ليس ثمة فوارق صارمة بين ماهو واقعي وغير واقعي، ولا بين ماهو صادق وماهو زائف. ليس مهماً أن يكون الشيء حقيقياً أو وهمياً، لأنه يمكن أن يكون الأثنين معاً.. هارولد بنتر


مسرحية في مشهد واحد
بقلم هارولد بنتر
ترجمة وتعليق: علي كامل

الشخصيات: رجل وإمرأة في عقدهما الرابع.
المكان: باحة منزل، حيث يجلس الرجل والمرأة يحتسيان القهوة.
الوقت: مساء.


الرجل: إنني أتحدث عن تلك الأمسية، بالقرب من النهر.
المرأة: أيّ أمسية؟
الرجل: أمسيتنا الأولى، لقاؤنا الأول فوق الجسر.
" وقفة "
المرأة: لاأستطيع أن أتذكرّ.
الرجل: فوق الجسر حين توقفنا، وتطلعنا إلى منحدر النهر. كان الوقت مساء.
كانت هناك مصابيح تضيء ا لرصيف حيث ترسو القوارب.
كنا وحيدين، أبصارنا متجهة إلى أعلى النهر..
وكانت ذراعي تطوّق خصرك النحيل. ألا تتذكرين؟
كنتُ أخبىء ذراعي تحت معطفك.
" وقفة "
المرأة: أكان ذلك في الشتاء؟
الرجل: طبعاً في الشتاء. حين إلتقيتك، ومشينا معاً، وتلك كانت نزهتنا الأولى.
ينبغي عليك أن تتذكري ذلك.
المرأة: أتذكرّ تلك النزهة. أتذكرّ حين تمشينا معاً.
الرجل: أمسيتنا الأولى؟ نزهتنا الأولى؟
المرأة: بالطبع، أتذكرّ ذلك.
" وقفة "
إنحدرنا إلى الطريق ودخلنا الحقل عبر السور الحديدي. سرنا بإتجاه طرف الحقل، وجلسنا بالقرب من السور الحديدي.
الرجل: كلا. كنا نقف فوق الجسر.
" وقفة "
المرأة: لاأذكر. ربما كنتَ مع فتاة أخرى.
الرجل: هراء.
المرأة: نعم. كانت فتاة أخرى.
الرجل: كان ذلك منذ زمن طويل. لقد نسيتِ.
" وقفة "
أتذكرّ الضوء المنعكس على المياه.
المرأة: لقد أخذت وجهي بين يديك , حين وقفنا قرب السور الحديدي. كنتَ حذراً ورقيقاً. كنت قلقاً.
كانت عيناك تتفحصان وجهي. تساءلتُ حينها: ترى من أنت. بم تفكر. ماذا كنت تريد أن تفعل.
الرجل: وهل نسيت لقاءنا في ذلك الحفل؟
المرأة: أي حفل؟
الرجل: ماذا؟
المرأة: ظننت أنني سمعت طفلاً يبكي.
الرجل: لم أسمع صوتاً.
المرأة: ظننته طفلاً يبكي، وقد أفاق تواً.
الرجل: ليس ثمة أحد سوانا.
" وقفة ".. " يتثاءب ويتطلع إلى ساعته "
أوه، لقد تأخر الوقت، ونحن مازلنا جالسين. آن أوان النوم. ينبغي أن أصحو مبكراً. لديّ أشياء كثيرة عليّ إنجازها في الغد. لماذا تجادلين؟
المرأة: إنني لم أجادلك. أنا أيضاً لدي الرغبة في النوم. عليّ أن أصحو في الصباح مبكراً. لديّ أشياء كثيرة عليّ إنجازها في الغد.
" وقفة"
الرجل: أتذكرين ذلك الرجل الذي أقام ذلك الحفل. كان إسمه: داوتي. كنتِ تعرفينه. لقد تعرفتُ عليه أنا أيضاً، كنتُ أعرف زوجته. هناك إلتقيتكِ. كنت تقفين قرب النافذة. إبتسمت لك. ولشدة إعجابي، بادلتِني نفس الأبتسامة. كنتِ معجبة بي. وكنت أنا مندهشاً. كنتُ فاتناً وجذاباً. قلتِ لي ذلك فيما بعد. كنتِ معجبة بعينيّ.
المرأة: أنت الذي كنت معجباً بعينيّ.
"وقفة "
لقد لامستَ يدّي. سألتني حينها من أنا، وهل كنتُ أحس أنك تلامس يدي , وكانت أصابعك تلامس أصابعي، وهي تتموج صعوداً ونزولاً بين أصابعي.
الرجل: كلا. كنا نقف على الجسر. كنت أقف وراءك. كنت أضع يدي تحت معطفك، حول خصرك. وكنتِ تحسيّن يديّ وهي تطّوق جسدك.
"وقفة "
المرأة: كنّا في الحفل، في منزل داوتي وزوجته. كنتَ تعرف زوجته. كانت تتطلع إليك بشوق، كما لو أنك قريباً إلى قلبها. كانت تبدو مغرمة بك. أما أنا فلا. لم أكن قد تعرفت عليك بعد. كان لديهما منزل جميل قرب النهر. ذهبتُ لأرتداء معطفي، وتركتك في إنتظاري. كنت عرضت عليّ أن تصطحبني. أظن أنك كنت لطيف جداً، دمث جداً، وتتصرف بظرافة وحذر.
إرتديتُ معطفي على عجل، وتطلعت نحو النافذة، وأنا أعرف أنك كنت تنتظرني.
تطلعت عبر النافذة نحو الحديقة، ثم إلى النهر، وكان ضوء المصابيح منعكساً فوق المياه.
بعدها إلتحقت بك، وسرنا في الطريق، وعبر السور الحديدي دخلنا الحقل، وكانت ثمة باحة لوقوف العربات. وعثرنا في وقت متأخر على عربتك، وإنطلقنا معاً.
" وقفة "
الرجل: لمستُ نهديك.
المرأة: أين؟
الرجل: فوق الجسر. تحسستهما.
المرأة: حقاً؟
الرجل: وكنت ملتصقاً بك من الخلف..
المرأة: تساءلتُ حينها إذا ماكنت تريد أن..
الرجل: نعم.
المرأة: لقد أدهشتني جرأتك.. أظن أنك كنت تريد..
الرجل: لقد أدخلت يديّ تحت قميصك، وفككت الحّمالة، فتحسست ثدييك.
المرأة: ربما كان ذلك في مساء آخر، مع إمرأة أخرى.
الرجل: ألا تذكرين لمسات أصابعي فوق جسدك؟
المرأة: هل كان نهديّ بين يديك؟ بين يديك !؟
الرجل: ولمسات أصابعي فوق جسدك، ألا تتذكريها؟
" وقفة "
المرأة: وتقف ورائي؟
الرجل: نعم.
المرأة: لكني كنت أتكىء على السور الحديدي. وكنت أحس قضبان السور وهي تلامس ظهري.
كنت تتطلع في وجهي وأنا أتطلعّ في عينيك. لقد كان الوقت متأخراً، والجو بارداً.
الرجل: فككت أزرار معطفك.
المرأة: معطفي كان مغلقاً لأن الجو كان بارداً.
الرجل: وبعدها غادرنا الجسر، وسلكنا الطريق المحاذي للنهر، هناك حيث ترسو القوارب، ووصلنا حتى مستودع القمامة.
المرأة: وضممتني إلى صدرك، وهمست لي أنك مغرم بي. قلت لي أن صوتي، عيناي، ساقاي، نهداي، لاشبيه لهم أبداً. وقلت لي أنك ستعبدني إلى الأبد.
الرجل: نعم، قلت ذلك.
المرأة: وأنك ستعبدني إلى الأبد.
الرجل: نعم , سأعبدك إلى الأبد.
المرأة: وبعدها أصبح لدينا أطفال، وصرنا نجلس نتحدث، أنت تتذكر نساءك فوق الجسور وعند أرصفة رسو القوارب وقرب أوعية القمامة.
الرجل: وأنتِ تتذكرين عجيزتك المتكئة على السور الحديدي، البعض يمسك بذراعيك، وآخرون يتطلعون في عينيك.
المرأة: ويتحدثون معي برقة.
الرجل: وكان صوتك الدافىء يدخل إلى قلوبهم بيسر.
المرأة: وكانوا جميعاً يقولون لي: سنعبدك إلى الأبد.
الرجل: وأنا مازلت أقول لك نفس الشيء.
أنني ساعبدك إلى الأبد.

( النهاية )


تعليق:

إن أوضح تعريف بكاتب ملغز مثل هارولد بنتر (1930)، نعثر عليه في كلمات ديفيد هير، حيثكتب مرة يقول: "لقد فعل بنتر ماقاله أودن ما على الشاعر أن يفعله. لقد نظّف قنوات اللغة الأنكليزية من شوائبها، فأصبحت مفرداتها تجري برشاقة وسلاسة.." كتب بنتر أربع مسرحيات ـ تراجيكوميدية ـ تجريبية خلال عام واحد (1969)، إعتمدت الذاكرة بؤرة لتجمّع ضوء الفكرة، والصمت لغة وإيقاعاً ودلالة، أما زمنها، فهو زمن دائري يحمل سمات زئبقية، حيث يفتح فيه الحاضر الباب ليدخل الماضي برشاقة كي يحل مكانه، وبالعكس. ثيمات يتبادل فيها، الحقيقي، الزائف، الواقعي، الوهمي، المواقع بالتناوب، بما يشبه اللعبة أو المخادعة، ويحل الشعر المنثور ضيفاً مطواعاً في تعاريج الحديث العادي اليومي، والموسيقى نسغاً ينظم ويوجه مسارات الأحاديث. إنها ثيمات بيكيتية، تتحدث بسخرية مبطنة، عن كنه العلاقة الذكورية والأنثوية. علاقة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، العشيق والعشيقة. أفكار مشوشة مختصرة لعواطف متوترة، جوهرها الجنس والحب الشهواني، الغيرة، الخيانة، الضجر والرتابة، العزلة، والكآبة، في تخوم سنوات اليأس، لعلاقات وزيجات أصبحت ذكراها نائية جداً. هذه المسرحيات هي على التوالي:
Night -1
Landscape-2
Silence -3
Old Times -4

أمسية، هي القطعة الأقصر حجماً بين هذه القطع الأربعة، وهي تصلح للقراءة والاستماع أكثر منه تجسيداً على خشبة المسرح. إنها تخلو تماماً من الحركات الجسدية على الخشبة، حيث الشخصيتان الرئيسيتان، الزوج والزوجة، يستهلان المسرحية ويختتمانها وهما جالسان.
تختلف هذه المسرحية عن الثلاثة الباقية، في أنها كوميدية على وجه العموم، وتتضمن قصة تقليدية مألوفة. وهي على خلاف جلّ مسرحيات بنتر الأخرى، في أنها تختتم بنهاية احتفالية مبهجة.
الزوجان اللذان هما في الأربعينات من العمر، لديهما ذكريات متعارضة بشأن لقائهما الأول. ففيما تظن الزوجة أنهما كانا يجلسان بالقرب من السور الحديدي للحقل، يقول الزوج أنهما كانا يقفان فوق الجسر. لكنهما يتفقان كيف إلتقيا، وكيف أن أحدهما كان يحبّ الآخر. على الرغم من أنه يتذكر أنه كان يقف خلفها، ممسكاً بنهديها، إلا أنها تصّر بإرباك: " لكنّ قضبان السور الحديدي كانت تلامس ظهري، وكنتَ وقتها تتطلع في وجهي. ".
تفاصيل كهذه ليست مهمة، لكنها تكشف عن عذوبة لحظات مزهرة متوهجة ذهبت، فجاءت المخيلة تستعيدها كعملية تعويض لحاضر مقفر مجدب حزين.
إنهما يتفقان أنه كان قد حاز عليها، وقال أنه أحبها وكان يعبدها دائماً. وإتفقا أيضاً أنه مازال يعبدها.
إن صفات مثل " رقيق، لطيف " من الصعب العثور عليها دائماً في مسرحيات بنتر، إلا أنهما معاً تتناغمان وتلك الأمسية البهيجة، حيث الماضي يجلب الحنين، لا الفزع والرهبة. شجارهما ليس حقوداً أو مؤذياً، بل ممتعاً ومّسلياً، لكن، مع ذلك، ورغم كل تلك الذكريات العاطفية الحميمة، ورغم كل الحب الذي إستأنف الرحلة معهما حتى الآن، إلا أن ثمة تعارض خفي يعلن عن نفسه بين حين وآخر، وهو تعارض غير قابل للتوافق أو التغيير، يكشف عن شرخ تراجيدي عميق في جوهر تلك العلاقة. هذا الصدع الذي يبدو طفيفاّ من الخارج، يمكنه أن يحفر هاوية تتسع من حين لآخر. لكنهما، مع ذلك، يتعايشان معه بسكينة وسلام .
إن كلمات مثل " أتذكرّ، أو، لا أستطيع أن أتذكرّ " نعثر عليها في محطات الحديث، كما لو أنها نوع من تحفيز أو تنشيط للذاكرة المخرّبة كي تعيد إنتاج ذلك الماضي، لكن، على ضوء اللحظة الراهنة.
أخيراً، يمكننا القول أن بنتر إستطاع أن يقتحم تلك الأمسية برقّة شفيفة حقاً. يبلغ بنتر الآن الخامسة والسبعين من عمره، لكنه يظل أكثر الكتاب الأحياء نبضاً ومعاصرة. إنه، بشهادة الجميع، آخر المجددين وآخر الكلاسيكيين. وفي مسرحيته " أمسية " يصبح آخر الرومانتيكيين.

[email protected]