أوتو شيلي، وزير الداخلية الألماني، وبعد ساعات قليلة من المظاهرة التي قامت بها الجالية التركية في مدينة كولن الألمانية تحت شعار"معاً ضد الإرهاب" صرحّ لصحيفة(دي فلت) الألمانية المحافظة "إن على المهاجرين الأتراك أن يندمجوا بشكل كامل في المجتمع الألماني، وأن يكفوا عن التكتل والإنزواء وتأسيس مجتمع أقلوي متواز داخل الحياة الألمانية".

شيلي(المٌتدرج بين أحزاب الخضر والإشتراكي الديمقرطي، وأخيراً إطلاقه في الآونة الأخيرة مواقف وقناعات تقترب شيئاً فشيئ من تفاسيرورؤى المسيحيين الديمقراطيين) أوضحّ في حديثه "إن الأجانب والأتراك بشكل خاص، إذما رغبوا في البقاء في هذا البلد والتمتع بالجنسية الألمانية، فعليهم الإندماج بشكل تام في المجتمع الألماني".
والحال، إن المجتمع الألماني الذي صٌعق لمقتل المخرج الهولندي ثيو فان كوخ على يد أحد الأصوليين بات في نقاش يومي حام حول موضوع الهجرة والأجانب وكيفية التعامل مع الأعداد الهائلة من المهاجرين المتعددي الثقافات المنتشرين في مدن وقرى البلاد. وثمة مناقشة جادة بين الحزبيّن الداخلين في الإئتلاف الحكومي(الإشتراكي الإجتماعي والخضر) والمعارضة المسيحية فيما يتعلق بكيفية التعامل المستقبلي مع المهاجرين وآلية إدماجهم في المجتمع الألماني بعد الفشل الذريع لعمليات "الدمج" السابقة . والحال، إن هناك الآن وجهتي نظر لآلية دمج المهاجرين(المسلمين منهم بشكل خاص...) في المجتمع الألماني :

الأول: تقوده الحكومة، ويتمحّور حول قبول (وتحويل...) ألمانيا إلى مجتمع مٌتعدد الثقافات ومتعدد الأديان . وأصحاب هذا الطرح يقولون ب"التثاقف الحضاري" وقبول "الإختلاف الحضاري"، بل وحتى تعميق خطوط الإختلاف وتشذيبها عبر التركيزعلى تشجيع بروزالخصوصيات الإثنية والدينية والترحيب بها. وحجتهم في ذلك، أن المجتمع المتعدد الثقافات يٌشكل "مانعاً" و"صمام أمان" في مواجهة التذويب والتصادم وأخيراً منع وقوع "صراع الحضارات"..!! وهو طرح ساذج يستند إلى العاطفة والتمني أكثر من إستناده على العلم والدراسة. فأصحاب هذا الطرح يٌغطون على المشاكل الحالية، مثلما غطوا على سابقاتها، تلك المشاكل التي ستتفاقم حتماً إذما إستمرّ هذا الطرف في خلق تفاسير مغلوطة ومخادعة والبناء عليها لإستيعاب المهاجرين وإدماجهم في الحياة الألمانية. تلك "التفاسير" التي أثبتت حتى الآن، مع دخول الجيل الثالث والرابع من المهاجرين في دائرة المواطنة والإنتاج، فشلها الكامل.

وليسّ طلب أحد قادة حزب الخضر بتحويل يوم عيد الفطر لدى المسلمين إلى عطلة رسمية في كل الدوائرالإتحادية لجمهورية ألمانيا، وبعدّ أيام قليلة على نحرالمخرج الهولندي فان كوخ على يد أحد الإرهابيين المولودين في هولندا والحاملين لجنسيتها(من أبناء أولئك الذين قبلوا كجزء من المجتمع الهولندي "لإثراءه حضارياً" ولم يستطيعوا إستيعاب، بل وحتى إحترام، الثقافة الهولندية وحق المواطنين في الإختلاف وحرية القول)، ألا يدل هذا الطلب الغريب ( بقدر سذاجته) من حيث التوقيت، على عدم وجود أي أجندة أو حلول حقيقية وعلمّية لدى حزب الخضر، أللهم سوى إبداء المزيد من الرضوخ أكثر وأكثر لنزعة إستطياب الأجانب للعزلة والإنزواء بكسل داخل كانتونات مٌجتمعية مغلقة في البلاد؟.

ثمّ، ألا يذكرنا هذا الإجراء بحادثة 11 آذار 2004 الإسبانية، حينّما فجرت كتائب القاعدة الإرهابية المدنيين في قطارات مدريد عشية الإنتخابات العامة إنتقاماً من الحكومة الإسبانية التي شاركت الولايات المتحدة وبريطانية الحرب العالمية على الإرهاب أثناء تدميرهما نظام صدام حسين وتحرير الشعب العراقي، فرضخت إسبانيا الشعبية للتهديد والإرهاب أسقطت حكومتها مبدلة إياها بأخرى سحبت القوات الإسبانبة من العراق(من ساحة نزال الإرهابيين) وإنزوت تتفرج بجبن على "فعايل" الإرهاب في العراق والشرق الأوسط وأوروبا كذلك..!.

الثاني: وتقوده المعارضة المسيحية الديمقراطية، حيث تقول بضرورة إنهاء عزلة "المجتمعات المسلمة" وضرورة إشراكها في الحياة الألمانية وإدماجها بشكل كامل و ملموس في الحياة العامة وإنهاء سيطرة المنظمات الراديكالية المتطرفة والمتحكمة بالجوامع ومراكز تعليم القرآن، حيث تربية و تلقين آلاف التلاميذ المسلمين على أيدي وعاظ وأئمة متعصبين متخلفين وجهلة بواقع البلدان الأوروبية التي إستقبلت كل هذه الجموع من المسلمين شرط أن يعيشوا بسلام ويحترموا قوانينها وخصوصية أهلها. فبناء مٌجتمعات مغلقة ومنغقلة متوازية، أمر مرفوض في أجندة الحزب المسيحي الديمقراطي، وأناس لاجئين جلهم من الأرياف والمناطق المتخلفة من العالم الثالث ليس بمقدورهم الإندماج داخل المجتمعات الأوروبية مثلما ترغب الحكومات الأوروبية أن يتم ذلك وفق وصفاتها الرومانسية، بل حتى إسطوانة "التثاقف والتلاقح الحضاري" أصبحت ساذجة سيما إذ عرفنا جهل وأمية أغلب المٌهاجرين( بل وحتى فشل أبنائهم دراسياً وإرتفاع نسبة التسرب من المدارس والعاطلين عن العمل إذما قورنوا بأقرانهم الأوروبيين). فمنظمة مثل منظمة (مللي غورنوسي) التركية تتحكم بسلسلة طويلة من الجوامع والمراكز الدينية الإسلامية في ألمانيا، وتبث عبر مطبوعاتها الشهرية خطاباً إنزوائياً عنفياً و"جهادياً" يبث جرعات هائلة من الكره والنفور إزاء الألمان والغربيين بشكل عام، وليسّ كشفاً عظيماً عندما نعلم بنجاح مراسل للتلفزيون الألماني(زد أف) في التسلل إلى داخل حرم جامع منطقة (نوي كولون) البرلينية(ذات الأغلبية التركية)، وتصويره الخطبة "الوعظية والإيمانية" التي ألقاها أحد الأئمة الأتراك في يوم الجمعة أمام حشد من المصلين، والتي أشارّ فيها إلى " نجاسة المواطن الألماني ورائحته القذرة " وإنهم ـ أي الألمان ـ لن يدخلوا الجنة ل"كفرهم وأكلهم لحم الخنزير"!.

المنظمات الإصولية الإسلامية تغلغلت في الداخل الأوروبي وإستطاعت بنجاح فائق بث خطابها المسموم في عقول المسلمين والتركيزعلى النص الديني الجامد من عيار ذلك الذي يٌكفر و"يٌخنزر" الآخر ويجعل من بلاده "دار حرب" تصبح فيها أمور مثل السرقة والتخريب وشفط القروض البنكية والهرب بها أموراً عادية لاتبعث على الخجل أو العار، فضلاً عن إستحقاق غضب الله الذي يغضب عندما يخون عبده الأمانة ويستحل أموال الآخرين. لكن، ماالعمل والتربية البيتية والدينية/المسجدية قائمة على عقلية الغنيمة والسبي ونهب أموال الكفار(وهم النصارى هنا في فكر المتخمين بفتاوي الكره والإستعلاء الديني) أنى ومتى ماملكت يمين المٌهاجرين؟!.

أوروبا أمام مفترق طريق كبير ومصيري، وهي التي فشلت في إنتدابها الكولونيالي في إصلاح الشرق وصناعة تقدمه وتحرره من خرافة (قنديل أم هاشم) المعروفة. فشلت أوروبا حتى حينما تنكرّ نابليون( مخادعاً أو مخدوعاً) في زي الواعظ والمتدين المسلم وسمى نفسه بالحاج محمد( مثلما يٌحاول بعض "الخضريين" فعله الآن). رفضه "مٌجاهدوا الأزهر" الذين خرجوا من الجوامع والتكايا، وتصدروا ميدان "الجهاد" في إستعادة مٌكررة ومملة لصورة "المجاهد المقاوم" أيام السلف الصالح ومقاومي الجهاد الأول.
فماذا كانت النتيجة؟. لقد كفرّوا الناس بعدها وأدت تعاليمهم إلى تأسيس منظمات دينية إرهابية مثل الإخوان المسلمين المصرية، حيث كانت السبب المباشر في قتل الآلاف من الناس بينهم رئيس البلاد المصرية نفسه، ومن ثم صدروا هذا الفكرالكارثي الدموي إلى بقاع أخرى من العالم ومنها أوروبا وأميركا مصدر وسبب حضارة ورقي الإنسان المعاصر. ومن ثم ولدت طالبان والقاعدة وأبو سيّاف والشيشان وجماعات الجهاد العنفية المتسرطنة هناك وهناك.

في كل شارع وبيت من هذا العالم، ثمّة مئات الخلاية النائمة، الجاهزة والمتحفزّة للتخريب والتقتيل وإلحاق الآذى بالآمنين...

الزّعيم الإسلامي التركي "المٌعّتدل" نجم الدين أربكان(خريج الجامعات الألمانية : أي نموذج "الآخر المتلاقح حضارياً"، بلغة حزب الخضرالإعتباطية الساذجة) قالّ في حديثه لأحد الصحافيين الألمان:"إنكم واهمون عندما تظنون إننا نحن الأتراك المسلمون قادمون فقط للعمل ولملمة فتات أموالكم، كلا، نحن قادمون للسيطرة على بلادكم والتجذر فيها ومن ثمّ بناء مانراه مناسباً. وكل ذلك برضاكم وحسب قوانينكم" ( الحروب في شوارع مدننا : كيف يريد الإسلاميون المتطرفون السيطرة على مدننا، أوليفه كوينه) .
ثمّة أجندة أخرى تلوح في أفق هذه المسألة الشائكة، فسياسات الإندماج القديمة ودس الرؤوس في الرمال فشلت. وهناك الآن نتائج/حوادث خطيرة تجري على أرض الواقع مٌهددة بتعكير حياة الأوروبيين وتحويل بلادهم إلى نسخ مصغرة من الشرق الأوسط . أوالعودة بهم قروناً طويلة إلى الوراء، أي قبل عصر النهضة،عندما كانت الحروب الدينية والمذهبية تفتك بهم وتحصد أرواح شبابهم.

هل ثمة من حل إذاً؟.

هل من إمكانية للعيش المشترك بين مجموعتين، تربت أحداهما( تلك الضيفة) على رفض الآخر وتحقير دينه وحضارته ووجوده لمجرد الإختلاف معه فقط، وتبعاً لوصايا نصوص غابرة تبحث صراعاً جرى في صحراء قاصية ومنذ 1400 سنة و قد يكون هذا "المؤمن" لم يقرأ تلك النصوص أصلاً؟.

ثمّة حاجة كونية وحضارية، والحال هذه،لإعادة تأسيس العلاقة في كليتها من جديد، ومناقشة روح ( وجدوى..) النص الديني و دراسة ومراقبة كامل آلية وطريقة تجرعه لهؤلاء الناس، ليتحولوا بعد تلك الجرعات إلى كائنات مريضة ومخبولة تتلذذ بقتل وتمزيق الآخر...

صحافي كردي مقيم في ألمانيا
[email protected]