تظل المدينة الموضوع القديم المتجدد لكثير من الفنانين على مختلف مذاهبهم وألوانهم. فهي الرافد الزاخر، والمزدحم. وهكذا هي دائما، حتى حينما نغادرها أوتغادرنا كما يقول أهل الادب!؟
المدينة الاولى كانت عراقيه حيث ولدت الحضارة هناك وفي العراق ومدنه حكايات وحكايات مليئة" بالسعالي والطناطل" من أعداء المدينة والحضارة، وهنا يجد المتتبع دائما خطين متوازيين ومتناقضين، الخط الاول هو خط المدينة.. الشارع.. الزحام.. الناس.. الحياة والخط الثاني، هو الخط المعاصر للمدينة، المدمر لها والنقيض، وهنا بالذات وفي هذه النقطة. نقطة تصادم الخطين. يبرز الفنان رياض البزاز ليرسم المدينة، فمنذ كان طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. وعلى الرغم من قصرعمرالتجربة الفنية آنذاك، وكثرة المحاصرين من" خراتيت" الفن ومريديهم الا ان رؤيته للمدينة ولمستقبلها كانت واضحة وناضجة جدا.
رياض البزاز لم تثره المدينة باضوائها الملونة وشوارعها الفارهة ولم" تثره اشارات المرور"!!ا و ازحام المارة والسيارات. !إن صدق الرؤية جعله يرى حطام المدينة بما تحويه من أشياء قبل ان يحدث. لانه شعر بمدى خطورة النزاع والمصادفه حينذاك.. وأدرك ان الحطام حاصل لا محالة فاخذ يشكله في لوحاته بشكل واضح يختبئ أحياناً وراء نزعة أقرب الى التجريد منه الى الواقع من حيث التكوين وكان ذلك واضحا في المعرض المقام على قاعة اكاديمية الفنون الجميله عام 1992 مشاركة مع الفنانين عباس مخرب، علي عباس، سعدالطويل، أحمد نصيف ورياض العارضي. المدهش ان حطام المدينة في لوحات رياض البزاز كان دونما غبار أودخان يتصاعد وحتى دونما أناس. وفي هذا تاكيد ممكن على سقوط المدينه الحتمي وكانه أمر واقع منذ زمن طويل، وكان ذلك هاجس رياض البزاز في السنوات اللاحقه في العديد من المعارض الفنيه المقامة انذاك.
المدينة تستمر اليوم مع رياض البزاز في معرضه الجديد في برلين-البوتسدام وهذه المرة من دون انقاض او حطام، بل هي المتاهه بين مدن اربع، على فرض انناراينا في المعرض عملاواحدا بعدة جوانب، وهذه المدن التي تشكلت مدينة رياض البزاز المعرض هي. برلين، واقع يومي مزدحم.. انعكاسات المنفى.. الغربه.. مدينه اولى بغداد، مدينة الحطام والموت.. الظلام. واقع معاش وجراحات يصعب مغادرتها، مدينة ثانية. بغدادايضا، مدينةالانفلات.. اللاقانون.. الفوضى واللاستقرار الاحتلال.. مدينة ثالثه. المدينة- الحلم، القابعة في ضميرالفنان، مدينة رابعة. هذه المتاهة او هذه التساولات، اوهذه المدن، سمها ماشئت هي نقطة الارتكاز والقاسم المشترك في معرض مدينه البزاز تناقضات واحلام وامنيات. هروب وموت واحباط.. عناصر تجلت بوضوح في مدينة البزاز. منظر لمدينة عالية الابراج ذات طرازغربي النزعة يحتضنها الليل والضباب، اشارة لشتاء المدينه.. النوافذ المضائه المتلاشيه بالضباب. خلو المدينة من الناس اوالسيارات.. مسحة من الوان شرقيه تعلن عن نفسهابحزم انه منظرعام لمدينة برلين!!ولكن هل نستطيع ان نتخيل برلين دونما ناس اوسيارات وهي المدينة التي لاتنام؟!
السؤال يجد له تفسيرجوابي في ثمة لوحات اخريات حيث يتشكل افق المدينة اوالمدينة ككل مثل قبة مسجد يعلوه هوائي التلفزيون!! انه مزيج مدهش وخطير بين مدننا الاربع السابقة الذكر بدا يشكل مدينة رياض البزاز في هذه اللوحات التي تتناول مشاهد من برلين. مدينة ربمااحب ان يراقبهاوحيدا من خلال نافذته حيث لا شى" بشري" يعكر صفوها، فقط قدسية السماء حارسة لها باطمئنان وثقه.. هي تلك المقدسات الشرقيه.. الضبابيه..

في موضع، اخر دهشة اخرى، مشهد لمدينه يكون قبة مسجد محتقنه تكاد تشبه البركان في استعداده للثوران. كل شى يتذبذب ويتحول الى حطام.. الماذن بدت محاصره بين الاطار الغامق اللون، اطار اللوحه، وقبة المدينةالممتلئه، نورا.. او قيحا.. تناقض واضح من خلال تبايناالالوان المتضاده، الاحمر القاني والاخضر الهادى الحالم.. هذا التناقض يحمله رياض الى لوحات اخرى حيث تكون المدينه زرقاءهادئه ضبابيه ليليه كالعاده.. غير ان سمائهاحمراء صارخه على غير العاده مهما كانت تناقضات المدينه التي رسمهاالبزاز، او مدن البزاز الاربع بما فيها المدينة" الامنية" المتمثله في لوحه جميلة لبغداد يطل عليها القمر وهو مكتمل الدائره.. اقول، مهماكانت المتاهه كبيرة هي في مدن البزاز ومهماكانت الاسئله كثيره فقد اجابناهو من دون ان يشعر بلوحة صغيره اختتم فيهاالعرض حيث علقت.. لوحة حملت عنوانا(حارقا)!كما هي، بغداد تحترق، مديبة تتشظى وسط انفجارهائل وكتلة من نار.. والحق اقول باحتراق بغداد يجب ان تقف ليس للتامل فحسب، بل لاعاده المواقف وبناءوجهات نظر جديده من أجل ان ترسم بغداد أخرى بغداد زاهيه بالحب والوانه بغداد زاخرة بالحياة وهكذا في كل مدن عراقنا.