قساه حقا حين يموت تحت ضغط اوهام القلب بتجديد لعبة الحياة ، رغم ان شعريته كلها كانت تتويجا لتوريطات قلبه اللزج منذ الكثر من اربعين عاما !!
ما أقسى ان يموت حسين الحسني دون وداع شعري وحضور احتفائي مثلما كان يحلم !!
دون ان يشاركه اصدقاؤه البعيدون هذا السكون الترابي ، ان يطلقوا عليه الرثاء وماء القصائد وبعض بكاء الالفة !! لقد كان يحلم كثيرا بالاصدقاء ، يتحدث بافراط عن اشيائهم الملعونة ، يقذف بلغته السريعة وشتائمه الاليفة وكأنه يقذف عروق الورد على جسد ما ،،، ربما كانت هذه اللعبة هي جهازه المناعي الوحيد ، اوربما كانت توريته الخالص عن التأويل والقراءة الطاعنة بالشكوك ،، اذ ان القصائد لاتحمي احدا ، ولا تؤسس بيتا من اطمئنان ، ولاتوزع رواتبا او حصصا تموينية ، انها لعبة في الوهم ولعبة في استحضار الارواح ورمي بالحجر على سكون الجسد .. كان حسين الحسيني اكثر الناس تصديقا بسحرية الشعر وقدرته على ممارسة الغزو المباح ومنح الكون جرعة عالية من الانوثة .. لذا كان يقاوم توريطات قلبه باعجوبة ، يفتش عن زمن مضاع للقوة ،لاتعنيه الانتصارات السياسية والحروب الكونية ، انه يبحث عن انتصار شخصي لجسده المقاوم وحشة الخارج وعزلة الكائن وهروب اللذات ..
مات حسيني الحسيني بعد ان تركه قلبه وحيدا عند مستشفى ابن النفيس وبعد ان تحولت حقيبته السرية الى بساط للريح بحثا عن استثنائي اخر ،،
مات حسين الحسيني بعيدا عن زمنه الشعري الذي كان كثير الذوبان فيه …
مات حسين الحسيني دون ان يحقق امنية بعيدة وهي ملامسة الوطن المعافى وقد عاد اليه الاهل الشعراء مشاكسين وحالمين ..
مات حسين الحسيني دون ان نصدق حكاية موته ، لانه كان اكثر الجميع اشتغالا على لعبة الحياة وخلود المواطن الثقافي ، ما زلنا لم نصدق !!!

[email protected]