لامه البعض لأنه لم يحمل السلاح ضد الاحتلال النازي
جان بول سارتر في مئويته الأولى
فاضل عباس هادي من لندن: في الستينات تعرّف ملايين القراء العرب ونحن منهم على أعمال جان بول سارتر وأقطاب الحركة الوجودية في الرواية وفلسفة الآخرين البير كامو وسيمون دوبوفوار من خلال الترجمات الممتازة التي قام بها كتاب ومترجمون كبار مثل سهيل ادريس وعايدة مطرجي وجورج طرابيشي وغياث حجار وسامي الجندي وغيرهم. وكانت مجلة "الآداب" التي يرأس تحريرها الروائي والمترجم الفذ سهيل ادريس هي الرئة التي ساعدت القراء على تنفس هواء الفكر الوجودي المنعش الجديد، الذي تزامن مع الفكر القومي العربي والحركة السياسية العربية في بحثها عن رسم ملامح خاصة للشخصية العربية وكان الاثنان، الوجودية والقومية، لعبا دوراً بارزاً في ظهور روائيين مثل مطاع صفدي ويوسف حبشي الأشقر وسهيل ادريس أيضاً، وكذلك هاني الراهب وغيرهم كثيرون.وكان الجو الثقافي بصورة عامة يبشر بتلاقح مثمر ومثير بين فلسفة غربية هي نتاج المدن المتروبول وفلسفة عربية تجمع بين الحاضر والماضي بهدف صياغة خطوط وأسس تمهد السبيل نحو عروبة من نمط جديد، عروبة حية، تواكب العصير وتتفاعل معه. كان ذلك في الستينات وأوائل السبعينات. والآن وبعد مرور أربعة عقود تقريباً يعود مؤسس الحركة الوجودية في الرواية والفلسفة الى الأذهان من خلال احتفال فرنسا وجميع محبي الكتابة والفكر الحر بمرور مائة عام على ميلاد جان بول سارتر.
وتشمل الاحتفالات بمئوية سارتر الأولى معارض ومحاضرات وندوات في باريس وفرنسا وبعض البلدان الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية، ومنها معرض شامل بالنص والصورة الساكنة والمتحركة في المكتبة الوطنية الفرنسية القريبة من معهد العالم العربي واعادة اصدار كتب سارتر مثل "الغثيان" و"دروب الحرية" ومسرحياته العديدة من "الذباب" الى "سجناء الطونا" و"الوجود والعدم" وكتابيه عن جان جينية وفلوبير.
كما خصصت الصحافة الأدبية والفكرية ملاحق خاصة عن سارتر وعصره، سارتر ومجايليه وأكبرهما البير كامو وبول نيزان، وسارتر ابن مرحلته وما بعدها، وسارتر السياسي الملتزم، وسارتر ورفيقة دربه الكبيرة سيمون دو بوفوار.
سبينوزا وستندال
منذ صباه كان سارتر يشعر بأن قدره الأكيد ونداءه العميق أن يجمع في كتاباته بين الفلسفة والرواية وقال في وقت مبكر بأنه يريد أن يجمع في نتاجه الابداعي بين الفيلسوف سبينوزا والروائي ستندال. وهذا ما حققه فعلاً وبشكل غير مسبوق في تاريخ الأدب العالمي من خلال أكثر من نصف قرن من الابداع المتميز الممتاز.
ليس هذا فقط بل انه كان ناشطاً سياسياً معنياً بالحركة المطلبية للجماهير من يوم ليوم وهو الذي قال في كتابه "ما هو الأدب؟" "من خلال مساهمتنا بما هو يومي نلحق بركب الأبدية". وقد حقق جانباً من هذا من خلال مجلته التي ما تزال تصدر حتى الآن، مجلة "الأزمنة الحديثة" التي يقرأها السياسيون والدبلوماسيون، اضافة الى عامة الناس، ليعرفوا رأي سارتر بهذه المشكلة أو تلك الظاهرة، وليس بالضرورة أن يتفقوا معه أو يتخذوا موقفاً متماثلاً لموقفه. وعلى المجلة تعاقب عدد من كبار المفكرين الفرنسيين والعالميين بما فيهم موريس ميرلوبونتي، كما نظم فيها محاور عديدة لمناقشة قضايا الساعة اللاهبة من الثورة الجزائرية الى القضية الفلسطينية. ولا ننسى بول نيزان صديق سارتر والروائي الذي اشتهر بـ "عدن العربية" وفي تلك الأيام أيام الشباب اللاهب كان الرأي يتجه الى ان سارتر سيبرز في مجال الفلسفة وبول نيزان في مجال الأدب. وعندما التقت سيمون دوبوفوار بسارتر في العام 1929 جذبتها اليه ثقة سارتر بنفسه هذا الرجل الصغير الذي يريد أن يكون سبينوزا وستندال في الوقت نفسه.
الحقيقة الكونية
وُلد سارتر في 21 حزيران (يونيو) من العام 1905 وتخرج من الجامعة قسم الفلسفة بامتياز أول وكانت دوبوفوار تخرجت من الجامعة نفسها بامتياز ثانٍ في العام 1929 وفي العامين 1933 و1934 ذهب سارتر الى برلين ليدرس هوسرل وهايدغر ثم عاد ليدرس الفلسفة في مدينة هافر شمال فرنسا، في سنة 1491 اعتقله النازيون ثم أطلقوا سراحه. وفي العام 2591انتمى الى الحزب الشيوعي وفي العام6491 أصدر "كلمات" ورفض جائزة نوبل التي منحتها له الأكاديمية السويدية. وفي العام 1971 أصدر دراسته عن غوستاف فلوبير مؤلف "مدام بوفاري" باسم "أبله العائلة" وفي العام 1980 توفي سارتر وشيعه ما يزيد على 50 ألف شخص.
سعى سارتر في كتاباته الفلسفية ورواياته الوقائعية الى رسم صورة للوضع البشري الى وضع مخطط تفصيلي للحقيقة الكونية. وكانت مقالاته تقرأ بشكل واسع ولم يكن سارتر من الذين يقبلوا انصاف الحلول أو يطرحوا الحقائق مُرة كانت أم حلوة، بشكل خجول أو "انساني" مُدجّن. ولا يعني هذا على الاطلاق انه كان خال من العواطف أو من اولئك الذين يحافظون على مسافة بينهم وبين المعيش. كان رجلاً طيباً وعقلاً نيراً وشعلة من الالهام والملاحظة لا يفوته شيء وكل شيء يشغله ويشتغل عليه.
والآن وبعد أكثر من عشرين سنة على رحيله نتذكر ويتذكر غيرنا كثيرون السجالات التي ساهم بها سارتر والانتصارات التي حققها سارتر والتأثيرات العميقة التي تركها علينا سارتر. الا تتذكرون معي يوم ترجمت مقالات سارتر تحت عنوان اختاره هو لها "مواقف" الى العربية وهذه في رأيي أثرت على عدد كبير مما يسمى بجيل الستينات مقالات عن جياكوميتي ونيزان وكامو، ومقال مثير للجدل بعنوان "جمهورية الصمت" وفيه المقطع الذي يقول فيه سارتر "لم نكن أحراراً بقدر ما كنا أحراراً تحت الاحتلال الألماني "ليس لأنه يبرر الاحتلال وانما لأن الاحتلال أو الرعب "يوحد البشر" ويدفع الناس الى مواجهة نداء الحرية والاختيار القاسي بداخلهم.
الالتزام الملتبس
يلوم البعض سارتر لأنه لم يحمل السلاح ضد الاحتلال النازي، وهناك من يلومه لأنه كتب بدلاً من أن يحارب، وهناك من يلومه على انه تأخر في ادانته للممارسات الستالينية في روسيا السوفياتية، الا ان هذا وذاك ما هي الا هنات تنجرف بسرعة ولا يبقى لها تأثير كبير على الجبل الهائل الذي اسمه جان بول سارتر جبل نقترب منه أو نبتعد عنه الا انه جبل قائم بحد ذاته جبل كبير حقاً.
اقرأ أيضا:
حسين الهنداوي
سارتر والحرية كتراجيديا
التعليقات