هل توجد، حقا، رواية حربية، لها ميزاتها الخاصة التي لا نجدها في غيرها من الروايات ؟ وإذا كان الجواب، نعم، فما الذي يفرقها عن بقية الأنواع الروائية الأخرى ؟ سنبدأ، في الإجابة على هذا السؤال، برأي الناقد الإنكليزي المعروف، والتر ألن (وسنسترشد، كثيرا، بنماذج من الأدب الإنكليزي). في كتاب أصدره عام 1964 حول تاريخ الرواية الإنكليزية والأميركية، منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى ستينياته، يرى ألن أنه "لا يوجد فرق صارم" بين رواية الحرب، وبين غيرها من الأنواع الروائية الأخرى. ولكي يدعم رأيه، بقول ألن أن هناك كتاب، منهم أفلين وف، أليزابيث بوين، هنري غرين، غراهام غرين، جيمس هنلي، كتبوا أعمالا روائية عن الحرب، مثلما كتبوا، أيضا، أعمال روائية عن مواضيع أخرى. وهذا أمر يدل، في رأيه، على عدم وجود حدود واضحة، لا يمكن تجاوزها، بين رواية الحرب وغيرها، بدليل أن كل روائي بإمكانه أن يكتب، متى ما أراد، الجنس الروائي الذي يريد.
الحجة التي أعتمدها والتر ألن توا، تبدو ملتبسة، بعض الشيء. ولهذا السبب، فإنها تحتاج أن نتوقف عندها لمناقشتها. نحن نتفق مع ألن عندما يقول، معززا رأيه ببعض الاستشهادات، بأن أي روائي بمقدوره أن يكتب رواية حربية، مثلما بمقدوره أن يكتب جنسا روائيا أخرا. لكننا، من الناحية الأخرى، نجد من الصعوبة أن نتفق معه بعدم وجود فروق واضحة ومحددة بين الرواية الحربية وغيرها من الأنواع الروائية الأخرى.
والتر ألن على صواب، إذا كان يعني أن أي رواية، على الأقل بالمعنى الكلاسيكي، سواء كان موضوعها الحرب، أو أي موضوع أخر، يجب أن تحتوي على عناصر ) روائية ( محددة، لا نجدها في بقية الفنون الأدبية الأخرى، مثل الشخصيات، والعقدة الروائية، والزمن، وغيرها من عناصر أخرى. هذه العناصر تمنح، إذا اجتمعت، أي عمل نثري، تسمية رواية، بغض النظر عن نوعية الموضوع الذي تعالجه. دليلنا على ذلك هو، أن النقد الأدبي، قديمه وحديثه، لا يفرق، وهو يتصدى لدراسة الرواية، كجنس أدبي محدد، بين الرواية الحربية، أو التاريخية، أو الخيالية، أو البوليسية، أو الفلاحية، أو الأجناس الروائية الأخرى. فالنقاد لا يتوقفون، عندما يتحدثون، بصورة عامة، عن ) الرواية ( كجنس أدبي خاص، عند الموضوع، وإنما عند الشكل، أو الصيغة الفنية التي تمت فيها معالجة الموضوع، هل تمت معالجته روائيا أو شعريا أو مسرحيا أو موسيقيا... الخ .


تشابه في الأصول

فعندما يتناول، مثلا، الروائي أي أم فورستر في كتابه النقدي المعروف Aspects of the Novel ، العناصر المكونة للعمل الروائي، فأنه لا يعني جنسا روائيا محددا، دون غيره من الأجناس الروائية. والعنوان الذي أختاره لكتابه المذكور، إنما يعني " الرواية " عموما، وليس رواية بعينها. وحينما يأتي فورستر على ذكر رواية ) الحرب والسلام ( ، فانه يرى فيها " جمالا يشبه جمال الموسيقى"، مثلما يراها دليلا على اكتمال العمل الروائي الخال من النواقص، أو العيوب. فورستر يتعامل، إذن، مع كتاب ) الحرب والسلام ( ، كجنس أدبي، يسمى رواية. أما موضوعها " الحربي" فيأتي، بالنسبة له، بالدرجة الثانية.
وفي كتابهما عالم الرواية L’Univers du roman ، يقول رونالد بورنيف وزميله ريال أوليت، "أن مفردة رواية لوحدها تثير في الذهن واقعا مألوفا، محملا بتفسيرات رائعة". واضح، أن الناقدين لا يحددان جنسا روائيا بعينه، دون غيره من بقية الأنواع الروائية، ولا يفرقان بين الرواية الحربية وغيرها، بدليل أنهما يستشهدان، هما أيضا، وعلى غرار فورستر، برواية الحرب والسلام.
وفي كتابهما المشترك، النظرية الأدبية La théorie littéraire ، لا يفرق الناقدان رينيه وولك و أوستن وارن، بين الأجناس الروائية المختلفة، عندما يناقشان في كتابهما قضية "الطبيعة الحقيقية للأدب". الرواية الحربية، عندهما، لا تختلف، كجنس أدبي، عن الروايات الأخرى.
وهذا ما يفكر به، أيضا، الناقد تيزفيتان تودوروف. فعندما يناقش تودوروف " فكرة الأدب "، فانه لا يتوقف عند أدب الحرب، دون غيره من الأشكال الأدبية الأخرى. وفي هذه النقطة فان تودوروف لا يختلف عن الناقد جيرالد جينيت.
في كتابه Figures 3 يناقش جينيت "الرواية" كجنس أدبي محدد، أو كعشيرة فنية واحدة، رغم أنها عشيرة تضم "أفخاذ وبطون" روائية مختلفة. والدليل على ذلك هو، أن حينيت عندما يناقش "الرواية" فأنه لا يضع حاجزا بين روايات بروست ويرونتي، من جهة، وبين أعمال همنغوي وهومر، من جهة أخرى، بالرغم من تنوع واختلاف المواضيع التي عالجها هولاء الروائيون في رواياتهم.
هذه الأستشهادات التي حرصنا أن تكون لنقاد ينتمون إلى مدارس نقدية مختلفة، كلاسيكية وحداثوية، فرنسية وانكليزية، أردنا منها أن نقول بعدم وجود فروق صارمة وواضحة بين الأجناس الروائية، بالرغم من اختلاف وتنوع المواضيع التي تعالجها. وإذا عدنا ثانية إلى والتر ألن نفسه، فسنجده لا يتحدث عن جنس روائي محدد، وهو يوضح للقارئ الخطوط العامة لقراءة رواية ما، ولهذا فأنه أختار لأحد كتبه المخصصة حول هذا الموضوع، عنوان Reading a Novel ، أي قراءة الرواية، أي رواية، ولم يقل قراءة هذا النوع الروائي أو ذاك. وفي هذا الكتاب يرى الناقد أن الرواية، أي رواية، ومهما كان موضوعها هي، "رافد من روافد الشعر. إنها أسلوب تعبيري، لغته الشخصيات والحكاية، وهدفه تقديم ما كان المؤلف قد أكتشفه إثناء تجربته الحياتية، وكلما كان الروائي عظيما، كانت كشوفاته المقدمة في روايته، عبر الشخصيات والسرد، عميقة، هي أيضا".
وهذا كلام ينطبق على رواية الحرب، مثلما ينطبق على غيرها من الأنواع الروائية الأخرى. فعندما يتحدث، مثلا، الروائي الألماني أرك ماريا ريماك، عن الوقائع التي ألهمته، وهو يكتب روايته الحربية ) كل شيء هادئ على الجبهة الغربية ( ، فانه يقول أن روايته المذكورة هي، "بكل بساطة، سرد لمجموعة من الأحداث اليومية الواقعية والمبتذلة التي عشتها، سوية مع رفاقي، على جبهات القتال، خلال الحرب العالمية الأولى". وكل من قرأ رواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية يدرك كم كان ريماك صادقا في ما يقول. فالأحداث والوقائع التي رواها ريماك في روايته المذكورة هي، قصص عادية ومبتذلة يعرفها، وربما عاشها، كل من خدم في الحروب. لكن عبقرية ريماك هي وحدها التي حولت هذه الوقائع العادية اليومية والمبتذلة، إلى عمل روائي مدهش، لا يستطيع احد مجاراته، حتى لو كانوا الجنود أنفسهم الذين عاشوا تلك الأحداث التي سردها الروائي.
بدون شك، أن ريماك، وهو ليس الوحيد في هذا الميدان، قدم لنا، وهو يسرد تجربته الشخصية في روايته السالفة الذكر، رؤيته الخاصة عن الحرب، ورؤياه وفلسفته الخاصتين عن الحياة، دون أن يعني ما نقوله، عدم وجود من يختلف مع ريماك، في فلسفته الحياتية. فبينما ما تزال رواية ريماك تحتل، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابتها، مركز الصدارة ويعاد طبعها بملايين النسخ، فإن هناك من هاجمها. ففي الوقت الذي حظيت فيه رواية ريماك بهجوم قاس من قبل النازيين، فأنها لم تسلم، أيضا، من هجوم، ولو أقل حدة، من قبل النقاد الماركسيين. فقد نشرت مجلة " لفت رفيو " في عددها الصادر في تشرين الأول عام 1934، مقالا أطرت فيه على نقد لاذع كان قد قاله احد المشاركين في مؤتمر الكتاب السوفيت الذي عقد عام 1934، ورأى فيه، أن رواية ريماك " لم تحتج على مجازر الحرب العالمية الأولى" ! وفي هذه النقطة، فأن ريماك لا يختلف عن أي روائي أخر كتب عن موضوع أخر غير الحرب، ولاقت روايته نقدا واستحسانا، وفقا لأراء ومواقف النقاد و القراء.

إن الرواية، أي رواية، ومهما كان موضوعها هي، محاولة فنية، بأسلوب نثري، لشرح أو لفهم حياة الناس. وهذا كلام ينطبق على رواية الحرب، مثلما ينطبق على غيرها. فالخيط الرئيسي الذي يربط جميع الأجناس الروائية هو، الشخصيات التي تضمها كل رواية، والذين يصورهم الروائي في صراع، يخوضونه ضد صعوبات محددة تواجههم في هذه الحياة، يستوي في ذلك العسكريون منهم، والمدنيون. والحرب تظل، دائما وأبدا، المشكلة الأكثر خطورة التي تفرضها الحياة على البشر.
إن أي روائي، ومهما كان الموضوع الذي يعالجه، مطالب أن يقدم، خلال عمله الروائي، تجربة أصيلة، وعليه أن يقنع القاري انه يكتشف، إثناء قراءته للرواية، شيئا جديدا، لم يكتشفه سابقا. فالروائي الذي يتصدى لمعالجة، دعنا نقول،
البطالة أو البغاء أو السرقة، عليه أن يقدم شيئا يدهش القاريء ويجعله يكتشف أمورا لم يعرفها سابقا، وألا فأن العمل الروائي لن يكون أكثر من تجربة باهتة ومكررة، لعشرات، بل لمئات التجارب الحقيقية التي قد يكون القراء خبروها وعايشوها أكثر من الروائي نفسه. وهذا شرط، أو ميزة أخرى، تشترك فيها الرواية الحربية مع غيرها من الأنواع الروائية. فالرواية الحربية عليها أن تقدم كشفا جديدا وأصيلا، يبهر القارئ، وكأنه يطلع عليه لأول مرة، وألا فإن القارئ سيشيح بوجهه عنها.
يرى روائي إنكليزي هو، ب. ه. نيوباي، في دراسة نقدية مهمة بعنوان ) الرواية الإنكليزية 1945 – 1950 ( ، كان قد نشرها عام 1951، عن الروايات الحربية الإنكليزية التي عالجت موضوع الحرب العالمية الثانية، بأنه منذ عام 1945، "لم تشهد بريطانيا رواية جيدة، نجحت في تصوير أهوال الحرب العالمية الثانية". والسبب، في رأيه، يعود إلى طبيعة تلك الحرب نفسها، باعتبارها حرب شمولية ) توتاليرية ( ، لم يسلم من ويلاتها أحد، إلى حد أن العديد من السكان المدنيين عانوا منها، أحيانا، أكثر من معاناة العديد من الجنود أنفسهم". بمعنى أخر، أن نيوباي أراد أن يقول أن رواية الحرب الإنكليزية في تلك الفترة، فشلت في تقديم تجارب أصيلة ومتفردة ومجهولة للقراء الإنكليز، فيما يخص الحرب.

اختلاف في الفروع

هكذا ، نلاحظ انه لا توجد، من الناحية العامة، فروق صارمة ومحددة، بين الرواية الحربية وغيرها من الأجناس الروائية الأخرى. لكن، هذا لا يمنع وجود فروق، من الناحية التفصيلية، فيما يخص الثيمة والقاموس اللغوي المستخدم، والشخصيات، والمكان، وعنصر الوقت وقضايا أخرى، مثلما سنرى.
إن ما يمنح رواية الحرب تميزها عن الأجناس الروائية الأخرى هو، وقبل أي شيء أخر، ثيمة الموت. الموت والحرب صنوان لا يمكن الفصل بينهما. حيثما تذكر الحرب، يذكر معها الموت، سواء موت المدنيين، خصوصا في الحروب الحديثة "الشمولية"، أو موت العسكريين في جبهات القتال. وعندما تندلع الحرب، أي حرب، فأنها تخلق "منطقها" أو "قوانينها" الخاصة بها، التي لم تكن موجودة زمن السلم، أي قبل نشوب الحرب. وأحد " قوانين" الحرب، أي حرب، هي، الحالة النفسية والفلسفية وحتى الأخلاقية، التي تتلبس الناس، المدنيون منهم والعسكريون. وهي حالة تختلف، تماما عن تلك الحالة الاعتيادية التي يحياها الناس أيام السلم. إثناء الحروب يتصرف الناس، بشكل عام، بطريقة فيها الكثير من اللاعقلانية، التي يسببها اقترابهم من الخطر، واحتمال موتهم، أيضا. ومعظم الاسئلة التي يطرحها الأفراد زمن الحرب، خصوصا اولاءك الذين يتعرضون للخطر، أكثر من غيرهم هي، أسئلة غير عقلانية، في معظمها: من يضمن إننا سنحيا إلى يوم الغد ؟ أليس من الأفضل أن نستغل أي فرصة سانحة للتمتع بملذات الحياة، قبل أن يخطفنا الموت الذي يطوقنا ؟ ماذا لو تأخر فلان دقيقة واحدة، داخل خندقه، ليتجنب الموت ؟ هل كان الجندي العلاني سيموت لو أنه لم يقرر الذهاب هذا اليوم، وأرجأ للغد، إجازته الشهرية ؟ ماذا سيحدث لو أن زيد لم يمرض في يوم التحاقه بوحدته... الخ. إنها تساؤلات تتعلق بالصدفة وبالحظ، وبأمور ليس لها علاقة بمنطق الأشياء. وقضايا كهذه لا تطرح بكثافة، إلا زمن الحروب.

وربما لهذه الأسباب، فان "المصادفة" تلعب دورا مهما، وأحيانا استثنائيا، في الرواية الحربية، أكثر منها في الروايات الأخرى، لأن الصدفة هي التي تقرر، في أحايين كثيرة، مصير الناس، إثناء الحروب: رصاصة تائهة قد تحصد حياة جندي، في اليوم الأخير من الحرب، أو مدني في طريقه إلى البيت.
إن رواية الحرب هي ذلك الجنس الروائي الذي يصور، أكثر ما يصور، ناسا يتصارعون مع الوقت ومع الحياة، بهدف استغلال أوقاتهم والانتفاع من الحياة إلى أخر قطرة فيها، قبل أن يحصدهم الموت. وما يفرق شخصيات الرواية الحربية عن غيرها من شخصيات الروايات الأخرى هو، نوعية الأسئلة التي تطرح، والمناجاة الذاتية التي تجريها كل شخصية، إثناء خلوتها، والحوار الذي تجريه مع الآخرين. وهذه الحوارات والأسئلة غالبا ما يتم طرحها لمعرفة أسباب وأهداف الحرب الدائرة، وبالتالي، معرفة المبادئ المعتمدة لخوض الحرب، سعيا، في النهاية، لاستخلاص "منطق" محدد يعتمده المشاركون في الحرب، ويستعينون به على لاعقلانية وعبث وجنون الموت الذي ينتظرهم في كل لحظة.
ولعل الشاعر الإنكليزي، روبرت كريفس، خير من تحدث عن عبثية الحرب، وعن لاعقلانية الطريقة التي يموت بها المشاركون في الحروب. ففي أحدى قصائده يتحدث كريفس عن تلك "القنبلة التي وقعت بالقرب مني، لكنها لم تنفجر، فظلت تنظر إلي ضاحكة". وعلى غرار كريفس، يتحدث الشاعر الإنكليزي المشهور، سيغفريد ساسون، بسخرية مؤثرة، عن تلك " الرصاصة التي "مرت أمامي وهي تغني". وفي واحدة من قصائده الرائعة يتحدث ساسون، أيضا، عن عبثية الحرب، وعبثية "قوانينها"، عندما يقول بمرارة، راثيا زميلا له، قبل موته:
" ها هو يجلس أمامي الليلة ببزته العسكرية، لكن الموت سيحصده بعد قليل. وستظل رحى الحرب تدور، لكنه لا يعرف لماذا.

"البزة العسكرية" التي ورد ذكرها توا في قصيدة سيغريد ساسون، و" القنبلة" في قصيدة كريفس ، توفران لنا فرصة أضافية نقول فيها، أن أدب الحرب له قاموسه اللغوي الذي لا نجده في غيره من الأنواع الأدبية الأخرى. وإنه لأمر نادر أن نجد رواية حربية لا يرد فيها ذكرا للبزة العسكرية، أو غيرها من المفردات القاموسية الخاصة بالحرب.
من هذه المفردات القاموسية الحربية، والتي غالبا ما يقترن ذكرها بالموت والرعب والمعاناة هي: التعويضات الحربية، التهديد، الذخيرة العسكرية، أنواع الصنوف العسكرية، العمليات العسكرية، الألغام، سجناء الحرب، الأسرى، المفقودون، الهجوم المباغت، الوحل، الساتر، الخندق، البندقية، السلاح الأبيض، التراجع، الانسحاب التكتيكي، الإجازة العسكرية، النزع الأخير، الحصة التموينية، الهروب، التخاذل، فرق الإعدام.... الخ.

وفي ما يتعلق بالشخصيات، فأن رواية الحرب قد تضم شخصية إنسانية واحدة، من العسكريين أو المدنيين، مثلما قد تضم شخصية معنوية "جماعية"، كأن تكون وحدة عسكرية حاصرها العدو، أو مجموعة من السكان المدنيين وقعوا تحت حصار عسكري. أما في ما يخص المادة الخام المستخدمة في كتابة رواية الحرب، فأنها قد تكون خبرة عيانية حصل عليها المؤلف استنادا لتجربة شخصية خاضها على جبهات القتال، أو استنادا على معلومات حقيقية سمع عنها من الأخرين ، أو استنادا على مخيلته المحض، مثلما كان الحال مع الكاتب الفرنسي، زولا، والكاتب الأميركي، ستيفن كرين، وآخرين غيرهم. وقد تكون الرواية الحربية مضادة للحرب التي تعالجها، أو للحروب كلها، وقد تكون العكس. ومهما كان الموقف الذي تتخذه الرواية الحربية من الحرب التي تعالجها، أو موقفها من الحروب عموما، فان هذا لا يلغي صفتها " الحربية".

إذن، واستنادا لما تقدم، نستطيع أن نقول أن هناك فروق واضحة وملموسة تفرق بين رواية الحرب وغيرها من الأجناس الرواية، مثلما توجد، مع ذلك، خيوط مشتركة نجدها في جميع أنواع الأجناس الروائية.


نصيحة همنغوي
أن ما يسمح لهذا الروائي، أو ذاك، أن ينتقل من كتابة جنس روائي محدد، إلى كتابة رواية حربية هو، إمكانيته وملكته الكتابية، ولكن هذا الانتقال لا يكون سهلا على الدوام، بل إنه في أحيان كثيرة يتحول إلى تحدي إبداعي، يواجهه الكاتب، بالضبط، بسبب الفروق الكائنة بين رواية الحرب وغيرها من الأجناس الرواية. ولكنه تحدي يتعلق، قبل كل شيء أخر، بمصداقية الروائي وبقدرته في كتابة رواية حربية تنقل للقارئ الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. وإذا كان الروائي، والكاتب عموما، مطالبا أن ينقل الحقيقة لقرائه في كل ما يكتبه، فان هذه المطالبة تصبح، ليس شرطا فنيا فحسب، وإنما أخلاقيا، أيضا. والسبب هو، أن موضوع الحرب ليس كالمواضيع الأخرى في هذه الحياة. الحرب تعني الموت والحياة، وكل تدليس في طريقة معالجتها، إنما يعني، ببساطة، موقفا يساوي بين الفناء والوجود. من هنا عظم المسؤولية التي يتحملها مؤلف رواية الحرب. ومن هنا، أيضا، نفهم إصرار همنغوي، هو المؤهل أكثر من غيره للحديث عن الحرب، ومطالبته الكاتب أن يقول الحقيقة، والحقيقة وحدها، عندما يتناول موضوع الحرب.
في عام 1942، والحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها، أشرف همنغوي على نشر كتاب بعنوان ) رجال في الحرب Men At War ( ، ضمه "أفضل القصص القصيرة التي كتبت عن الحرب في مختلف العصور"، مثلما ورد في العنوان الفرعي للكتاب. وكتب همنغوي بقلمه مقدمة للكتاب المذكور.
في تلك المقدمة يحذر همنغوي أي روائي يريد الكتابة عن الحرب، أن يتسلح، أولا وأخيرا، بشجاعة نقل الأمور كما يراها، دون تزييف أو مبالغة. وإذا أدرك المؤلف أنه لن يكون قادرا على نقل الحقيقة إلى القراء، بسبب الرقابة، مثلا، أو خوفا من الوقوع في فخ الدعاية، وفقا لما تطالب به السلطات السياسية، فأن على هذا الكاتب، كما يرى همنغوي، أن يهجر مؤقتا مهنة الكتابة، ويمتهن أي مهنة أخرى، مهما كانت، يكسب بها لقمة خبزه، وإذا لم يكن قادرا على هجر مهنة الإبداع، فعليه أن يكتب ويحتفظ بما يكتبه، عندما تحين الظروف المناسبة لنشر ما كان قد كتبه. فالكاتب عموما، وكاتب رواية الحرب على وجه التحديد هو، في رأي همنغوي، "أشبه بملاك مرسل من السماء"، وهو مثل " أي امرأة في هذه الدنيا، إما أن يكون عفيفا أو لا يكون".