بعيدا عن دائرة الحياة
عقب انتهاء الحرب، وفي لحظة تحوّل عنيف، في صباح أو مساء أو ظهيرة … أعتقل القاص العراقي محسن الخفاجي في مدينة الناصرية.
في غفلة من الزمن وبشكل غريب وسريع ومفاجئ..كان الرجل بعيدا، وحيدا، مأزوما، هناك غاب ( محسن ) عن أهله وأصدقائه. مفاجأة الحدث لم تبق للسؤال عن ( كيف ) و ( لماذا ) أي معنى يذكر. لكنه السؤال الحرج وحده هو من بقي معلقا ومؤبدا إلى الآن.
عام مضى وهو في السجن، وربما اكثر من ذلك، ولم تستكن بعد شهوة السؤال والبحث عن حكاية مقنعة عند محبيه وأصدقائه، كما لم تفتأ حراجة الموقف الإنساني تتغير من حين إلى آخر، رغم عديد الأقاويل والتكهنات التي تحيط بنا من كل حدب وصوب. ربما لان القاص الحبيس لم يُسمع صوته للآخرين، شارحا اللغز أو مدافعا عن قضية، أو معترضا على سوء وضعه حتى.
إن ذكراه اليوم تساوي استعادة غياب شبه تام عن دائرة الحياة.
فينا من يرى أن معسكرات الاعتقال الصحراوية للتحالف تجاور الفوضى في المشهد العراقي منذ انتهاء الحرب، وتتجاوزها قسوة وعشوائية ولامبالاة أحيانا. قد يصح تسميتها بالقسوة الدولية التي يغيب عنك مركز قرارها الحقيقي، لتبدو أشبه بطغيان السلطة الكونية الغامضة. لكنها بكل الأحوال ليست وهما لسلطة أو طيف لمحكمة عملاقة ببوابة سوداء مجهولة يخطها قلم (كافكا ).
وبسبب أن امتدادات العسكرة الأميركية وأثرها النافذ على الوضع الاجتماعي خلقت للانتلجنسيا العراقية حرجا أخلاقيا واسع النطاق، اصبح مغزى اعتقال الأديب العراقي عاملا ضاغطا على مشروع إحلال حقوق الإنسان في العراق الجديد، وحديثا مؤرقا لتطلعات الغد. فإعاقة الحرية تتصف بكونها خدش لصورة الحياة الديمقراطية في أي بلد محرر. لكن واقع الحال يبدو انه يسير باتجاه آخر مغاير. خاصة وان ( محسن الخفاجي ) لم يعتقل بوصفه أديبا ارتبط بالسلطة أو حسب عليها في فترة ما، بل لأن ظروفا معقدة كانت قد قادت قدميه في لحظة التباس ساخرة إلى شرك التحالف الكبير.
هكذا تداخلت معطيات السجين بشكل مأساوي جعل منه مجرد رقم محلي آخر في معادلة كبيرة واسعة يديرها تحالف القوى العسكرية في العراق. ربما لهذا السبب يعد التذكير بهوية المعتقل ( الأدبية ) نوع من التماس العفو أو محاولة تقدير الهوية الإنسانية للسجين الأعزل.
كل من يعرف القاص محسن الخفاجي يدرك بيقين لا يقبل الشك إن الأزمة هذه اكبر من قدرته على تحملها أو التعامل معها، حتى وان فاز القاص مع نفسه بلحظة صفاء خاطفة، تضعه على طريق كتابة المحنة بذاكرته أو بأوراق صفر، هي عزاءه الأخير.
هول الجدار الذي يواجه السجين العراقي ويلقي بظله على طيف أحبابه، يصيبنا بحزن خجول، ويرسخ عدم معرفتنا وعدم يقيننا من هوية ( من نخاطب هنا ).. لكن أملنا اليوم مرهون بتوسيع فسحة المطالبة بحياة إنسان عراقي قبل يلفه سواد غياب تام.
التعليقات