انتزعني أبى من دفء الفراش، وقال في لهجة حازمة:
- غير ملابسك، واذهب مع جدك هاشم.. الدور عليك اليوم
فركت عيني وتحسست الأشياء من حولي، كأنني في حلم لم أصحو منه بعد وقلت:
- هل الفجر وجب؟
لم أسمع ردا، ولكنني بعد قليل سمعت صوت أبى في حظيرة المواشي وهو يقول لأمي، التى تطلب منه أن يتركني أنام، لأنني ما زلت صغيرا، والجو شديد البرودة
- حسام لم يعد صغيرا.. لا أستطيع أن أخالف كلام أبى
عند ذلك عرفت أنه لابد من القيام، كما أن الجد لن يدعني أنام هانئا، سيأتي بنفسه ويحملني حملا إلى الخارج القاعة الدافئة، ارتديت بالطو قديم فوق ملابسي، وشربت بعض الماء قبل أن أخرج من المنزل عملا بنصيحة أمي، كنت أعرف أن جدي هاشم ينتظرني أمام الباب الخلفي المفتوح على سكة المعاهدة، استطعت بالكاد أن أراه عبر الظلام الدامس، كان متكوما على نفسه مثل خيمة صغيرة بجوار الحائط، وبجواره شبكة الصيد وعصا طويلة، بدت في يده كعمود لهذه الخيمة المتكومة، اقتربت منه وأنا أظن أنه لم يرني أو يشعر بي في هذه الظلمة الحالكة، لمست كتفه في رفق وقلت:
- صباح الخير يا جدي
رد في ثبات:
- صباح النور يا حسام.. هل أحضرت معك الشوال؟
قلت:
- نعم
ثم سرت خلفه على سكة المعاهدة المرصوفة بالأسفلت، وبعد قليل عطفنا على ترعة المهندس، فسرنا على طريق ترابي ضيق نتجنب الانزلاق في الحفر الصغيرة وروث البهائم الأخضر، وبعد جهد وصلنا إلى المصرف الجديد، عند ماكينة المياه الميرى، قال جدي:
- اجلس هنا.. ولاتنس تخرج الخبز من الشوال
جلست في حمى جدار الماكينة، ثم أخرجت الخبز من الشوال ولففته جيدا في المنديل، و وضعته بالقرب منى، بينما ذهب جدي إلى الشاطئ، يتفقد المكان المناسب الذي يصلح لوضع الشبكة.

غاب جدي فأخذت أردد ما أحفظه من القرآن الكريم، كلما رأيت خيال أو ظل شئ من بعيد أظنه جنى أو عفريت، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وأعيد من جديد ما قرأته من القرآن، أحاول النوم فلا أستطيع، يخيل لي أن ألسنة من اللهب تتراقص أمامي، ومن وسطها تخرج جنيات تريد أن تلهمني، بعد مدة أظنها دهرا يأتي جدي على مهل، ويلقى بكومة من أعواد الحطب اليابس وبعض الهشيم الناعم بجواري على الأرض، فأفزع، ولكن أشعر بعدها أنني استرددت روحي، فيذهب خوفي، وعند هذه اللحظة، تكون قد انتهت نصف مهمتي، يهزنى جدي بيديه، ويقول:
- هل نمت؟
فأرد عليه بقوة لأثبت له أنني لم أكن نائما أو خائفا:
- لا.. أنا صاحى يا جد
لا يعلق جدي ويبدأ في رص الحطب فيأخذ شكل هرم صغير، ثم يشعل النار في لفة صغيرة من الهشيم الناعم ويدخله أسفل هذا الهرم، فيبدأ الدخان في الصعود رويدا رويدا، وعندما تزداد كثافة الدخان وتنتشر بقوة، ينفخ جدي بفيه فىالهشيم، فتشتعل النار، ويشتعل وجهه فيبدو مثل ألسنة اللهب التى تخرج مختلطة بالدخان الذي بدأ في الاختفاء.
اقترب بيدي من النار ويحمر من وهجها وجهي، ويكون في ذلك الوقت ضوء النار قد بدأ في كشف مظاهر الكون، فتتحول الأشباح المخيفة والجنيات الرهيبة والعفاريت المتمردة إلى أكوام من السباخ وأعمدة تليفون وأشجار صغيرة نحيفة عارية من الأوراق، في تلك اللحظة التى أشعر فيها بالأمان التام، يتركني جدي من جديد، ليطمئن على وضع الشبكة، ثم يعود بعد قليل وقد أحضر معه عدة سمكات صغيرة، اصطادها بيديه من جيوب صغيرة تكون في باطن جسر المصرف، إنه يعرف كيف يصطاد هذه الأسماك ومتى يصطادها؟ يلقى جدي بالأسماك فوق النار فتأخذ في التقافز فوقها حتى تستقر ساكنة تماما، وعندما يعبق الجو برائحة السمك الطازج، يطلب منى جدي الملح، فأقدمه له، فينثره فوق الأسماك التى يكون قد تفسخ جلدها، يأخذ جدي بين أصابعه قطعة من السمك الأبيض، يتذوقها، ثم يقدم لي بقيتها قائلا:
- ذق يا حسام
آخذ منه القطعة التى تكون ساخنة جدا، تلسع حرارتها فمي فلا أعرف بالضبط إذا ما كان قد نضج السمك أم لا؟ لكن رائحة السمك الشهية وشدة البرد وجوعي كل هذا كان يجعلني أقبل فى نهم على الطعام.
مع فراغنا من تناول هذه الوجبة الشهية، تكون الدنيا قد تكشفت تماما، والشمس صارت كتلة لهب دائرية في الركن الشرقي من الكون، بينما النار أمامنا قد أخذت في الخمود، و يجهز عليها جدي بعد وضع فوقها التراب، ثم يقول وهو يدوس بقدمه على التراب:
- هات الشوال واتبعني
أسير خلف جدي على الشاطئ حتى نصل إلى موضع الشبكة فيطلب منى أن أنتظره على الجسر ولا أتحرك بعيدا، ثم ينزل إلى الماء، بعد أن يكون قد خلع جلبابه، فلا يبقى فوق جسده سوى قميص أبيض قصير يكاد يستر عورته، يجذب جدي الشبكة وحده، ولكن عندما تكون الشبكة ثقيلة فيعنى ذلك أن الصيد وفير، عند ذلك أسمع صوت جدي وكأنه قادم من بعيد جدا:
- ولد يا حسام.. انزل يا ولد
يقولها جدي بفرح حقيقي، فأنزل معه، ونبدأ في جذب الشبكة من الماء
- هيلا.. هوب.. يا معين
أردد نفس الكلمات مع جدي، وأخيرا يسحب جدي الشبكة جامعا أطرافها في يده، ثم يحملها برفق إلى أعلى الجسر أما أنا فأسند بيدي معه هذا الحمل الثقيل، أو أدفع بيدي الأسماك التى تريد الإنفلات من عيون الشبكة الواسعة.
عندما نصل إلى الشاطئ يحمل جدي الشبكة ويفردها بعيدا عن أعين الناس الذين يكونون قد بدءوا في الانتشار فوق الطريق الرئيسي وعلى الطرق الجانبية الصغيرة، اتبع جدي خلف شجرة كبيرة أو في أرض خلاء، نفتح الشبكة في حرص، ونبدأ في إفراغ السمك في الشوال فأرى علامات الفرح على وجه جدي، فأنسى ما قاسيته من آلام هذا الصباح، وأسعد لتهليل إخوتى وفرحهم بالأسماك التى سنفرغها في الطشت الكبير بعيدا أيضا عن أعين نساء الحارة، يلم جدي الشبكة ويجعلني أحملها أنا هذه المرة، بينما يحمل هو شوال السمك فوق ظهره في نشاط عجيب فأشفق عليه، وأنا أقول:
- أحمل عنك يا جد
يبتسم جدي وهو يضع يده الخالية على كتفي، ويقول وكأنه لم يستمع لسؤالي:
- أوعى تكون نسيت المنديل
أؤكد لجدي أنني لم أنساه، فيطلب منى أن أضعه فوق رأسي ليقيني حرارة الشمس التى بدأت في الارتفاع، فأفعل وأنا أتقافز أمام جدي كسمكة طازجة متعجلا الوصول إلى المنزل.