لا أحد يجادل بأن السينما متعة او تسلية لأوسع الجماهير، هكذا بدأت... وهكذا استمرت الى وقتنا الحالي. وهي من بين الفنون جميعاً، الأقرب الى عقول وقلوب الناس، والأكثر تأثيراً من كل أشكال الفنون الأخرى والآداب.كثير من المفكرين يعتقدون انها تسلية - إعلامية - تجارية، لذا يقتصر الفن، في رأيهم، على السينما التجريبية، ذات المظهر الفني والجاذبية غير التجارية. والمقصود بالتجريبية؛ يشمل الشكل والأسلوب والتقطيع في الفلم السينمائي وصولاً حتى الى طريقة العرض ودمج الصوت مع الصورة. من الواضح جداً، ان هذا النوع من (الفن) لا يعني الجماهير كثيراً، بل ربما قد لا تتقبله أحيانا حتى النُخب المثقفة. ان ما يهم الجمهور، وحتى النقّاد والكتّاب، هو التجديد والتطوير والتنوير في السينما "التقليدية" الممتعة التي أسست لنفسها شكلاً وأسلوباً معيناً – مقبولاً او مفهوماً – على مدى قرنٍ من الزمان. ولا ينكر بالطبع دور عاصمة السينما الأمريكية "هوليوود"، المسيطر والريادي، في التأثير على الرؤية والممارسة السينمائية في معظم أنحاء العالم. واعظم تجليات هذا الدور المؤثر في حياتنا العربية هو السينما المصرية، التي لم تكتفي باقتباس الأفكار والقصص من هوليوود، لكنها استوردت أيضا الأساليب والأشكال وحتى زوايا التصوير والمواقع والمشاهد، وصولاً الى اختيار وصنع النجوم وفقاً للنظرة الأمريكية، واقصد درجة التشابه الشكلي والجسدي بين نجومنا ونجماتنا مع الأصول الهوليوودية ... وبسبب فارق الزمان والمكان، ربما لم يتمكن الكثير من إدراك تلك التأثيرات والتشابهات. وعموماً فان النمط الهوليوودي في الإنتاج السينمائي يطغي في كل أنحاء العالم بشكل او بآخر، ولا تجد دول العالم كافةً أي غضاضة في الترويج للسينما الأمريكية من خلال دور العرض او المحطات التلفازية الحكومية والاهلية. والحقيقة ان تربية الجماهير لعقود من السنين على نمط سينمائي معين - متماسك - يطبع في عقول المشاهدين، او لنقل في الذائقة السينمائية، مفاهيم او معايير نقدية او قيمية يصعب على المشاهدين التحرر منها.
الجمهور العربي يمكن تقسيمه تقليدياً الى ثلاثة أنماط في ذائقته السينمائية: جمهور الفلم العربي، جمهور الفلم الهندي، جمهور الفلم الأمريكي. وقد يتداخل جمهور الفلم العربي مع جمهور الفلم الهندي كثيراً، فهما ينطلقان من نفس الطبقات والفئات الاجتماعية ومن نفس المنابع الثقافية، مع ملاحظة ان جمهور الفلم العربي اكثر وعياً وتميزاً. اما جمهور الفلم الأمريكي فيتمثل في مجمله من الشباب المتعلم والجامعي، سليل الطبقات الاجتماعية الأغنى والأكثر انفتاحا. وفي حياتنا الواقعية نجد ان محبي البكاء والأقدار والمصادفات يتجهون الى الفلم الهندي، بينما الرومانسيون والباحثون عن قصص الحب - وخصوصاً بين النساء - يتجهون نحو الفلم العربي، اما الفئات الأكثر تعلماً - وبينهم بالطبع الفئات الأكثر ثقافة - فانها تجد نفسها بسهولة اكثر في الأفلام الأجنبية، وخصوصاً الأمريكية، مع ما فيها أحيانا من غربةٍ حقيقية عن الواقع. ويجب الاعتراف ان المثقفين – وليس المتعلمين – هم الأكثر قدرةً على الانتقاء والتمييز بين الأفلام المختلفة. وبسبب انتشار التعليم والثقافة وأزمة السينما المصرية، فاننا نشهد إقبالا متزايداً على الفلم الأمريكي منذ بداية الثمانينات، وخصوصاً مع دخول الفيديو المنزلي الى العالم العربي، فقد ضُربت او هُزمت المواقع التقليدية للسينما العربية والهندية في العالم العربي.
وفي بلد مثل مصر: مركز صناعة السينما العربية، وبناءً على الأرقام التي كانت تنشرها أحيانا مجلة "الفن السابع"، فان الأفلام الأمريكية حققت إيرادات عالية جداً رغم عرضها المحدد زمنياً في دور عرض قليلة جداً - بنسخ لا تتجاوز الخمسة أفلام - مقارنةً بالأفلام العربية التي تلجأ عادة الى أسلوب العرض الكثيف والمطوّل - بنسخ قد تبلغ الأربعين أحيانا. فلم مثل (المهمة المستحيلة: 2)، وفي أسبوعين من عرضه في أربعة صالات، حقق ما يصل الى 800 ألف جنيه مصري. هذا اذا علمنا ان قرصنة الأفلام الأجنبية شائعة جداً في الدول العربية، كما ان دور العرض التي تعرض الأفلام الأجنبية تتميز بارتفاع أسعار تذاكر الدخول اليها. ولو تُرك الأمر لشركات التوزيع وأصحاب دور العرض، لربما تغيرت الأمور بما لا يسرّ الفلم العربي وأصحابه أبدا. كما ان فلماً مثل (موعد مع جو بلاك)، بموضوعه الشائك دينياً وبالتالي رقابياً، قد حقق في ثلاثة أسابيع من العرض، وبنسخة واحدة فقط، حوالي 165 ألف جنيه مصري. وهذا يشير الى ان جمهور الأفلام الأمريكية لا ينجذب فقط الى الإنتاجيات الضخمة او أفلام الحركة والتشويق.
ويستمر غزو الأفلام الأمريكية بسبب محدودية الإنتاج المصري، كما يستمر النجاح التجاري لهذه الأفلام (المتنوعة) بالرغم من الحماية التي يتمتع بها الفلم المصري حالياً – هذه الحماية التي ستتآكل حتماً عندما ستنضم مصر فعلياً الى منظمة التجارة الدولية (الغات). كل هذا يقودنا الى ضرورة اجراء دراسة حقيقية لتوجهات الجمهور وذوقه، خصوصاً بعد الثورة المعلوماتية والاتصالاتية المتحققة في العقد الأخير من القرن العشرين. وانْ كان جمهور الأفلام الهندية لا يهمه المنطق الذي يحكم الأحداث في الفلم، وإنْ كان جمهور الفلم العربي لا يمل من قصص الحب المجترّة والمستنسخة، فانّ أهم ما تتميز به السينما الأمريكية وتهتم به في السنوات الأخيرة، هي محاولة إقناع المشاهدين – في كل مكان – بما يجري على الشاشة.
ومهما تعقدت او التوت الحبكة في الفلم، يظل هناك حدٌ أدنى من العلاقات السببية داخل الفلم، يعززها بذخ إنتاجي وبصري وحرفية سينمائية عالية. إذ لن يُترك المشاهد ليستعمل خياله في ملء الثغرات والتفسير واستخلاص النتائج. لذلك يبدو المخرج - او المنتج أحيانا - متحكماً تماماً في سير الاحداث، دقيقاً في رسم الشخصيات ليصل الى النهاية المنطقية المتلائمة مع تصاعد الأحداث والصراعات. وحتى في الأفلام المستقلة، والأفلام ذات المستوى الفني العالي، والأفلام الرومانسية …. تظل هذه الشروط قائمة ومتحققة الى حدٍ بعيد.
وفي رأيي، ان الإقناع او محاولة الإقناع في الفلم السينمائي، هي مطلب جماهيري أساسي لنجاح أي فلم. ان تطور تقنيات المؤثرات الخاصة والاهتمام بتفاصيل الإنتاج المكلفة، غايتها الأخيرة هي المزيد من الإقناع.
ومهما كانت مواقفنا السياسية او الثقافية تجاه السينما الأمريكية، فأننا مدعوون للتعلم والاستفادة مما يجري الى حدٍ كبير. ان محاولة الإقناع ما هي في النهاية الا الحد الأدنى من الاحترام لذكاء الجمهور - وليس لوعيه بالطبع. ويجب الإقرار ان الجمهور اصبح ذكياً في كل مكان، ولكنه لم يصل الى مرحلة متقدمة من الوعي ليستطيع الحكم على المضمون والرسالة النهائية للفلم. ان جمهوراً واعياً، قد يكون متسامحاً تجاه العديد من الهفوات والثغرات التقنية والإنتاجية، وسيهتم بالجانب الفني اكثر من اهتمامه بالتفاصيل والمنطق الذي يحكم سير أحداث الفلم. لكن بغياب النقد السينمائي الجاد، وبغياب الثقافة السينمائية، فأن أقصى ما نطمح اليه : هو الجمهور الذكي الذي يفهم العلاقات الداخلية في الفلم السينمائي، ويتحسس جزءاً بسيطاً من الجوانب الفنية والفكرية.
كما تمارس بعض المحطات الفضائية المتخصصة، تنميطاً من نوعٍ آخر على الذائقة الفنية للجماهير، بتركيزها على نوعٍ معين من الأفلام، القديمة مثلاً - عربية او أمريكية - في تكريسٍ واضح للنوستالجيا ومداعبة مشاعر فئات عمرية معينة من المشاهدين. ان هذه العملية قد تكون مضرة جداً في غياب الدراسة والنقد والتحليل لهذا النوع من الأفلام، والتي يجب ان تجري متزامنة مع هذه العروض وبأساليب متطورة وممتعة – كما يحدث في بعض المحطات التلفزيونية الأمريكية – بحيث تُبرز الضرورة الاجتماعية والثقافية لهذه السينما القديمة عمراً.
وفي النهاية، نستطيع القول : ان هناك حراكاً كبيراً في ذوق وذكاء الجمهور السينمائي العربي، ومع هذا فهو واقع تحت تأثير السينما الأمريكية بشكل كبير، وبدون أي سند فكري او ثقافي في نقد وتحليل هذه السينما.
- آخر تحديث :




التعليقات