-1-

مَنْ منّا يعتقد أن للشيخ القرضاوي رأياً واحداً في المسألة الدينية الواحدة، بغضَّ النظر عن مكان المنبر الذي يفتي عليه القرضاوي فتواه الدينية، فهو مخطيء. وعلينا اعتبار أن هناك قرضاويين لا قرضاوي واحداً. وهناك رأيان له في كل مسألة دينية، لا رأي واحد، وذلك تبعاً للظروف والمتغيرات والمتطلبات، علماً بأن الدين ثابت، وأحكامة ثابتة لا تتغير.

فللشيخ القرضاوي في كل مسألة دينية رأيان: رأي يقوله للمسلمين في الشرق، ورأي يقوله للمسلمين في الغرب!

ففي المسألة الديمقراطية مثلاً، يؤمن القرضاوي في قرارة نفسه كما يؤمن كثير من السلفيين الدينيين، بأن روح الديمقراطية ولبابها هو العلمانية التي ظهرت كردة فعل للثيوقراطية في أساسها. وأن لبَّ الديمقراطية هي الليبرالية ذات الحرية السياسية والفكرية والشخصية والمُلْكية. وهذه هي أركان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ نصف قرن.

والشيخ القرضاوي - وهو الفقيه المُحلِّق - يعلم دون شك مدى" الكفر والشرك" في ذلك الإعلان - من الوجهة الدينية - حيث نصَّ الاعلان في كثير من مواده على المساواة المطلقة بين العباد، بغض النظر عن الجنس والدين، وهذا مخالف للقرآن الذي يقول: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)، ويقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)، ويقول كذلك: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. الخ.

ومن هنا، فإن كلام القرضاوي عن الديمقراطية الإسلاموية كلام غامض وملتبس وغير مفهوم. وهو كلام للاستهلاك السياسي المرحلي ليس إلا، كما أوضح خالد أبو الفضل استاذ القانون في جامعة ييل الأمريكية في كتابه (الإسلام السياسي وتحدي الديمقراطية Islam and the Challenge of Democracy) (جامعة برنستون، 2004).

-2-

في الغرب المسلم، يردد القرضاوي بأنه مع حرية المرأة وعملها وعلمها وخروجها من بيتها. وفي الشرق الإسلامي يردد القرضاوي الآيات والأحاديث التي تمنع اختلاط الرجال بالنساء، وخلو الرجل بالمرأة، والتي جعلت ابتعاد أحد الجنسين عن الآخر أصلاً عظيماً من أصول الشرع. ومن هذه الآيات: ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب )، و( وقرنَّ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )، و ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ). ومن الأحاديث : ( ألا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان )، و ( المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ). و (إياكم والدخول على النساء )، وغيرها.

-3-

والقرضاوي عندما يكون في المشرق الإسلامي يرفض القواعد الاجنبية، ويقول بوجوب مقاومة القوات الأمريكية الغازية بكل السبل المتاحة. وعندما يكون في الغرب المسلم، أو يريد الحصول على تأشيرة دخول إلى الغرب، يفتي بشرعيتها كما قال في برنامجه "الشريعة والحياة " في 16/2/2003 والذي دعا فيه إلى احترام الاتفاقات القديمة التي تمت بين الأمريكان وحكام المنطقة، والتي توجد بموجبها قواعد أمريكية في منطقة الخليج .

بل إن الشيخ القرضاوي ،زاد على ذلك في حديثه لموقع "حقائق مصرية" على الانترنت، وقال في فتواه التي لا يجرؤ أي سياسي علماني أن يقوله وهو: " بالنسبة للقواعد الأمريكية القديمة المنتشرة في منطقة الخليج فإنها قامت بطريقة شرعية ؛ لأنها جاءت بقرارات حكومات شرعية، فهذه نُبقي عليها، بينما الإنزال الجاري حالياً لا توافق عليه غالبية الدول العربية والإٍسلامية، مما يجعله غير شرعي ومرفوضاً، ولا يجوز السماح لها بالتواجد من أجل احتلال أراضي المسلمين".

ومن الواضح أن هذه الفتوى الدينية السياسية جاءت ارضاءً لقطر الذي منحته جنسيتها، والتي تستضيف أكبر القواعد الأمريكية في العالم، خارج أمريكا!

-4-

وفي الغرب الإسلامي يقول القرضاوي عن اليهود : "إن العداوة بيننا وبين اليهود من أجل الأرض فقط لا من أجل الدين. وقال القرضاوي أن قول القرآن: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) كان بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسول وليس الآن. وفي الشرق الاسلامي يدعو القرضاوي الله في خطبة الجمعة في جامع في الدوحة إلى محق اليهود وسحقهم كدين مخالف، مناجياً ربه قائلاً:

اللهم عليك باليهود.

اللهم عليك بحلفائهم من الصليبيين الكائدين الحاقدين.

اللهم خذهم، ومن ناصرهم، ووادهم أخذ عزيز مقتدر.

اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين.

اللهم أزل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عبادك المؤمنين.

اللهم يا منزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا سريع الحساب، ويا هازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم.

اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم".

-5-

ليس غريباً على الاطلاق تغيّر وتبدّل المواقف السياسية.

فالسياسة متحركة ومتقلبة دائماً. وليست هناك سياسة ثابتة بقدر ما هنالك مصالح دائمة. ولكن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الشيخ القرضاوي الذي يعتبر الآن أكبر زعيم ديني سياسي يسعى لاقامة "دولة دينية"، بينما حركة الإخوان المسلمين التي ينتمي اليها القرضاوي، وهو مرجعها الفقهي الأعلى، قد تخلّت عن مبدأ اقامة "دولة دينية". وهي تطالب الآن بإقامة "دولة مدنية". وهي دعوة جديدة من باب تغيير الجلود والعهود، وتعتبر من المتغيرات الجوهرية التي طرأت على فكر الإخوان السياسي البراجماتي الذي حوّل الإخوان الآن من حزب ديني إلى حزب سياسي في الواقع، لا علاقة له بالدين إلا الإسم فقط. وقد تجلّى هذا في التخلّي عن "الدولة الدينية" والمطالبة بقيام "دولة مدنية" التي نادى بها المصلح الديني الليبرالي الشيخ خالد محمد خالد في الخمسينات في كتابه المدويّ (من هنا نبدأ)، ورفض الإخوان دعوته، وردَّ عليه الشيخ محمد الغزالي الإخواني، باسم الإخوان في كتابه (من هنا نعلم). وهكذا تقترب جماعة الإخوان من الأحزاب الغربية المسيحية الاشتراكية والديمقراطية المدنية في أوروبا كحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني، والحزب الديمقراطي المسيحي الهولندي، والحزب الديمقراطي المسيحي بسويسرا وغيرها، التي تأخذ من الدين اسمه لا فعله، حيث لا فعل سياسياً في الدين.

وفي هذا الخصوص، فقد أصدر عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين في مصر وثيقة بعنوان "المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل" تحمل مؤشرات على تطور رؤية جديدة من داخل التيار الإسلاموي تتحدث عن" الدولة المدنية" باعتبارها بدهية، لا بديل عنها لتحقيق المواطنة الحقة.

وفي رؤية أبي الفتوح التي وزعها على هامش "مؤتمر أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربي" الذي عُقد بالقاهرة في 5/7/2004 يؤكد أبو الفتوح أن "الخطاب الإصلاحي الإسلامي بشكل عام هو خطاب بشري". وتلك حقيقة جديدة ومهمة وثورية، يعترف بها الإخوان لأول مرة منذ 1928.

إلا أن القرضاوي على ما يبدو يسير في خط مخالف لجماعة الإخوان، وهو مرجعيتهم الفقهية العليا. ولكنه يريد أن يصبح زعيماً دينياً سياسياً بصوته، لا بصوت الإخوان، بدلالة رفضه لأن يكون مرشدهم بعد رحيل الهضيبي أخيراً. وهو لا يعلم، أو يعلم ولكنه يُخفي، أن الاستراتيجية الجديدة للحركات الإسلاموية تتسم بالذرائعية وبسياسة المراحل كما قال عالم الاجتماع التونسي عبد القادر الزغال. فما زال القرضاوي يستخدم الدين في تمرير وتبرير مختلف المواقف السياسية، ويلعب ببيضة السياسة الهشة وبحجر الدين الصلب، ولكنه لا يصيب شيئاً. فليس في الدين ما يفيد السياسة الآن، كما أدركت واقتنعت مؤخراً جماعة الإخوان من خلال ما قاله أبو الفتوح. وإن كان في الدين ما يفيد السياسة فهو يفيد السياسة التي انتهجها الرسول أيام كان يسعى لاقامة دولة دينية سياسية عظمى، وقد نجح في ذلك. إلا أن مقاييس السياسة السائدة قبل خمسة عشر قرناً لم تعد سائدة الآن. بل إن الأبناء الذين يرثون الحكم والسياسة عن آبائهم الآن، لا يطبّقون سياسة الآباء، فما بالك بتطبيقات وقعت قبل أكثر من 1500 سنة؟

-6-

كنا وما زلنا ندعو رجال الدين ومنهم الشيخ القرضاوي إلى عدم اقحام الدين في السياسة، وإلى عدم العمل في السياسة الدنسة، وأخذ الدين المُطهّر، بعيداً عن دنس السياسة وأوحالها. وعدم استعمال الدين مطية لركوب المراكب السياسية كما يفعل القرضاوي الآن. وضرورة أن ندع السياسة للسياسيين وليس لرجال الدين الذين هيمنوا على الساحة السياسية العربية وهي الآن في أحط ِّ مستوياتها، وهي دعوة ليست بجديدة. ذلك أن هناك فروقاً كثيرة بين منطلقات السياسي العلماني، ومنطلقات رجل الدين السياسي منها:

1- أن السياسي العلماني ينطلق من أن كل شيء يتغير. بينما ينطلق رجل الدين السياسي من أن كل شيء ثابت ونهائي ومطلق. فالعداء ضد الآخر الذي كان سائداً – مثالاً لا حصراً – في زمن الرسول ضد فئات معينة وطوائف معينة هو الذي يجب أن يسود الآن، وفي المستقبل كذلك.

2- أن السياسي العلماني يُعلن عن نفسه صراحة بأنه برجماتي، وأنه يكذب أحياناً ويراوغ ويتلون ويغير مواقفه، في حين أن رجل الدين السياسي يدّعي الكمال والصدق المطلق والثبات، وهو في حقيقة الأمر يكذب ويراوغ كثيراً، لأنه يعمل في مجال مراوغ ومتحرك، وهو السياسة.

3- أن السياسي العلماني يبدأ سياسياً وينتهي سياسياً. أما رجل الدين السياسي فيبدأ درويشاً وينتهي مطالباً بكرسي الحكم، كما بدأ حسن البنا ذلك، وكما يسعى الإخوان المسلمون إلى ذلك الآن. فقد بدأوا هُداةً وانتهوا قُضاةً. في حين قال لهم مرشدهم حسن الهضيبي ذات مرة، وفي لحظة من الصفاء والصدق السياسي والديني: كونوا هُداةً لا قُضاةً!

4- يحكم السياسي العلماني من خلال الحاضر وتصورات المستقبل، بينما يحكم رجل الدين السياسي من خلال الماضي فقط (حالة الملالي في ايران الآن). فإذا أردنا الصلح مع اليهود وخشينا ذلك، أذكرنا بصلح الحديبية مثلاً. وإذا أردنا تولية امرأة منصباً رفيعاً في الدولة، أذكرنا بقول الرسول: (لعن الله قوماً ولّوا أمرهم امرأة) .. الخ.

5- وكما لا يمكن أسلمة العلوم التي تأتي كل يوم باكتشافات جديدة بينما علوم الدين ثابتة، كذلك لا يمكن أسلمة السياسة التي تأتي هي الأخرى في كل يوم بمفاهيم ومبادئ جديدة. وكما حاول بعض المتأسلمين في الماضي اثبات أن الدخان النووي وانشطار الذرة وغير ذلك من الحقائق العلمية قد جاء ذكرها في القرآن، فالقرضاوي اليوم يحاول أن يثبت أن الديمقراطية هي من لحم ودم الإسلام، والإسلام منها براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فكما لا يوجد اعجاز علمي في القرآن، كذلك لا يوجد اعجاز سياسي أيضاً.

6- إن الصخب الإسلاموي العالي الآن في العالم العربي من قبل رجال الدين السياسيين كالقرضاوي والترابي والغنوشي والصدر ونصر الله وغيرهم، والمصاحب لهذا الهوس الديني السائد لاسترجاع الخلافة الإسلامية التي ألغاها أتاتورك 1924 قد أساء إلى الدين والسياسة معاً، وسوف ينعكس مستقبلاً على مستقبل السياسة العربية التي يجب أن لا تقوم على المسلمات العامة المُسبقة الصُنع والتي لا نقاش فيها، ولا تبديل لكلماتها، والتي ينادي بها الدين.

7- إن السياسة كالعلم، شكل من أشكال الوعي الاجتماعي. وهي نظام معرفي تاريخي تتحقق صحتها من خلال التجربة والممارسة على أرض الواقع. وهذا ما يأخذ به السياسي العلماني. أما رجل الدين السياسي فلا يأخذ بالعلاقات السببية وضرورة اكتشافها لكي يصل إلى صياغة قوانين أساسية وعميقة. فهو يملك قوانين ونظم جاهزة مسبقاً منذ 15 قرناُ، وليست بحاجة إلى البحث والتجربة والممارسة والاكتشاف.

8- وأخيراً، هناك علاقة طردية بين رجل السياسة العلماني وبين رجل الدين السياسي. فكلما تدنى مستوى الأمم السياسي وانحطّ اختفى رجل السياسة العلماني، وحلَّ محله رجل الدين السياسي. وهذا ما كان سائداً في أوروبا في العصور الوسطى المظلمة، ولكنه اختفى مع بدء عصور التنوير، واختفى تماماً الآن من الغرب كله، والبابا لا يملك الآن إلا البركات. ورجال الدين من السياسيين، تصدروا المجالس والمنابر، وارتفعت أصواتهم في أوقات انحطاط الأمم، وانحطاط المستوى السياسي والثقافة السياسة والوعي السياسي لدى الحاكم والمحكوم من العرب الآن. وهذا ما نراه الآن في العالم العربي، حيث ترتفع أصوات رجال الدين السياسيين أعلى بكثير من رجال السياسة العلمانيين المُفتقدين الآن في العالم العربي. والذين تركوا الساعة خالية لفرسان الدين القادمين على خيولهم وجِمالهم، تحت رايات خضراء وسوداء وبيضاء وصفراء.

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و"المدى" العراقية، و"الأحداث المغربية")

[email protected]