من مسؤليات وزارة الثقافة العراقية توفير الأجواء الصحية لخلق أغنية عراقية مبدعة...

المتابع الحقيقي للأغنية العربية المصورة " الفديو كليب" اليوم، يرى الأصرار الواضح لدى جميع منتجي ومنفذي مشاهد التصوير، على الرقص، الذي بات هزاً للخصر والأفخاذ – مع لقطات ملئ الشاشة لأجزاء التي يهزها إيقاع الأغنية - حيث مجاميع الصبايا المشاركات في التصوير. ولا أعرف لماذا هذا الألحاح في الترقيص..؟ والذي ينحصر في تحريك الأرجل تحديداً وربما تصفيق الأكف فقط.
ولايمكن لأغنية أن تساهم في ملامسة الروح الأنسانية بنمط قد تكرر مراراً، نظراً لكون الروح البشرية متقلبة المزاج والطبائع ضمن حركة الفصول، وكذلك بتغير الوقت خلال اليوم الواحد، فالمزاج البشري عند الصباح لا يكون نفسه عند الظهر أو العصر أو عند الليل والعكس صحيحاً أيضاً . ومن هنا أتهم هذا الكم الغنائي المتخم بالرقص اللاصحي الخالي من هذه التغيرات اليومية والفصلية، لذا فهي أغاني غير صالحة إلا عند سهرات المطاعم والملاهي الليلية حيث نجحت هنالك بقوة، مع عدم قدرتها على إستيعاب المشاكل العامة والخاصة والطارئة في مجتمعاتنا العربية عموماً. وكأن الأمة العربية لا مشكلة لها إلا الحب والهجران والوصال، ليكون الشغل الشاغل لأتساع الشارع العربي.
كان الرقص عند الأنسان الأول لغة تعبير متبادلة بواسطة الجسد، عند الفرح والحزن وعند الهزيمة والأنتصار. فكيف إذن يكون ترقيص الروح اليوم بعيداً عن تلك الجمل الموسيقية الفطرية..؟ جمل لا تترنم بفنها اللحني المشذب بحرفية وعناية الموسيقي المتمرس الواعي لحرفته الأبداعية، ليدنو من تجليات الروح وبواعث نشوتها التعبيرية. لقد أصبح الرقص لهو سطحي لا لغة تعبير فني.
لكن الأعلام العربي مازال متفقاًَ على تسمية هذه الظاهرة المصطنعة والمشوهة بــ" الأغنية الشبابية " ، وكأن الشباب هم وحدهم الذين يحتاجون الرقص كصيغة تعبيرية للجسد، وكأن الأغاني التراثية والشعبية خالية مما تعج به من الأشراقات التعبيرية المفرحة والمفعمة في الدعوة لساحة الرقص، مثلما هي تجارب اغنية الريف العراقي والاغنية البغدادية المصاحبة للمقام العراقي والمسمات بـ" البسته"، والتي بدأ الكثير بتقديمها حسب الأيقاع الغربي الذي تكرر بشكل ممل في معظم الأغاني منذ العقد الماضي.
إننا نواجه إلحاح عارم في تقديم اللحن وإيقاع غربي مشوه يخلو من روح المنبع الأصلي، فيقترب بتشوهه من أجواء الملاهي الليلية، حيث يتدافع المشاهد نحو الحلبة الضاجة بفتيات الرقص المبتذل بملابسهن الفاقعة اللون، وسباقهن في توضيح المفاتن الأنثوية وأداء الحركات الغرائزية.
الأغنية المصورة -الفيديو كليب - لها تأثير تراكمي ملوث، أصاب الكثير من الجوانب، حتى وصلت عدواه لرقصات الفرقة القومية العراقية للفنون. قياساً لما كان يقدم في بداية تأسيس وتكوين الفرقة المذكورة، فللأسف الشديد ما شاهدته من تسجيلات لهذه الفرقة وعرضها في " أمسية فلكلورية فنية " يوم 24-7-2004، حتم عليّ القول، أن الفرقة قد أصيبت بتفاهة ما كان يقدم في حضرة شهوات " علي حسن المجيد " أو " عبد حمود ". فالجميع يشهد لهذه الفرقة، بما ساهمت به الخبيرة الروسية آنذاك " قمر خانم " بتصميم رقصات بقيت عالقة لجماليتها وإساليب العروض المتناسقة بشكل مدهشة ورائعة بتناسقه الفني أكاديمياً مابين خواص العرض المسرحي ذي اللمسات الدرامية بمصاحبة الموسيقى كعمل منتشي ومكمل للعرض، مع المحافظة على روح المصادر الفطرية لها كرقصة" الدحة" و " الهجع و "بائع اللبن " وغيرها. أما ماشهدته فقد كان عرضاً لبعض الرقصات القديمة لكن بشئ من تأثير حركات الرقص الغجري المبتذل في الكثير من الأحيان، كحركة نثر شعر الرأس، وحركة الخناجر.
إن بعض ما أسلفت من ذكره أعلاه، يضعنا أمام مسؤلية أخلاقية إتجاه الفن الغنائي العراقي، ويرتكز هذا ضمن مسؤليات وزارة الثقافة العراقية في توفير الأجواء الصحية لخلق أغنية عراقية مبدعة، تبرز الملامح الحضارية الخاصة للأغنية العراقية، من خلال إنشاء مساحات للملتقيات الفنية عراقياً وإحتضان ورش عمل تتسع للشعراء والملحنون والمطربون، وتقديم ماهو مطلوب مادياً لدعمها فنياً، بالرغم من الأجماع على ترك السوق الفني مفتوحاً، كسوق تجاري حر. لذا يفترض على الوزارة أن تأخذ بيد من هم جديرون في إرساء وإنهاض الأغنية العراقية الجديدة ذات الأبعاد الثقافية والأبداعية في مستواها الفني، بعيداً عن المهرجانات التكريمية والأحتفالية لمن كان ضمن ركاب التطبيل والمدح الذي أثقل ذاكرة المواطن العراقي بما هو معروف للقاصي والداني.
وحينما تتبع الوزارة مؤسسات عدة ، والكثير منها لإنتاج الكتاب العراقي كسلعة ثقافية ابداعية، فذلك يحتم أيضاً على وزارة الثقافة أن تنشأ دائرة تماثلها في الأهتمام والدعم للأغنية العراقية كسلعة صناعية ثقافية اجتماعية، بما لها من جوانب ترويحية، ولأهميتها كرافد في تكوين وتشكيل الثقافة الوطنية العراقية، للمشاركة في إعمار ما تهدم من ذاكرة العراق الشعبية.

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف