كيف يمكن للثقافة العراقية، أن تؤسس نماذج ثقافية تزوغ من (التصنيفات) السياسية والأيديولوجية معاً؟. فما بين (التصنيف) و (الخروج على التصنيف)، مسافة ستراتيجية يحترب عليها طرفان: الثقافي، واللاثقافي. وسوف يسفر الاحتراب عن مسخٍ لهوية أحدهما ضرورة. ففي زحمة صراع الأيديولوجيات العربية منذ منتصف القرن الماضي، حتى الوقت الحاضر، خسر الخطاب الثقافي كثيراً من عناصره الجوهرية التي تعمد إلى تجانسه، واستقلاله، وتوجيهه شكلاً ومضموناً باتجاه الخروج من مأزق (الآنية)، و(المباشَرة)، و(النفعية)، و(والالتزام المحدود الأفق)، و(الإيمان بالمطلق واللانهائي). ولأنّ الخطاب الثقافي، مفتوح دوماً على آفاق معرفية لا تقف عند حدّ، ولأنه كذلك يلتزم قضايا الإنسان الانطولوجية، على الرغم من عدم اجتماعهم على رأي واحد، فإنّ وضع تشريعات سياسية أو أيديولوجية موجِّهة لهذا الخطاب، لا تفضي إلى تحقيق مشروع الثقافة في تحليل الواقع السياسي، أو الأيديولوجي، دون السقوط في شرائطه، وأخلاقياته.
إنّ تجربة الثقافة العراقية مع السياسة والأيديولوجيا، تجربة مريرة، خسرت بسبب القمع الدوري الملازِم للتحولات السياسية في العراق، كتّاباً لامعين، امتازوا بالعطاء الدائم المتميّز، لكنّ تجاربهم الثقافية كانت أسيرة نظرة حزبية ضيقة، أو نظرة مؤسساتية مقولبة بقالب المؤسسة، وبعقليتها التي لم تستطع أن تنشط، إلا في داخل إطار للتفكير، وإلا في داخل مواضعات محددة للكتابة ذاتها. وقد خضع هؤلاء الكتّاب لرقابة قاسية؛ داخلية، وخارجية، الأولى خلقها الاعتياد على أعراف معلّمة بعلامات ليس بوسعه أن يتمرّد عليها، والثانية رقابة العقل السياسي أو الأيديولوجي نفسه. ففي ظل هذه الرقابة، ليس مسموح له أيضاً، أنْ يمارس ضرباً من النقد العقلاني، لكلّ نظام من النظم الثابتة، الحائزة على تقديس المؤسسة، أو الحزب، أو الأيديولوجيا. ولعلّ تجربة المثقفين العراقيين، مع النظام السياسي السابق، ومع عقيدة حزب البعث، لم تسفر إلا عن انعزال بعضهم عزلة تامة، وحضور البعض الآخر على استحياء، المنتديات الثقافية. لكنْ علينا أنْ لا نغفل عما يجري حالياً من محاولات عدّة، من الأحزاب، والتيارات الدينية السياسية، والحركات السياسية، لتدجين العقل الثقافي العراقي مرة أخرى في أقفاص السياسة والأيديولوجيات التي هبّت علينا بعد سقوط تمثال صدام. إنّ هذا الباب المفتوح على مصراعيه، فخّ جديد ربما انزلقت أقدام مثقفينا إليه بخديعة من خدع السياسة والأيديولوجيات الجديدة، وأمام أعين هؤلاء المثقفين كان العراقيون يُذَبَّحون بذريعة الدفاع عن (صنم جديد)، أو (عقيدة مقدسة)، أو (يوتوبيا منتظرة)، لا ريب في أنها وهم من الأوهام، التي انطلت على السواد الأعظم من الناس. والطامة الكبرى للثقافة العراقية، التي يُخشى عليها منها، هي تلك الإغراءات الكبيرة التي تسعى إلى تجنيد عدد من المثقفين، ومن أشباه المثقفين، لتكوين رأي عام ثقافي يكون أداة طيعة بيد الاتجاهات المتطرفة، التي تمارس العنف وتفتش له على الدوام عن مرجعيات ومسوغات، تبرره وتجيزه، على غرار ما فعله هؤلاء المتطرفون حين جعلوا قسماً من التراث الإسلامي مرجعية ثقافية، تجيز ممارسة العنف. وهذا أخطر ضروب التأويل في الفكر العربي المعاصر، الذي يعاني من ضمور النقد العقلاني، لهذا النمط من التأويل الذي نجح في كسب طبقة واسعة من المناصرين، المستعدين للجود بالمال والنفس، لتحقيق قيادة الأمة، باسم مبدأ (الحاكمية لله)، أو (ولاية الفقيه).
وفي غضون هذا الصراع الفكري والعقائدي الجديد، المدعوم بقوة السياسة، أو الأيديولوجيا، تقف الثقافة العراقية على وجه الخصوص، بلا قوةٍ حتى من قوة المعرفة، لأنها ارتضت لنفسها أن تكون شاهداً ملقَّناً للحدث العراقي التاريخي، لا جزءاً لا يتجزء منه. وعلى الرغم من نسبية هذا الحكم، إلا أنّ كلمة الحقّ التي يجب أن تقال، هي أنّ الثقافة العراقية لا تفكّر إلا بواسطة، وإلا عبر ضوابط معينة، ولم تجرؤ على كسر هذه القاعدة إلا في حدود ضيقة. ولعلّ قراءة مفاهيم هذه الثقافة، والقيام بفهرسة الأفكار، والموضوعات، ستكشف عن خضوعها لمفاهيم وفرضيات قبلية، قلما تتمرد عليها.
لقد تعطلت الفلسفة العراقية أكثر من نصف قرن، بسبب الصراع الأيديولوجي، وظلت تدور في حلقات مدرسية مفرغة، وهكذا هو حال الدراسات الاجتماعية، والانثروبولوجية، وحتى الدراسات التاريخية، كانت تخضع لشروط قاسية، ورقابة حكومية وأكاديمية دقيقة. وكانت الفنون والآداب، مشطورة شطرين؛ شطر يفلت من الرقابة من خلال الترميز الوظيفي، وشطر استساغ ما قدمته له الأيديوجيا من إغراءات كبيرة. وقد كان قسم من هؤلاء الفنانين والأدباء، يتطلع إلى لعب دور سياسيّ، ظناً منه أنّ السياسة خير وسيلة لترويج أفكاره، في حين أنّ السلطة كانت تظن هي الأخرى، أنّ الفنون والآداب خير وسيلة لترويج أفكارها كذلك. وهكذا، كانت (المرجعية) لكليهما، شيئاً زائفاً، فلم تفلح (مرجعية الثقافة) أن تنقذ الأصنام السياسية من السقوط، ولا أفلحت اليد الضاربة للدكتاتورية أنْ تنقذ بيتاً من الشعر من أنْ تطرده رياح التغيير إلى خارج تخوم البلد.