أصر على البقاء، وتصر على الرحيل . إنها غيمة مرت ذات يوم على الرياض، فجعلت هذه الحبيبة، الأثيرة، الفائقة البهاء، تتلفع بكل ما هو أخضر، وتتعطر بريحة الندى، وتمتد على ذراعي، وتنام!
هي الرياض، مدينتي المتلحفة بالعاشقين، وعشيقتي حتى الجنون، وصاحبتي إلى ما لا نهاية، وقضيتي التي لا أريد لها أن تنتهي .
إنها الرياض .. هل جرب أحدكم عشق الرياض، حب الرياض، سحر الرياض ؟.. أما أنا فهي حبي الأول والأخير.
علاقة عشقٍ قديمة، بدأت منذ أن امتدت يدا أمي إلى تربتها كي تُعفرني بها رضيعاً، واستمرت وأنا أتجول في صحاريها كطيرٍ مد جناحيه، وترك رياحها توجهه كيفما اتفق! .
أذهبُ إلى (المصمك)، فأكاد المحُ عبدالعزيز، والأربعين، يُعانقون الرياض فتعانقهم، يقبلونها فتقبلهم، يرفعونها فترفعهم، تسألهم عن سفرهم: (عسى ما تعبتوا)، وتعاتبهم على الفراق الطويل : (أبطيتوا ؟) ، ويتقدمُ عبدالعزيز، فتضمه إلى أحضانها، ثم تقول: (ما غاب من جا يا ولدي!).
أذهبُ إلى (دخنه)، فأجدُ والدي، يحثُ الخطى إلى مسجد (عمي محمد)، وقد التفّ في مشلحه، ووراءه أخي عبدالله، والليل قارص البرودة، وقطرات من ماء تُبلل أكمامه بعد الوضوء .. أخشى عليه فالفجر بارد .. ينظر إلى ساعته تارة، وينظر إلى الطريق أخرى، و(ابن مفيريج) المؤذن يرفع صوته بأذان الفجر، وهو يُردد وراءه كل عبارة يقولها، بمنتهى الخشوع، بمنتهى الإيمان، بمنتهى الطمأنينة ! .
إنها الساعة الثامنة صباحاً، أتقدمُ إلى الصفاة من دخنه، ها هو الأمير سلمان، تقف سيارته أمام قصر الحكم، وجمع من الناس في انتظاره، يدخل فيدخلون وراءه، يعرفهم واحداً واحداً، في وجوههم ترتسمُ علامات الحب والولاء، وفي قلوبهم يختلط سلمان بالرياض، وتختلط الرياض بسلمان، فتصبحُ كأنها هو، ويصبح كأنهُ هي ، لافرق ! .
أتجه غرباً إلى وادي حنيفة. فأسمع (بدر بن عبدالمحسن) وهو يشيل :
في دربكم يا راحــــــــلين مناكيف
تالي ليــــالي القـيظ وآخر خـريفه
ردوا سلام أهل القلـوب المـواليف
على الوليف اللي نشد عن وليفه
ردوه لعــــذوق النخيل المـــهانيف
وعلى القصور اللي بوادي حنيفـه
حنا ورثنا العز عظم وغضـــــــاريف
لا ما ورثنا العز تـــــاج وقطيفـــه !
كفو !! ..
أعودُ إلى (العليا)، فأجدها (عرضةً) من لحنٍ باذخ، وبذخاَ من عطر صارخ، ونهاراً تملأ لحظاته كل معاني الشموخ . أتجول في شوارعها، في حاراتها، أقف أمام(المملكة)، ثم أتقدمُ قليلاً إلى (الفيصلية)، أدخلُ إلى حواريها، فأكاد اشعر أن كل زاوية فيها تعرفني، وان كل بيوتها تلوح لي، وكل زواياها تناديني، ثم اكتشف أنني أتجول في قلبي!..
هل جربَ أحدكم لذة التجوال في قلبه؟..