جاد نصرالله: قامت عن الكرسي، وبحركة متكررة التقطت الاغراض المبعثرة على الطاولة وأفرغتها في حقيبة يدها. ابلغت زملاءها انها لن تشاركهم الطعام لانشغالها "بأمر ما" خارج المكتب. تكهنات صامتة لمحاولة معرفة الامر الهام الذي جعل هيفاء تمضي ساعة الغداء خارج المؤسسة على غير عادتها . واجهت تلك التساؤلات بابتسامة ساخرة وتوجهت نحو الباب. عند مدخل المبنى، القت بالمنديل على رأسها ،طوته بحركات عدة واحتجبت به. تأكدت من سلامة زيّها قبل ان تركض الى الشارع كي توقف اول سيارة أجرة.

في المقهى، كان ابن خالتها بانتظارها ،وعلى احدى الطاولات التي صُفّت على الرصيف انهالت على قريبها بأسئلة مطالبة بتفسير الحاحه على اللقاء في مكان عام.. ما هو الامر الهام الذي لم يتمكن من البوح به في المنزل .
بدأ حديثه مرتبكا..كلماته المرتبة والمبعثرة في الوقت نفسه فضحت ترتيبه وتفكيره المسبق بها ، ولم تنجح بعد دقائق من ثرثرته من فهم المقدمات التي صاغها.
غرقت في التكهنات فيما شفتاه تتحركان ..هل يريد ان يستشيرني بمشكلة واجهته في عمله ، أم أنه شعر بالحاجة الى التكلم بكل بساطة!.لكنها سرعان ما لغت الاحتمال الاخير لانها لطالما استبعدت نفسها من دائرة الاشخاص الذي يأنس اليهم ..ما زادها حيرة .
وفي خضم اعدادها للائحة من الاسباب والدوافع ، باح لها بحبه. قال انه ينوي التقدم وطلبها كي تكون زوجة له لكنه اراد ان يكلمها قبل ان يقصد واهله دار العائلة .صَدّتهُ بجواب تقليدي، جواب لا تجد الفتيات بغيره مهربا يحفظ مشاعر الآخر من الندوب، حين يحرجن في موقف مشابه "أنت تعرف مقدار الاحترام الذي اكنه لك والتقدير لاصرارك على بناء نفسك بنفسك وصنع شخصك. انت تعلم انني احبك كثيرا. كأخٍ لي".
علت وتيرة النقاش شيئا فشيئا حتى احتد "طالب القرب" قائلا "ومن تعتبرين نفسك لترفضي شابا مثلي؟ فلَستِ الا فتاة التقطها اهلها من الشارع". عبارة ترمى كثيرا في حمى دفاع أحدهم عن نفسه حين يخذله المنطق على حين غرة. وقبل أن تفيق سناء من ذهولها لما حسبته اهانة لكرامتها، أكمل الشاب:" لست أمازحك. لقد وجدك أبوك في صندوق فآواك. وهناك أمي يمكنك أن تسأليها إن كنت لا تصدقين". توقف الزمان في فضاء فتاة صعقها جهلها لحقيقتها. انسلخت من المكان الذي تلاشت معالمه سريعا. أعنف من الصدمة وأقوى من الذهول، شيٌ ما أمكن تحديد ماهيته، ربما انبعاث الموت في حياتها الهشّة. نسيت هيفاء طلب الزواج، نسيت ابن خالتها والمقهى وفنجان الشاي، كما العمل وموعد العودة الى الشركة. تتذكر الآن انها لم تدر بنفسها الا واقفة أمام الباب الخشبي المتصدع.وخلف الباب كانت الخالة تنتظر.
صراخ وحالة من الهستيريا. الخالة تبكي وتطلب من ابنة اختها الهدوء. تجلسها على الكنبة وتبدأ حكاية اشبه برواية او فيلم سينمائي .. كان زمن الحرب الاهلية في لبنان. وفي ظهيرة احد الايام التي خفّ فيها أزيز الرصاص، خرج زوج أختها في قصد شراء بعض الحاجيات الاساسية ليؤمن قوت الايام القادمة قبل ان تدور رحى المعارك من جديد. دفعته حشريته الى الاقتراب من صندوق وضع جانب الطريق من دون ان يخشى احتواءه على متفجرة ما في وقت كانت الالغام تزرع بدل السنابل في لبنان. كانت طفلة رضيعة لم ينقض على ولادتها اياما معدودات حين وجدها وقد لُفّت بملاءة هناك. وعلى الصندوق الصقت ورقة كتب عليها: " اسمها هيفاء. اعتنوا بها"...
خرجت من عند خالتها هاذية بما سمعت. تحول ما تمنته مزاحا الى حقيقة مخيفة شردتها في العراء فجأة . سارت تجر المها وكآبة الشوارع ترنو اليها حتى حل الظلام على وجهها المختنق بدموعه .
. في المنزل راحت تطالع وجوه من ترعرعت في دفئهم لاكثر من عقدين من الزمن، تدقق في التفاصيل. لم تستعر من أحدهم شيئا، وان كانت تشاركهم قصر القامة فان لون عيناها لفريد من نوعه في شجرة العائلة! " التقطوك من النفايات"، "حصل خطأ وتم استبدالك بالمستشفى بمولود آخر". أصبح لكل هذه العبارات التي يتقاذفها الاخوة يوميا في عراكاتهم الطريفة معانٍ مؤذية، رغم ان لا علم لهم بشيء. معانٍ تقتل كل شيء صارت اليه نفسها الآن وهي في السابعة والعشرين.
ها قد مضى عامان على لقاء المقهى.
وفي كل ليلة ما زالت هيفاء ترسم في ضوء القمر حكاياتها المختلفة. هل كانت امها على علاقة باحدهم وحملت عن طريق الخطأ فطلب منها أن تتخلص من الجنين ولم تجد غير رميها سبيلا للتخلص من عثرة استجدت في علاقتها الغرامية! أم أن اباها قتل في الحرب وأرادت الام انقاذها بهذه الطريقة اذ راعها أن يصيبها مصير زوجها؟ هل اختطف اهلها وذبحا "على الهوية" حين عبورهما لخطوط التماس ولم ينقذها الا خوف احد الخاطفين من تلوث يداه بدم رضيعة؟ استبعدت هذا الاحتمال الاخير.
الف قصة وقصة كان يمكن ان تحدد مسارا مختلفا لحياتها اقلها انها كانت لتكمل تعليمها. نقمة مفاجئة حلت على والديها عندما لم يحركا ساكنا يوم توقفت عن الدراسة ولم تنل بعد الشهادة المتوسطة، اعتقدت حينها ظنت انها ناضجة بما فيه الكفاية لتأخذ القرار بنفسها.
لم تكن مضطرة للإذعان الى اخيها الذي يمارس ذكوريته الشرقية، فلقد فرض عليها الحجاب بعد أن رفضت تكرارا كل من تقدم اليها. كانت لتلتقي الحبيب السري في العلن بدل أن يسرقا الحب سويا كونهما ليسا من نفس الطائفة، أو بكل بساطة كانت لما التقته في الاساس وهامت في حبه، وكان لكل شيء أن لا يَحدُثَ في الاساس. ربما كان لوضعها الاجتماعي والعائلي أن يكون أسوء مما هو عليه الآن، لكنها على الاقل كانت لتكون حرة من كل ما يعتصر في صدرها من ألم معرفة من صاغ العنصر الدرامي في روايتها. "لماذا وُضِعتُ في صندوق على قارعة الطريق!!".
تتدحرج الايام بروتينها الطبيعي،تخرج هيفاء كل يوم من المنزل وتذهب الى عملها في شركة المحاماة تنظم الشؤون المكتبية وتقوم باعمال الطباعة. ما أخبرت هيفاء قصتها لأحد(...). لم تجد بُداً من مواجهة من ربياها بالامر، هي تثمن كثيرا احتضانهم ومساواتهم لها بـ"أخوتها". لم تغير من شيء في معاملتها أو تعاطيها معهم والى اليوم تواظب على ارتداء الحجاب في الحارة والمنزل وتخلعه سرا حين تنظر ولا تجد من يعرفها تماما كما اعتادت أن تفعل منذ اول يوم فُرِضَ عليها ارتدائه، فهي لم تقتنع به يوما. تختلس هيفاء الحب مع حبيبها المرفوض من العائلة وقد خططت للتزوج منه "خطيفة". طردت عقدة الشعور بالذنب إن هي أقدمت على ذلك. تبحث هيفاء عن هويتها وجذورها وهي اسيرة الهواجس والافتراضات. تمضي بحياتها على مهل كتساقط أوراق وردةٍ ذابلة. تبحث في سماء الليل عن معنىً لوجودها...