إيلاف: من قرية الكيلو بمغاغة في صعيد مصر إلى القاهرة فباريس . ومن كتّاب القرية إلى الجامعة الأزهرية ، ثم الجامعة المصرية فجامعة السوربون . رحلة مدهشة تكاد تكون أقرب إلى رواية خيالية منها إلى واقع فتى ضرير تحول في أواسط العشرينيات إلى الرجل الذي ملأ دنيا الثقافة العربية وشغل ناسها حوارا ونقاشا في قضايا تبدأ ولا تنتهي .
فمن هو طه حسين ، أهو كاتب سيرة كما في الأيام وعلى هامش السيرة والفتنة الكبيرة ؟ أم أديب ناقد كما في حديث الاربعاء وفي الشعر الجاهلي وكتبه عن أبي العلاء المعري . أم مجرد روائي كما في شجرة البؤس ودعاء الكروان والحب الضائع والمعذبون في الأرض ؟ أم عالم إجتماع كما في فلسفة إبن خلدون الإجتماعية ؟ أم عالم تربية كما في ثقافة المستقبل ؟
ولعل الصحيح أنه كل ذلك في الوقت نفسه ، ولعل الصحيح أيضا أن قراءة كل ما كتب في السيرة والأدب والنقد والتاريخ والرواية والإجتماع والتربية قد لا تكفي لمعرفته معرفة صحيحة وراسخة . فهونفسه كان يرى أن كتب إنسان ما لا تعبر عن حقيقته لانها محدودة في فترة زمنية قصيرة نسبيا إذا ما قيست بحياةهذا الإنسان . لكن الثابت في حسين أنه عشق المنهج العلمي الديكارتي وإعتمده أساسا في قضاياه الكبرى .. وبعيدا عن كل فكرة مسبقة والأراء التي تناولته مدحا وهجاء وإعجابا ونفورا وإيجابا وسلبا سنحاول البحث في حياته بحيادية .

حسين الضرير

لم يكن طه حسين رجلا وحدا ، بل كان رجلا متعددا جمع في ذاته شخصيات متضادة متناقضة متضاربة ، هذه الشخصيات التي نمت وترعرت وتعايشت في تربة نفسية مؤاتية قابلة لإحتضان التناقضات ورعايتها . فكان الطفل الصعيدي الطفل الـ 15 بين أشقائه ، وما إن فتح عيناه حتى انطفئتا نتيجة الإهمال في بيئة متخلفة لم تتح لأم جاهلة أن تحمل إبنها الى طبيب يداوي عينيه من داء ألم بهما . فإذا به ضرير .."يحس لغيره من الناس عليه فضلا ، وإن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع وينهضون من الأمر ما لاينهض له وأن أمه تأذن لهم في أشياء تحظرها عليه . وكان ذلك يحفظه ، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن إستحالت إلى حزن عميق ، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به .. فعلم أنهم يرون ما لا يرى " ..(طه حسين _الأيام ).
وجاءت الحادثة التي ملأت قلبه حياء لم يفارقه ، وذلك عندما كان جالسا غلى العشاء بين عائلته ، فخطر له أن يأخذ اللقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها بيد واحدة . وها هو يأخذها ويغمسها في الطبق المشترك ويرفعهاإلى فمه فإذا بإخوته يغرقون في الضحك وإذا بأمه تجهش بالبكاء واذا بابوه يقول بصوت حزين .. ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني .. وأما الصبي فلم يعرف كيف قضى ليلته.
ومن آفة العمى السوداء إنبثقت معاناة طه حسين وإنبثقت معها تربة نفسية سوداء تقبل المتناقضات وترعاها وإنبثقت معها أيضا شخصياته الاخرى واحدة تلو الأخرى . وهكذا مضى يتقلب عبر مراحل حياته متجددا باحثا عن شخصية مبصرة ، شخصية مستطيعة بنفسها لا مستعطية بغيرها كلما أرادت أن تتحرك أو تعرف أو تأكل . ومن هنا بدأ حسين يأخذ نفسه بالشدة كما فعل أبو العلاء المعري ، حتى أنه كره أصنافا معينة من الطعام كان يكرهها أبو العلاء وراح ينظر إلى العمى بإعتباره عورة حتى أنه تقمص هذه الشخصية بتفاصيلها كاملة .
ولازمت حسين شخصية ابو العلاء ردحا طويلا من الزمن ولم يخلعها إلا عندما إلتقى بسوزان التي قلبت حياته رأسا على عقب .." وإذا المدينة تصبح إشراقا ونورا .. ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف الياس إلى نفسه سبيلا ولم يعرف الفتى أنه أحب الحياة كما أحبها في الثامن عشر من شهر مايو ذلك العام " ..( الايام )
بموزاة هاتين الشخصيتين المتناقضتين ، المتشائمة والحزينة اليائسة، والمتفائلة الفرحة المزهوة بالأمل ، نجد في طه حسين شخصيتين اخريين متناقضتين هما الشيخ الصعيدي الازهري ، وشخصية المصري العصري الذي عاش في باريس وتلقى تقافة فرنسية حديثة.
ومن الطبيعي أن تتصارع هاتين الشخصيتين لتكون محصلة هذا الصراع قضايا كبرى كان يفجرها مثيرا بها عواصف من النقد و الإهتمام والإنكار والتأييد والإستهجان والإستحسان .

الصعيدي .. الباريسي

من قضية حديث الأربعاء إلى قضية الشعر الجاهلي الى قضية على هامش السيرةالى قضية مع المتنبي الى قضية ديوان إناث حائرة للشاعر عزيز اباظة راحت شخصيتا حسين .. الصعيدية والفرنسية تتنافسان تفجيرا وضجيجا . فشخصيته الأولى محتاجة إلى تعويض النقص والثأر من الآخرين ، من المجتمع الذي دفعه الى خسارة بصره أما الثانية فهي نافذة وافدة طارئة ومسلحة بالمعرفة الغربية . تحاول الثأر من المعرفة الشرقية التي سادت عليها فلا تتورع مصطنعة المنهج الديكارتي عن الشك في معظم الشعر الجاهلي .
بل وأكثر تطرق حسين الى الدين مقررا أن " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ، ونشاة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصةنوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى" . ( في الشعر الجاهلي )
كذلك تتجاوز هذه الشخصية حدود الوطنية والقومية ومسلمات الإنتماء المصري إلى الشرق والعروبة وثقافتهما ، فإذا مصر عند حسين أقرب الى الغرب منها الى الشرق ، بل هي جزء من هذا الغرب . ." فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوروبي فرقا عقليا قويا أو ضعيفا . ولا ينبغي أن يفهم المصري الذي ذكره كيبلنج في بيته المشهور : الشرق شرق ، والغرب غرب لن يلتقيا ، يصدق عليه أوعلى وطنه العزيز. ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءا من أوروبا ، قد تكون فنا من فنون المديح .. وإنما مصر كانت دائما جزءا من أوروبا.
وإذ تمضي هذه الشخصية في التماهي مع الغرب ، فإنها تذهب إلى حد إعتبار نتائج العقل الإسلامي كلها بآثارها الأدبية والفلسفية والفنية متصلة بحضارة اليونان وأدبهم وفلسفتهم وفنهم ، وإعتبار السياسة والفقه الإسلاميين متصلين بنظيريهما عند الرومان .
وهكذا التقت الشخصيتين .. الشيخ الصعيدي الازهري والمصري العصري الباريسي الإقامة الفرنسي الثقافة .. وكل منهما يتسم بروح الإقتحام في نفس طه حسين . فإذا هو متحرك دائما ، مثير للقضايا ، مفجر للمسائل الكبرى تاركا خلفه أينما ذهب ـحدايث ونقاشات وإختلافات .

العاشق المتيم

ليست شخصية المصري العصري هي الوحيدة المقابلة للصعيدي ، بل إن لهذه الشخصية الوقورة الرصينة ضدا آخر يتجلى في شخصية الزجال مؤلف الأغاني العاطفية التي تكشف عن عاشق متيم مفتون .
فمن المفارقات الغريبة أن يكتشف الموسيقيون أن الشيخ طه حسين قد ألف عدة أغان ، وأن غوصه في بحار الفقه والتفسير والحديث والنحو والصرف لم يمنعه أن يمد عالم الطرب والأغاني كما مد عالم الأدب بالشعر .كما تتجلى هذه الشخصية العاطفية في قصيدة من النوع المسمى بالسمط كان قد نشرها في جريدة مصر الفتاة ثم اعادت نشرها مجلة الأدب .
إضافة الى الشخصيات التي تم ذكرها فـ طه حسين كان اديبا محافظا واديبا ناقدا عنيفا متطرفا . الأولى ، الشخصية النقدية المحافظة الرصينةالمعتدلة مقتبسة من الأستاذ لطفي السيد ، الزعيم الفكري لحزب الأحرار الدستوريين ومؤسس جريدة الجريدة . أما الثانية فهي مقتبسة من الشيخ عبد العزيز جاويش الذي أكثر حسين من الإختلاف إليه والإستماع له .
تأثير لم يحاول حسين إنكاره ، فكان موزعا بين الاعتدال حينا والغلو والإسراف حينا آخر . ومن الإسراف في النقد العنيف المقالات التي نشرها في جريدة العلم ووقعها بإسم ازهري ناشئ" وكان موضوعها نقد نظرات مصطفى لطفي المنفلوطي وكان عنوانها نظرات في النظرات.. ثم ما لبث أن ندم ندما شديدا على ما بدر منه بحق المنفلوطي من إساءة فألقى باللوم على عبد العزيز جاويش . ومن مظاهر هذه الشخصية أيضا الهجوم على الأزهر والمطالبةبإلغاء منصب شيخ الازهر معتبرا أن هذا المنصب يرجع الى عصور الوثنية أيام كانت رئاسة العلم والدين محتكرة للكهنة .

الثائر والمستكين .. المؤمن والعلماني

وتتتابع الشخصيات ، الثائر على الأوضاع السياسية والإجتماعية السائدة ، والمنتمي إلى طبقة مسحوقة صورها في شجرة البؤس . وشخصية السياسي المحسوب على حزب الأحرار الدستوريين ، وهو حزب الارستقراطية المصرية ، في وقت كان فيه حزب الوفد هو حزب القاعدة الشعبية . ثم لا يلبث أن ينضم الى حزب الوفد لتعود أموره وتتحسن بعد أزمته الجامعيةعام 1932 ليصبح وزيرا للمعارف في آخر وزارة وفديةعام 1950 .
وتحت هاتين الشخصيتين شخصيتان اخريان طريفتان في تناقضهما ، هما شخصية العالم المتمسك بالشريعة الاسلامة الداعي الى تطبيقها بلا تساهل وشخصية الوطني العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة .وتستمر سلسبة الشخصيات المتناقضة .. العالم الأديب الناقد المتمسك بمنهجه العلمي الذي لايخضع إلا لسلطان العقل ولا يرضى بغيره حكما ، وشخصية الأديب الناقد الذي لا يحب هذا ويكره ذاك من الشعراء والأدباء والمفكرين .
تلك مجموعة من شخصيات طه حسين ، وقد يطول الكلام على شخصايته الغريبة والمتناقضة .ولئن تكن مؤلفات حسين _على غناه وغزارتها _ لا تعبر عن حقيقته لانها _ووفقا له _ كتبت في أوقات محدودة جدا بالقياس غلى حياته فإنها في جميع الأحوال تكفي شاهدا على امرين .. الأول قدرته على إصطناع الأضداد والتأليف بينها إنطلاقا من شخصيات كثيرة متناقضة متآلفة . والثاني عبقريته التي أقر له بها خصومه ومحبوه على حد السواء.