Wash
William Faulkner
ترجمة: رقية كنعان: قف ستبن بجانب سرير القش الذي استلقت عليه الأم وطفلها، وبين الألواح الخشبية للجدار سقطت أشعة الشمس الباكرة بضربات قلم رصاص طويلة تستقر بين قدميه المتباعدتين وعلى سوط الركوب في يده تمر عبر خيال الأم الساكن، التي أخذت تنظر إليه بعينين حزينتين غامضتين، الطفل إلى جانبها كان ملفوفا بقطعة قماش مهترئة ولكن نظيفة، خلفهم كانت عجوز زنجية تجلس القرفصاء بقرب الموقد حيث نار ضئيلة لا زالت فيه.
"حسنا، ميلي"، قال ستبن، "من السيئ أنك لست فرسا، وإلا كنت سأعطيك مربطا معتبرا في الإسطبل".
سكنت الفتاة على فراش القش دون حراك، استمرت بالنظر إليه فحسب دون أي تعبير بوجه شاب حزين وغامض لا زال شاحبا من أثر المخاض، ستبن تحرك ليظهر خلال خطوط الشمس المتشظية وجه رجل ستيني، قال بهدوء للزنجية المقرفصة: "جريزلدا ولدت هذا الصباح".
سألت الزنجية :"حصانا أم فرس؟"
"حصان ، مهر جيد لعين ... ما هذه؟"، وأشار إلى القش باليد التي حمل بها السوط.
"هذه فرس، أخمن ذلك"
"هاه"، قال ستبن،"مهر جميل لعين، سيكون بصقة وصورة من روب روي عندما ركبته وانطلقت شمالا في 61 ، هل تذكرين؟"
"أجل، سيدي"
ألقى نظرة خاطفة تجاه القش، ولا يمكن لأحد التحديد إن كانت الفتاة تنظر إليه أم لا، مرة أخرى أشار بسوطه إلى سرير القش."افعلي كل ما يحتاجانه بكل ما يتطلب ذلك منك"، خرج مارا خلال ممر الباب المتصدع ومشى بين صفوف الحشائش(التي انحنت على طول الرواق مقابل المنجل الذي استعاره ووش منه قبل ثلاثة أشهر لقصها) حيث كان حصانه ينتظر و ووش يمسك له العنان.
عندما ركب الكولونيل ستبن لمحاربة اليانكي*، لم يذهب ووش. وكان يقول لكل من يسأل وبعض من لا يسألون أيضا:"إني أعتني بمكان السيد الجوهري وزنوجه"، كان يبدو كالحا، مصابا بالملاريا بعينين شاحبتين متسائلتين، يبدو في الخامسة والثلاثين، رغم أنه كان معروفا أن لديه ليس ابنة فقط وإنما حفيدة عمرها ثماني سنوات أيضا. هذه كانت كذبة، غالبيتهم- الرجال البقية القلائل بين الثامنة عشرة والخمسين والذين أخبرهم بذلك- عرفوا ذلك، رغم أن بعضهم اعتقد أنه ذاته يصدقها وحتى أولئك اعتقدوا أن عليه أن يتعقل قبل أن يوضع في اختبار أمام السيدة ستبن أو عبيد آل ستبن.
يعرفون أكثر أو كانوا أكسل وأقل حيلة من اختبار ذلك، كانوا يقولون أن الرابطة الوحيدة له مع مزرعة ستبن كانت هي أن الكولونيل ستبن سمح له ولعدة سنوات بأن يربض في كوخ متصدع على سلخ في قاع النهر على أرض ستبن والذي كان ستبن قد بناه كمستجم للصيد أيام عزوبيته قبل أن يؤول إلى خراب من قلة الاستخدام ويبدو الآن كوحش بري مريض أو هرم محشور هناك ليشرب الموت.
عبيد آل ستبن ذاتهم سمعوا قوله، وضحكوا، لم تكن المرة الأولى التي يضحكون بها عليه منادينه بالقمامة البيضاء من وراء ظهره. بدؤوا يسألون أنفسهم في مجاميع عندما يلاقونه في الطريق التي تنطلق من السلخ ومجمع الصيد القديم :"لم لست في الحرب أيها الرجل الأبيض؟"
كان يتوقف، ينظر إلى حلقات الوجوه السوداء والعيون البيضاء والأسنان التي تكمن خلفها السخرية، ويجيب: "لأن لدي ابنة وعائلة أرعاها، ابتعدوا عن طريقي أيها الزنوج".
-"زنوج؟"، وكرروا ضاحكين،"زنوج، انظروا إليه ينادينا بالزنوج؟"
- "نعم، وما كنت لأملك زنوجا ليرعوا أقاربي لو أني كنت ذهبت"
- "ولا شيء آخر عدا ذلك الكوخ المتهدم في الأسفل والذي لن يدع الكولونيل أيا منا يقيم فيه"
عندها كان يرشقهم بالماء وأحيانا كان يهرول خلفهم بعد أن ينتزع عصا من الأرض فيما يهربون أمامه، ومع ذلك كانوا يطاردونه بالضحك الأسود الساخر الغامض، غير ممكن التخلص منهم ويتركونه لاهثا عاجزا وهائجا.
مرة حصل ذلك في الساحة الخلفية للمنزل الكبير نفسه، كان هذا بعد أخبار قاسية جاءت من جبال تينيسي ومن فيسكبورج ، شيرمان عبر المزرعة ومعظم الزنوج تبعوه، كل شيء آخر تقريبا ذهب مع الحرس الفيدرالي والسيدة ستبن أرسلت كلمة لووش بأنه يستطيع جني العنب الأمريكي الناضج في العرائش. هذه المرة كانت خادمة منزل زنجية من القلائل الذين بقوا، استدارت على درج المطبخ قائلة:" توقف الآن يا عزيزي الرجل الأبيض، قف حيث أنت، لم تعبر أبدا تلك الدرجات عندما كان الكولونيل هنا ولن تعبرها الآن!"
ذاك كان صحيحا، ولكن كان هناك هذا النوع من الكبرياء: لم يسبق له أن حاول دخول المنزل الكبير رغم اعتقاده بأنه إذا ما فعل فإن ستبن سيستقبله ويأذن له،"ولكني لن أعطي الفرصة لأي زنجي أسود أن يقول لي أني لا استطيع الذهاب إلى أي مكان"، قال ذلك في نفسه ،"ولن أعطي الكولونيل فرصة لعن زنجي على حسابي".
ذلك رغم أنه وستبن أمضوا أكثر من أمسية معا في أيام أحد نادرة عندما لم يكن هناك ضيوف في البيت. ربما ذهنه أدرك أن ذلك كان لأن ستبن لم يكن لديه شيئا آخر وبحاجة لرفقة، ولكن ظلت حقيقة أن كلاهما أمضيا الوقت كله في تعريشة العنب، ستبن في الأرجوحة و ووش يقرفص إلى العمود وبينهما دلو من ماء، آخذين شربة وراء شربة من ذات الزجاجة. في الأثناء و في أيام الأسبوع كان يرى خيال الرجل من بعيد، كلاهما كان في نفس العمر رغم أن أيا منهما( ربما لان ووش لديه حفيدة بينما ابن ستبن كان صغيرا في المدرسة) لم يظن ذلك- يتجول على حصانه في المزرعة.
لأجل هذه اللحظة فإن قلبه هادئ وفخور، بدا له أن العالم فيه زنوج، والذين أخبره الإنجيل عنهم أن الله خلقهم ولعنهم ليكونوا بهائم خانعين لذوي البشرة البيضاء، يحيون أحسن منه من حيث السكن والملابس. العالم الذي وعاه كان حوله دائما يقلد أصداء ضحكات سوداء ولكنه كان حلما ووهما، والعالم الحقيقي له كان شعوره بالتمجيد الجاري على العالم الأسود، وكان يفكر أيضا كيف أن الكتاب المقدس قال أن كل البشر قد خلقوا على صورة الله وهكذا فان كل البشر لهم نفس الصورة في عيني الله على الأقل، ولهذا يمكن القول أن رجلا فخورا سيحادث نفسه هكذا:" لو نزل الله بنفسه وعاش على الأرض فإن هذا ما سيهدف لان يكون عليه"
ستبن عاد في عام 1865 على حصانه الفحل الأسود، كان قد بدا وكأنه كبر عشرة أعوام، ابنه قتل في نفس الخريف الذي ماتت فيه زوجته. عاد بوسام للبسالة تقلده من يد الجنرال لي إلى مزرعة خربة، حيث منذ عام تعيش ابنته على هبة ضئيلة من الرجل الذي سمح له قبل خمسة عشر عاما بالسكن في موقع الصيد والذي نسي وجوده مع الزمن. ووش كان هناك لملاقاته، دون أن يتغير، لا زال كالحا غير محدد العمر بنظراته الشاحبة المتسائلة، جوه مختلف، متذلل ومألوف، "حسنا سيدي لقد قتلونا ولكنهم لم يهزمونا، أليس كذلك؟".
هذا كان فحوى حواراتهما للخمس أعوام اللاحقة. إنه ويسكي رديء النوع ما يشربانه الآن معا من إبريق خزفي ولم يكن ذلك في تعريشات العنب بل في خلفية المحل الصغير الذي تمكن ستبن من إنشائه على الطريق السريع، غرفة خشبية برفوف حيث أصبح يوزع الكيروسين وطعام الإسطبلات والحلويات الشعبية وكذلك الخرز الرخيص والأشرطة للزنوج والبيض الفقراء أمثال ووش ،الذي عمل معه كبواب وكاتب، والذين كانوا يأتون على أقدامهم أو على بغل وضيع ليساوموا بطريقة مضجرة من أجل عشرة سنتات أو ربع دولار مع رجل بإمكانه التجول فيما مضى(الفحل الأسود كان لا يزال حيا والإسطبل الذي عاش فيه كان في وضع أفضل من منزل السيد ذاته) على بعد عشرة أميال في أرضه الخصبة وحيث قاد الجنود بشجاعة في المعارك؛ إلى أن يقرر ستبن أن يفرغ المحل بضراوة، ويقفل الأبواب من الداخل ويرتد هو ووش إلى الخلف والإبريق .
ولكن الحديث لن يكون هادئا كما كان حين كان ستبن يستلقي في الأرجوحة يغني مونولوجا متعجرفا بينما ووش يقرفص الى العمود وهو يقهقه. يجلسان معا الآن رغم أن ستبن يستخدم المقعد فيما ووش يستخدم أي صندوق أو برميل في متناول اليد، ولكن ذلك لفترة قليلة لان ستبن سريعا كان يصل مرحلة الهياج فينهض يترنح ويندفع ويصرّح ثانية أنه سيأخذ مسدسه والفحل الأسود ويركب بيد واحده تجاه واشنطن ويقتل لنكولن حتى الموت، "وشيرمان الآن مواطن خاص ، اقتلهم وأطلق الرصاص عليهم كالكلاب التي هم مثلها".
- "نعم أيها الكولونيل"، كان يقول وهو يمسك ستبن حالما يقع ثم كان يوقف أول عربة مارة و في حالة عدم توفرها، يمشي ميلا إلى أقرب جار ليستعير واحدة ليعود ويحمل ستبن إلى منزله. لقد دخل المنزل الآن كما صار يفعل منذ مدة طويلة ليأخذ ستبن إلى المنزل في أي عربة تتوفر، يحركه بهمهمات متزلفة كما لون كان حصانا أو الحصان الفحل ذاته. الابنة تستقبلهم وتفتح الباب دون أدنى كلمة، يحمل عبئه خلال المدخل الأبيض الرسمي المتوج بنافذة نصف دائرية تم استيرادها قطعة قطعة من أوروبا مع لوح ممسمرالآن فوق جزء ناقص، عبر سجادة مخملية فني كل وبرها وأعلى درج رسمي، عبر شبح من الألواح المكشوفة بين شريطين من الدهان المتلاشي إلى داخل غرفة النوم، ستكون معتمة الآن وسيدع حمله يتمدد على السرير ويخلع عنه ملابسه ثم يجلس بهدوء في كرسي مجاور. بعد فترة تأتي الابنة إلى الباب.
- "نحن بخير الآن، لا تقلقي أبدا آنسة جوديث"، وبعد ذلك تظلم فيستلقي على الأرض بجانب السرير ولكن لليس للنوم لأنه بعد بعض الوقت وأحيانا قبل منتصف الليل فان الرجل النائم على السرير يتقلب ويتأوه ثم يتحدث: "ووش؟"
- "ها أنا هنا سيدي، عد للنوم، لم يهزمونا، أليس كذلك؟ أنا وأنت نستطيع ذلك"
حتى حينها، كان قد رأى الشريط على خصر حفيدته، عمرها خمسة عشر عاما، ناضجة كأسلافها من بنات جنسها، وعرف من أين أتى الشريطـ، كان يراه ونوعيته يوميا لمدة ثلاث سنوات، حتى لو كذبت بشأن الحصول عليه وهو ما لم تفعله، كانت خائفة متجهمة وصريحة، "قولي الآن، لو أعطاك إياه السيد آمل أن تكوني تذكرت أن تشكريه".
ظل قلبه هادئا حتى عندما رأى الثوب، راقب وجهها المتحدي المرعوب عندما قالت له أن الآنسة جوديث ساعدتها على صنعه. ولكنه كان رزينا وهو يقترب من ستبن بعد أن أغلقا المحل في ذلك المساء يتبع واحدهما الآخر إلى الخلف.
- "أحضر الإبريق"، قال ستبن موجها.
رد ووش: "انتظر ، ليس الآن لمدة دقيقة"
ولم ينكر ستبن الثوب وسأل ماذا عنه. ولكن ووش قابل نظرته المتعجرفة وتكلم بهدوء "لقد عرفتك لعشرين عام ولم أرفض عمل أي شيء طلبته مني، إني رجل ستيني وهي ليست إلا فتاة ذات خمسة عشر ربيعا".
-"هل تعني أني قد أؤذي فتاة؟ إني رجل مسن بعمرك!"
-"لو كنت أي رجل آخر، كنت سأقول أنك عجوز مثلي. وسواء كنت عجوزا أم لا، ما كنت لأدعها تحتفظ بالثوب أو أي شيء آخر يأتي من يدك ولكن أنت مختلف"
- "أي اختلاف؟"، ولكن ووش نظر إليه بوجهه الشاحب وعيناه المتسائلتين.
- "ولهذا أنت خائف مني؟"
نظرات ووش لم تعد متسائلة، كانت هادئة صافية:"لست خائفا لأنك شجاع، ليس لأنك كنت شجاعا في دقيقة أو يوم من عمرك أو لأنك تملك ورقة من الجنرال لي تعرضها ولكنك شجاع كما أنك حي وتتنفس وهنا يكمن الاختلاف، و لا أحتاج تذكرة من أحد ليخبرني ذلك أو أن أعرف أنه مهما توليت أو عالجت سواء كان مجموعة رجال أو فتاة مهملة أو حتى كلب صيد فإنك ستفعل ذلك جيدا ويكون كل شيء على ما يرام".
والآن كان ستبن هو من ينظر بعيدا واستدار فجأة بفظاظة وقال بحدة "أحضر الإبريق"
-"نعم سيدي ".
وبعد سنتين من هذا الأحد، كان يراقب القابلة الزنجية والتي مشى ثلاثة أميال ليحضرها ودخل الباب المتصدع والذي تستلقي حفيدته خلفه وهي تنتحب، قلبه كان لا زال هادئا وإنما قلقا متأثرا. علم بما كان يقوله – الزنوج في الكبائن على الأرض، والرجال البيض الذين يتبطلون اليوم بأكمله جوار المحل،مراقبينهم هم الثلاثة ستبن وهو وحفيدته بجوها المستخف ذاك أن حالتها كانت كل يوم تزداد وضوحا، كثلاثة ممثلين جاءوا وذهبوا على المسرح. فكر:"أعرف ماذا يقولون لبعضهم البعض، وأستطيع تقريبا سماعه: ووش جونز ثبت ستبن أخيرا، أخذ ذلك منه عشرين عاما ولكنه فعلها أخيرا".
سيكون الفجر بعد قليل ولكنه لم يحن بعد، من المنزل حيث أضاء المصباح خافتا خلف حلق الباب جاء صوت حفيدته رتيبا كما لو أنها مسيرة بواسطة ساعة، ذهب وهو يفكر ببطء وصفاء ذهن بصوت حوافر حصان يعدو إلى أن ظهر فجأة شكل الرجل المتباهي على الفحل الجميل الفخور متجولا. ثم تلعثم تفكيره وأفلس بشكل واضح ليس في التبرير أو حتى الشرح، ولكنه المثل الأعلى الوحيد غير القابل للتفسير، خلف كل معوقات اللمسة الإنسانية.
-" إنه أكبر منهم جميعا، اليانكي الذين قتلوا ابنه وزوجته وأخذوا عبيده ودمروا أرضه، وأكبر من هذه البلاد والتي أنكرته إلى محل ريفي صغير، أكبر من النكران الذي حمله إلى شفاهه مثل كوب الجعة في الكتب المقدس، كيف عشت معه عشرين عاما بدون أن أتعلم منه وأتغير من قبله، ربما لست كبيرا مثله وربما أنني لم أقم بأي تجول ولكني على الأقل تعالجت وأنا وهو نستطيع فعل ذلك، وفي هذه الحالة سيريني ما يريدني أن أفعل"
ثم حل الفجر، فجأة استطاع رؤية المنزل والزنجية العجوز في الباب تنظر إليه وأدرك أن أنين حفيدته توقف.
- " إنها بنت"، قالت الزنجية، "تستطيع أن تخبره إن كنت تريد ذلك" ثم عادت ودخلت المنزل.
- "بنت"، و كررها في ذهول وهو يستمع لصوت الحوافر ويرى الخيال المتفاخر يبرز ثانية. بدا وكأنه يراقب مروره وتجسده الذي ميز تراكم السنوات والزمن على حبكة أنه حارب تحت سيف مهدد وراية قد تمزقت بفعل طلقة تندفع تحت السماء بلون مثل الفسفور المدوي، مفكرا للمرة الأولى في حياته هو، "ربما ستبن رجل عجوز مثلي" ، فكر "لديه بنت" بذهول ثم فكر بمفاجأة الطفل السارة، "نعم سيدي، لقد عشت لأكون جدا عظيما أخيرا"
دخل المنزل ، تحرك بخراقة على أصابع القدمين كما وأنه لم يعد يسكن هنا، وكما لو كان الطفل الذي سحب نفسه الأول وبكى في الليل طرده وإن كان من فصيلة دمه. ولكن حتى فوق سرير القش لم يستطع أن يرى سوى ضبابية وجه حفيدته المنهك، تكلمت الزنجية المقرفصة على الأرض: "الأفضل أن تذهب لتخبره إن كنت تريد ذلك، إنه ضوء النهار الآن".
ولكن ذلك لم يكن ضروريا. لم يحتج سوى أن يستدير تجاه الزاوية حيث المنجل الذي استعاره من ستبن قبل ثلاثة شهور ليقص الحشائش، ليظهر ستبن بنفسه راكبا حصانه الفحل الأسود. لم يعجب كيف أن ستبن عرف واعتقد على وجه اليقين أن هذا ما أتى به في هذه الساعة من صباح الأحد ووقف بينما كان ستبن يترجل وأخذ اللجام من يده، تعبير أبله على وجه النحيل بالنصر وهو يعلن: "إنها بنت ، سيدي ، وأنت في مثل عمري"، إلى أن تجاوزه ستبن ودخل المنزل، وقف مكانه واللجام بيده وسمع ستبن يجتاز الأرضية إلى سرير القش، لقد سمع ما قاله ستبن وبدا وكأن شيئا مات في داخله قبل أن يتابع.
الشمس كانت الآن عالية، شمس منطقة الميسيسيبي الناعمة، بدا له أنه يقف تحت سماء غريبة في مشهد غريب، مألوف فقط كما تبدو الأمور مألوفة في الأحلام، كحلم السقوط لمن لم يسبق له التسلق،" لا بد أني لم أسمع ما ظننت أني سمعته"، فكر بهدوء ، "أعرف أني لا أستطيع!" رغم أن الصوت، الصوت المألوف الذي قال الكلمات لا زال يتحدث إلى الزنجية عن مهر ولد هذا الصباح ،"ربما لذلك هو مستيقظ باكرا" ، وفكر :"هذا هو، ليس أنا وما يخصني ما أخذه خارج السرير".
ظهر ستبن، انحدر خلال الأعشاب منتقلا بتأن راسخ ربما كان سيكون أكثر عجلة لو أنه كان أكثر شبابا، لم يكن قد نظر إلى ووش نظرة كاملة، قال له:" ديسي ستبقى وتتولى أمرها، الأفضل لك..." ثم بدا له أن ووش يواجهه وتوقف سائلا:"ماذا؟".
"أنت قلت"، وبدا لأذنيه صوت ووش منبسطا كصوت البطة، كرجل أصم، "أنت قلت أنها لو كانت فرسا كنت ستعطيها مربطا جيدا في الإسطبل؟".
استفهم ستبن :"حسنا؟"، واتسعت عيناه ثم ضاقتا كما تنقبض وتنثني قبضة اليد عندما بدأ ووش بالتقدم نحوه مهاجما. الذهول التام جعل ستبن ساكنا للحظة يراقب الذي عرفه خلال عشرين لا يتحرك إلا بأمر عدا إلى أن أمسك الحصان الذي يركبه. عيناه ضاقتا ثم اتسعتا وبدون أن يتحرك زأر فجأة بصوت عال: "ارجع مكانك"، ثم قال فجأة وبحدة "إياك أن تلمسني".
"بل سأعلمك سيدي، قال ووش بصوته الهادئ الناعم وهو يتقدم. ستبن رفع يده التي تمسك بالسوط؛ الزنجية العجوز حدقت حول الباب المصدع بوجهها البشع كخرافة بالية، "قف راجعا يا ووش"، قال ستبن ثم اضطرب. العجوز انطلقت خلال الأعشاب برشاقة عنزة، ستبن جرح ووش في وجهه ثانية بالسوط وكومه على ركبتيه. عندما نهض ووش وتقدم مرة أخرى كان يحمل في يده المنجل الذي استعاره من ستبن منذ ثلاثة شهور والذي لن يحتاجه ستبن ثانية.
عندما عاد ودخل المنزل كانت حفيدته تتقلب على سرير القش وتنادي اسمه باضطراب، "ماذا كان ذلك"، سألت، "ماذا كان ذلك يا حبيبي، هذه الضجة في الخارج؟"
- "لا شيء "، قال بلطف وانحنى يلمس جبهتها كيفما اتفق: "هل تريدين أي شيء؟"
-"رشفة ماء"، قالت متبرمة "كنت استلقي هنا أنتظر رشفة ماء لفترة طويلة ولكن ما من أحد أعارني اهتماما".
- "الآن حالا"، حاول تهدئتها، نهض وأحضر لها مغرفة الماء ورفع رأسها لتشرب وأراحه ثانية وراقبها وهي تستدير تجاه الطفلة بوجه مصقول ولكنه بعد لحظة رأى أنها كانت تبكي بهدوء.
- "الآن ، ما كنت لأفعل ذلك، ديسى العجوز تقول أنها بنت معافاة جميلة وكل شيء على ما يرام، انتهى كل شيء وما من مبرر للبكاء"
ولكنها استمرت بالبكاء بهدوء وبحزن، نهض ثانية ووقف غير مرتاح فوق سرير القش لبعض الوقت مفكرا كما فعل عندما ولدت زوجته ثم ابنته، "النساء، إنهن أمر غامض بالنسبة لي، يبدون راغبات بهم وعندما يحصلن عليهم يبدأن بالبكاء لذلك، إنه شيء غامض لي ولأي رجل"، ثم نهض بعيدا وسحب كرسيا إلى النافذة وجلس.
خلال هذا الوقت، كان صدر النهار مشرقا ومشمسا وهو جالس إلى النافذة ينتظر، كل حين وآخر كان ينهض على أطراف أصابعه إلى سرير القش ولكن حفيدته نامت الآن، وجهها منهك هادئ وتعب، الطفلة في انحناء ذراعها، ثم عاد إلى الكرسي وجلس ثانية ينتظر ويعجب لم أخذ ذلك منهم كل هذا الوقت إلى أن تذكر أنه يوم أحد، كان جالسا هناك في الظهيرة عندما جاء صبي أبيض اللون بجانب زاوية المنزل قرب الجثة وأطلق صرخة مخنوقة ونظر وحدق للحظة طويلة في ووش الجالس عند النافذة قبل أن يستدير وينطلق، عندها قام ووش على أطراف أصابعه ثانية إلى السرير.
كانت الحفيدة قد استيقظت للتو على صوت صراخ الطفلة دون أن تسمعها،"ميلي ـ هل أنت جائعة؟" سأل ولكنها لم تجب وأدارت وجهها بعيدا، أضرم نارا على الأرض وطبخ الطعام الذي أحضره إلى المنزل في اليوم السابق ، مع خبز الذرة البارد، صب الماء في وعاء القهوة البالي وسخنه، ولكنها لم تأكل عندما حمل الصحن إليها ولذا أكل وحده بهدوء وترك الصحون على حالها وعاد إلى النافذة .
والآن بدأ يعي و يشعر بالرجال الذين يتجمعون مع خيولهم وبنادقهم وكلابهم - فضوليين وحاقدين: رجال من نوعية ستبن كانوا يشاركونه مائدته عندما كان على ووش أن لا يقترب من المنزل أكثر من مجمع الصيد، والذين علّموا من هم أقل منهم كيفية القتال في المعارك و ربما كانوا يملكون وثائق موقعة من الجنرال تقول بأنهم من أوائل الشجعان، والذين حاربوا في الأيام الخالية فخورين متغطرسين على الخيول الجميلة عبر المزارع اليانعة – رموز للإعجاب والأمل وأدوات لليأس والحزن.
وبينما كان يتوقع له الهرب، بدا له أن ليس هناك ما يهرب منه بقدر ما عليه أن يركض إليه. لو هرب فسوف يتحاشى بسرور ظلال متبجحة لأخرى مثلهم تماما لأنهم كانوا من صنف واحد على الأرض التي يعرفها، وهو كان مسنا، مسنا جدا للفرار إن كان عليه أن يفر ولن يمكنه التخلص منهم بغض النظر عن كيف وكم ابتعد عنهم: رجل ماض في الستين لا يمكن له الهرب بعيدا، ليس بعيدا ليهرب خارج حدود الأرض التي يعيش عليها أولئك الرجال يصدرون الأوامر و يحددون قواعد المعيشة. لقد بدا له أنه رأى للمرة الأولى، بعد خمسة سنوات، كيف تمكن اليانكي أو أي جيش حي من هزيمتهم: أولئك الأنيقين، المتفاخرين، الشجعان المميزين والمختارين من بينهم جميعا لتمثيل الشجاعة والشرف والكبرياء. ربما لو كان ذهب معهم إلى الحرب لكان اكتشفهم أبكر ولكنه لو كان اكتشفهم باكرا ماذا كان سيفعل بحياته منذ ذلك الحين؟ كيف يمكنه أن يجد الحد ليتذكر كيف كانت حياته قبل تلك السنوات الخمس؟
الشمس تتجه للمغيب والطفلة تبكي، عندما ذهب إلى السرير القشي وجد حفيدته ترعاها، وجهها لا زال مرتبكا، حزينا وغامضا، "ألم تجوعي بعد؟" ، ردت :"لا أريد شيئا".
-"ولكن عليك أن تأكلي " وهذه المرة لم تجب واستمرت بالنظر إلى أسفل..إلى الطفلة، عاد لكرسيه ووجد الشمس قد غربت. "لا يمكن أن يتأخر ذلك أكثر"، وهو يسمعهم بالجوار- الفضوليين الحاقدين، واستطاع حتى أن يسمع ما كانوا يقولون عنه، صوت الظن خلف الضراوة الفورية : العجوز ووش جونز يهوي أخيرا، لقد ظن أنه نال ستبن ولكن ستبن خدعه، ظن أن بإمكانه أن يجعل السيد يتزوج الفتاة أو يدفع ولكن السيد رفض.
- "ولكني لم أتوقع ذلك أيها السيد" وهو يمسك نفسه على صوته ويسترق النظر ليجد أن حفيدته تراقبه وقالت:"من الذي تكلمه الآن؟"
- "لا شيء، كنت أفكر وتكلمت قبل أن أدرك ذلك"
وجهها أصبح باهتا ثانية، ضبابية غمرت الشفق. "أظن ذلك، أظن أنك يجب أن تصرخ أعلى من ذلك ليسمعك القائم في ذلك المنزل وأظن أنك تحتاج أكثر من الشكوى لتأتي به هنا أيضا"
- "نعم الآن " ،قال، "لا تقلقي"، ولكن أفكاره كانت تسير بانسيابية: "أنت تعرف أني لم، أنت تعرف أني لم أتوقع أو اسأل شيئا من أي رجل إلا ما توقعت منك ولم اسأل ذلك أبدا، لم أظن أن الأمر يحتاج ولم أطلب ذلك البتة، قلت أني لا أحتاج، ماذا عساه يحتاج رجل مثل ووش جونز أن يسأل عنه أو يشك بالرجل الذي يقول عنه الجنرال لي بخط يده أنه شجاع؟ شجاع"، فكر، "من الأفضل لو أن أيا منهم لم يعد في 65، أعتقد أن من الأفضل لو أن نوعه ونوعي لم يسحبا نفس الحياة على هذه الأرض، خير لنا أن نلعن من وجه الأرض من أن يأتي ووش جونز آخر يرى حياته ممزقة عنه وترمى كقشرة جافة إلى النار".
سكن، سمع الخيول فجأة بوضوح، رأى المشعل وحركة الرجال.. تلألأ براميل البارود بلمعانها المتحرك، لم يتحرك، كان الوقت ظلاما الآن واستمع إلى خشخشة الشجيرات وهم يطوقون المنزل، المشعل اقترب وضوؤه غمر الجثة الهامدة في العشب وتوقف، الخيول طويلة ولها ظلال، رجل انحدر ووقف في ضوء المشعل فوق الجثة، حمل مسدسا، نهض وواجه المنزل
وقال :"جونز".
رد جونز من النافذة بهدوء :"أنا هنا، هل هذا أنت أيها الرائد؟"
-"اخرج"
- "نعم" قال بهدوء، "ولكني أريد فقط أن أنظر إلى حفيدتي"
- "سنراها، تعال إلى الخارج"
- "نعم أيها الرائد، دقيقة واحدة"
- "أظهر ضوءا، أشعل مصباحك"
- "نعم، خلال دقيقة" ، كان بإمكانهم سماع صوته يتقهقر داخل المنزل رغم أنهم لم يروه وهو يذهب بخفة إلى صدع المدخنة حيث احتفظ بسكين الجزارة: الشيء الوحيد في المنزل وحياته الذي يفخر به كون شفرته حادة جدا، اقترب من سرير القش وسمع صوت حفيدته تقول: " من ذاك؟ أضئ المصباح يا جدي"
- "لا حاجة للضوء يا حبيبتي، لن يتطلب ذلك أكثر من دقيقة" قال وهو ينحني ويتحسس اتجاه صوتها وهمس:"أين أنت؟"
- "أنا هنا"، قالت باضطراب، "وأين يمكن أن أكون؟ ما .." ولمست يده وجهها وهي تقول ماذا يا جدي.
- "جونز"، نادى الشريف،"أخرج من هناك"
- "في دقيقة واحدة فقط أيها الرائد"، ونهض وتحرك بخفة، وعرف أين في الظلام توجد علبة الكيروسين كما كان يعرف أنها ممتلئة لأنه لم يمر يومان منذ أخذها إلى المحل وملأها وانتظر إلى أن يجد ركوبا إلى المنزل معها لأن الجالونات الخمسة كانت ثقيلة، كان هناك فحم على الأرض، عدا عن أن البناية المتصدعة نفسها كانت سريعة الاحتراق: الفحم، الأرض، الجدران انفجرت بلهب أزرق ساطع. مقابلهم رآه الرجال يهرع إليهم في لحظة متوحشة حاملا معه المنجل قبل أن تصهل الخيل وتندفع، كبحوا الخيل وأعادوها ناحية الضوء، ولكن الشبح ركض تجاههم بمنجله
-"جونز"، صرخ الشريف، "توقف توقف وإلا أطلقت النار"، ولكنه شق طريقه تجاههم عبر صوت اللهب، وعبر صوت الخيل وعيون الجياد المترقبة وبدون أي صرخة أو صوت.
هامش : القصة من كتاب:
Great American Short Stories
Wallace and Mary Stegner
Dell Publishing Co.,1957
وكتبت عام 1934
* اليانكي: هم أصلا أهل انجلترا وفي أدبيات الحرب الأهلية الأمريكية هم أهل الولايات الشمالية- المترجمة
المترجمة كاتبة أردنية
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات