شطحات:
في عتمةِ نسيانِ المحيط، يخلدُ إلى نفسهِ، تدور صراعاتٌ ذهنيةٌ في لبابهِ، تتزاحمُ الأفكارُ والمواقفُ في مساحةٍ عقليةٍ لا تتجاوزُ قبضةَ يدٍ، يفكرُ ويفكر... على نارٍ هادئةٍ يتركُ خلاياهُ العقليةَ تعلو وتهبطُ، بعضها يتبخر، يحرقُ مزيداً منها، كأنه ينحو نحوَ إفشالِ المتواردِ على ذهنهِ من مخزونهِ العقلي، يفكرُ علهُ يصلُ إلى نتيجةٍ، ولكن..... تبقى الأفكارُ ملتهبةً.
على كرسيهِ كان جالساً... بيدهٍ "جريدةٌ"... تحاولُ عينهُ سرقةَ مقاطعَ منها لإعطابِ ما يغزوهُ من أفكارٍ، يحاولُ مطالعةَ ما في صفحاتها من كتاباتٍ... لكن عبثاً... هناك شيءٌ ما استحوذَ على فكرهِ وعقلهِ ليجعلَ عينهُ يائسةً في محاولاتها، لا.. ليست يائسةً، بل محطمةً قدرتُها وطاقتُها أمامَ ما يحاكَ في ثنايا عقلهِ.
غزوُ الأفكارِ وسرعةُ عدوِها جعلتهُ لا إرادياً... يحركُ رأسهَ يميناً تارة وشمالاً تارة أخرى، على قارعةِ هذه الحركةِ تقاومُ عينيهِ بما أوتيا من قوةٍ بالتصاقهما بما يصادفهما.... علًّ أفكارَهُ تقفُ عند ما سقطت عليهِ عينياهُ.... دون جدوى.
معركةٌ دائرةٌ هناك... هو في مكانهَ... لا يفهمُ أطرافها... ينظرُ في أبعادِها... في نتائِجها.... أسباِها ومسبباتِها... المعركةُ يشتدُ لهيبُها... مزيدٌ من الدمار... مزيدٌ من القتلى.... مزيدٌ من المقاومة....مزيدٌ من الخلايا المعطبة... مزيدٌ من التصوراتِ لنتائِجها الأوليةِ....
استطاعت عيناهُ التعرفَ على الحرب قطبيّها، انهما القلبُ والعقلُ... يريدُ التعاملَ مع الأشياء بمحسوساتِها وملموساتِها، انه العقلُ... يهدفُ إلى التشبثِ بالبعدِ الإنسانيِ والعاطفيِ لتلكَ الأشياء، القلبُ هو.
اتخذا من الجسدِ الملقى على قطعةٍ بلاستيكيةٍ ساحةً لحربهما... والأفكارِ المتضاربةِ أسلحةً فتاكةً للنيل من بعضهما في محاولة لحسم الموقف لصالح كل منهما.
بينما الحربُ على هذه الحال، استطاعت عينٌ من اثنتين التسللَ خلسةً يميناً، هناك رأت إنساناً يحظى بقدرٍ وفيرٍ في نفسها، رأتهُ تعباً، وحيداً، يضعُ بين يديهِ رأسهُ، كأن الهمومَ شنت هجوماً كاسحاً عليه من الاتجاهات كلها.... هكذا فسرت هي.
في هذا الموقف... وسطَ صراعٍ ذهنيٍ بين العقلِ والعاطفةِ... يجلسُ "الإنسانُ ذاكَ"... استطاعت العينُ من خلالهِ نقلَ المعركةِ إلى ساحتهِ، العقلُ يسلطُ حواسَهُ كلها نحوَهُ... يراقبُ حركاتَهُ كلها وردودَ أفعالهِ.... القلبُ من بعيد، يحاولُ سبرَ أغوارهِ والوصولَ إلى "إنسانهِ الداخلي"، بل إنسانيتهِ التي طالما اشتهى "نبش" دهاليزها الترابية.
يسددُ العقلُ قذيفةً لخصمهِ... لن تستطيعَ الوصولَ لإنسانهِ الداخلي... لا يوجدُ لديهِ آخرٌ... هو إنسانٌ واحدٌ... هو ما تراهُ أمامكَ بطبيعَتِهِ وشراسَتِهِ.
يتلقى القلبُ الهجومَ عاكساً إياهُ بحركةٍ بهلوانيةٍ إلى مصدرهِ... هكذا أنتَ دائماً... تحكمُ على ظواهر الأمور لا خواتمها، أما خفاياها فأنت عنها عاجزٌ... أنت محدودُ البصرِ والبصيرةِ.
العاطفة ُمن خلالِ إنسانيتِها وعفويتِها تحاولُ محاكاةَ "إنسانيته"، لديها شعورٌ مرهفٌ تجاهَ الآخرين، تعشقُ "إنسانَهُم الداخلي" النقي، الصافي، البعيدُ عن تشوهاتِ الأحداثِ والمواقفِ التي تحفرُها الأيامُ بمصائِبها.
تبعثُ العاطفةُ بشارةٍ لذاكَ الإنسانُ، أن تحادِثَهُ "بإنسانيتهِ"، لم تُطِق رؤيَتَهُ وحيداً، مهموماً... تحادثا قليلا لتقطعَ حديثهما سطوةُ "الإنسانُ الخارجيُ"، مترجمةً عبارةً "ما تراه العينُ ويدركهُ العقلُ وتغفلهُ العاطفةُ أو تحاول تجاهُلَهُ" وإقصاءَ "الداخلي" من ساحةِ المحاكاة.
أطلقَ العقلُ زفراتَ غضبهِ... الم اقل لكِ انه شرسٌ ليس فيه ما تبحثين؟؟؟ يجبُ التعاملَ معهُ من "إنسانهِ" الطبيعي لا الخفي... انه المسيطر... أين ذاك الذي عنهُ تبحثين؟؟
هناك سيطرةٌ ظاهريةٌ لهذا الإنسان... سيعود الآخر لفرضِ سطوتهِ في النهاية... قالت العاطفةُ.
كلامٌ معسولٌ جميلٌ... أين هو من الحقيقةِ إذن؟؟؟... قال العقلُ.
بينما هما على هذه الحال حتى فرضَ "الإنسانُ الخارجيُ" جبروتهِ على المكان حاسماً الصراعَ لصالحِ "العقلِ"..... " لن آتِ إليكَ، إذا أردتَ فلتأتِ أنت".... هكذا أعلن.
بعد هذا الصراعِ المريرِ في خلدهِ وأمامَ ناظريهِ أيقنَ أن لا فائدةَ مما يحاولُ الوصولَ إليهِ، انه إنسانٌ يشعرُ بالآخرين ويقدرَهم حقَ قدرِهم، لكن صراعَهُ هذا أيقنَهُ أنّ بنيَّ البشرِ يختلفونَ "خارجياً وداخلياً"، ليس هناك إنسانٌ "داخليٌ" واحدٌ لديهم جميعاً، فإنسانُ كلَ إنسانٍ يحملُ قدراً معيناً من الإنسانيةِ يختلفُ في الاتجاهِ ويساويهِ في الشاكِلَة.
بقي على كرسيهِ ملقياً بجسدهِ... فكر قليلاً وملياً... غَزَتهُ فكرةُ المحافظةِ على إنسانيتهِ، "أن تكونَ إنساناً إنسانيا خيراً من ألا تكون"، "يطرح الإنسان أسئلة على ذاته أحيانا رغبة في تعذيب نفسه لأنه حتى للألم لذة"، في هذه الدنيا "كلٌ يغني على ليلاه، وأنا على ليلي سأُغني، سأُغني حتى يَغنى الليلُ بغنائِه" بهذه المفردات اخمدَ لهيبَ حربهِ... عاد بعينه إلى نظيرتها لمطالعةِ صحيفتهِ بسبرِ أغوارِ سطورها... يبحثُ في تلافيفها عن الإنسانِ الذي يبغي.
هناك كان...إنسانه
التعليقات