فتوى ابن طاوس في مجلس هولاكو قبل إسلام المغول

أجاب نقيب الطالبيين ابن طاوس استفتاء هولاكو حول المفاضلة بين الكفر مع العدل وبين الإسلام مع الجور بأفضلية الكافر العادل على المسلم الجائر. قال ابن الطقطقي أو ابن طباطبا، وهو المؤرخ القريب من زمن الحدث: "جمع (هولاكو) العلماء بالمستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضي الدين علي بن طاوس حاضراً المجلس، وكان مقدماً محترماً، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع فيها تفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده" (الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية).

طوال تاريخ الدولة الإسلامية لم يجرأ أحد من الفقهاء أن يفضل العدل على الإيمان، بل ولم يتقدم سلطان من سلاطين المسلمين الاستفتاء أو محاولة النظر في مثل هذا الأمر الخطير. لأن في تقديم العدل على الإيمان أو الإسلام ورطة لهم. لا يحتاج الإيمان إلى إثبات مادام الحاكم مسلماً مؤدياً للفروض المطلوبة، والشائع عن المرجئة قولهم: لا تنقص الإيمان معصية، بينما يحتاج العدل إلى أدلة ملموسة لا تقبل التأويل ولا الحيلة الفقهية. وهولاكو ليس هو بالإمام الكافر العادل النموذجي، لكنه ليس أقل عدلاً ممَنْ حكموا بغداد من قبل ومن بعد. أراد باستفتاء الفقهاء إيجاد شرعية ما لغير المسلم في حكم المسلمين، أما ابن طاوس فقال ما قدره عليه علمه، ولو استفتاه سلطان مسلم من قبل لأفتاه بالفتوى نفسها.
أستمر المغول يحكمون العراق وإيران طوال ثمانِ وثلاثين سنة وهم على ديانتهم السابقة البوذية. قال وزيرهم رشيد الدين فضل الله الهمداني في لحظة إسلامهم: "إن غازان خان نطق بكلمة التوحيد في أوائل شعبان سنة 694هـ (1294م) بحضور الشيخ صدر الدين إبراهيم بن حمويه، ومعه كافة الأمراء، صار الجميع مسلمين، ولقد أقيمت الولائم والأفراح، واشتغل الحاضرون بالعبادة"(جامع التواريخ، تاريخ غازان خان). لكن ما أن جمع السلطان غازان خان الدين والدولة بيده حتى مارس مهام السلطة الدينية، على طريق المتوكل والحجاج. أصدر مرسوماً "بتخريب كل معابد البوذيين ودور الأصنام والكنائس والبيع في دار الملك بتبريز وبغداد"(نفسه). وأطلق على نفسه لقب سلطان الإسلام، وبذلك أصبح في غنىً عن أن يحسب للعدل حساباً بحساسية السلطان غير المسلم وهو يحكم المسلمين. وللاحتفاظ بالحساسية نفسها تجاه الناس أفتت بعض الفرق الفكرية، مثل المعتزلة والخوارج، بإمامة العبد الحبشي أو النبطي، حتى يسهل تقويمه إن حاد عن جادة العدل.

لم يبدع الفقيه الشيعي ابن طاوس فتواه في تفضيل العادل الكافر، لكنه تجرأ على كشفها بعد أن ظلت مستورة، تتداول في الفقه الشيعي طوال الحكمين الأموي والعباسي. فقد أعلن الأئمة الثلاثة ماعدا أبا حنيفة: مالك والشافعي وابن حنبل عدم الخروج على إمام جائر مع أعلان كراهة جوره، أو بعبارة مختصرة "يجب الصبر عند جور الحاكم"، لأنه مسلم، وحتى لا تكون فتنة تضر الإسلام. غير أن قاضي القضاة أبو يوسف خالف إمامه أبا حنيفة عندما أكد في أكثر من حديث ووصية وجوب طاعة الإمام عادل كان أم جائراً، وهو هارون الرشيد في زمانه، فإن عدل عدل، وإن لم يعدل فأمره إلى الله. وروي عن أبي هريرة الحديث التالي: قال رسول الله: "مَنْ أطاعني فقد أطاع الله، ومَنْ أطاع الإمام فقد أطاعني، ومَنْ عصاني فقد عصى الله، ومَنْ عصى الإمام عصاني"(كتاب الخراج). واكتفى أبو يوسف بنصح الإمام أن يكون عادلاً، ذاكراً له الحديث التالي: "إن أحب الناس إليَّ وأقربهم مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل، وإن أبغض الناس إليَّ يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر"(كتاب الخراج). لم يتقيد المذهب الحنفي، في ما بعد، بالإمام أبي حنيفة مثلما تقيد بأبي يوسف، لذا أتخذه الخلفاء مذهباً رسمياً منذ ذلك التاريخ، بينما حذر أبو حنيفة تلامذته، ومنهم قاضي القضاة نفسه، حتى من تولي وظيفة القضاء، ورد ذلك في وصية معروفة في كتب مناقبه.

أفتى أبو حنيفة بالخروج على السلطان الجائر، ذلك ما أشار إليه فقيه الأمويين ثم العباسيين الأوزاعي (ت157هـ) قال: كان أبو حنيفة:"يرى السيف في أمة محمد"(تاريخ بغداد)، ذلك عندما شجع حركة إبراهيم، وهي أمتداد حركة أخيه محمد النفس الزكية ضد أبي جعفر المنصور. وهناك عدد من الروايات يكفي تأكيد مشاركة أو تأييد أبي حنيفة الحركة المذكورة، منها أن أحدهم بحث عن سبب التحاق أخيه بإبراهيم وقتله معه، فوجد فتوى أبي حنيفة وراء ذلك، وان امرأة سألته عن رغبة ولدها في الالتحاق بالحركة، فقال لها "لا تمنعيه"، وقيل أنه قدم الخروج مع إبراهيم على الحج(مقاتل الطالبيين). وحذر الحنفي زفر بن هذيل أبا حنيفة من تأييد إبراهيم، بقوله: "والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا". وهناك معطيات عديدة أخرى على جواز أبي حنيفة الخروج على الحاكم الجائر، مثل رأيه في مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وكان قتله من قبل المنصور بجريرة ذلك. ولا يرتبط ما ذهب إليه بمفهوم دولة دينية بل بمفهوم عدالة إنسانية، فهو الوحيد الذي ساوى بين دية المسلم والذمي، وسمح لأهل الذمة الدخول إلى الكعبة، وسمح للمرأة أن تتبوأ وظيفة القضاء، بينما لا يعترف لها الفقهاء الآخرون بقوامة.

صلة بفتوى ابن طاوس تترد كثيراً عبارة "العدل أساس الملك"، وتأتي أحياناً "العدل أساس الحكم"، لكن لا أحد يعلم أصل هذه العبارة، فتداولت كقول مأثور، أو حكمة، أو مثل، ونسبها البعض خطأً إلى ابن خلدون.لم يبدعها ابن خلدون، بل وظفها رابطاً على أساسها بين الظلم وخراب العمران، فجاء في مقدمته "الظلم مؤذن بخراب العمران" . قبل هذا وردت كمعنى في الكتاب المقدس: "المُلك بالعدل يُثبت الأرض" ، و"أزل الشرير من أمام المَلك فيثبت بالعدل عرشه". و"القليل مع العَدل خيرٌ مِنْ الغِلال الكثيرة بغير عدل"(سفر الأمثال). وكم يدنو هذا النص من الحديث الذي ورد في "الكافي" لأبي جعفر الكليني: "العدل من الماء يصيبه الضمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل".
و وردت مفردة العدل في القرآن الكريم كأمر "إن الله يأمر بالعدل" (النحل)، وتكررت في أكثر من آية، وأن أحد أسماء الله الحسنى هو "العدل". وتحمي الآية الآتية: "ولو شاء الله لجعلكم أُمة واحدة"(النحل) الناس من التعصب لدين أو مذهب، وتحد من إلغاء الآخرين، وهناك آيات أخرى تؤكد أن التنوع هو حكمة الله وخلقته، فليس لأحد أن يجبر آخر على دين أو مذهب أو رأي. فلا يُسئل الناس عن إيمانهم فهذا شأنهم مع الله، وهو ما لا تقبله الدولة الدينية، بل يُسئلون عن عدالتهم في الحكم والمعاملة لأنها من شؤونهم ولمصلحتهم. وخلاف هذه الحكمة الربانية، نصح واعظ من وعاظ السلاطين سلطاناً بالقول: "أيها الملك إنما هو سيفك ودرهمك فأزرع بهذا مَنْ شكرك، وأحصد بهذا مَنْ كفرك". علق ابن الطقطقي على هذه النصيحة بالقول: "لعن الله مَنْ نصح الملوك" بهذه النصيحة (الفخري في الآداب السلطانية).

وورد تحبيذ العدل في أحاديث عديدة منها: "العدل أحلى من الشهد، وألبن من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك"(الكافي)، و"العدل حسنٌ لكن في الأمراء أحسن..."، و"عدل يوم أفضل من عبادة ستين سنةً"، و"يُقال للإمام العادل في قبره: أبشر فإنك رفيق محمد". وضعت إلى جانب هذا أحاديث كثيرة في طاعة الإمام، ربما لا يتعدى وضعها الفترة الأموية. مثل: "أطع كل أمير، وصل خلف كل إمام، ولا تسبَّنَّ أحداً من أصحابي". وجاء برواية معاوية بن أبي سفيان: "إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا آخرهما"(الهندي، كنز العمال). وربما جعل الحديث الأخير وغيره القاضي ابن العربي أن يقول في "العواصم من القواصم" حول مقتل الإمام الحسين بن علي: "ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جدِّه المهيمن على الرسل"، وحسب ابن خلدون أي قتل الحسين بشرع جده (المقدمة).

وورد في "نهج البلاغة": "كلمة عدل عند إمام جائر"، فشاعت بعبارة "كلمة حق أمام حاكم جائر". وورد أيضاً: "إن أفضل قرّة عين عند الولاة استقامة العدل في البلاد". ووردت عند القلقشندي في "صبح الأعشى: "العدل هو أساس المُلك"، وعند ابن الحداد في "الجوهر النفيس في سياسة الرئيس وردت "العدل به سلامة السلطان وعمارة البلدان". وعند الطرطوشي في "سراج الملوك" وردت: "الخراج عمود الملك وما استعزز بمثل العدل"، وعند الأبي في "نثر الدر": "المُلك لا تصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل". وقديماً نقل أبو الحسن المسعودي عبارة لموبذان (رئيس فقهاء) المجوس نصح بها الملك بهرام بن بهرام: "لا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيماً، وهو الملك"(مروج الذهب).

بنى الفقيه ابن طاوس فتواه "تفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر" على ما تقدم من نصوص مقدسة توراتية وقرآنية وأحاديث نبوية وحكمة علوية وخزين في الفكر الشيعي حول مفهوم العدالة. وهو ليس إنساناً عادياً، حتى تترك فتواه، وتفسر مجاملة لحاكم مثل هولاكو، بل خلع بفتواه المذكورة ثياب الخوف المزمن طوال تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وأثبت فيها العدل أساس الملك كشريعة إنسانية، فقد أجاز الله للبشر الاختلاف في الأديان والمذاهب والعقائد، وما تفضيل الدين على العدل إلا من وحي الحاكم الجائر، الذي جُمع الدين له والدنيا. وبغض النظر عن قصد هولاكو فقد ثور باستفتائه مفهوم العدالة المغلوبة طوال تلك الفترة، ولا يفسر سكوت بقية الفقهاء إلا بتلبسهم بالخوف، الخوف المكنون في الصدور.

أول مرة في التاريخ يشارك فقيه شيعي باستفتاء خطير مثل هذا، فلو كان الخليفة مسلماً متديناً لاحتكر الفتوى لمذهبه، ولم يشرك فقيهاً من المذاهب المخالفة الاخرى. شيد المستنصر المدرسة المستنصرية، وهي مكان الفتوى، مغلقة للمذاهب الأربعة: الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي. وعلى الرغم من اقتصاره على الوافدين، طلبة علم من المغرب ومصر، شغل المذهب الأخير ركناً من أركان المدرسة، بينمالم يدخلها الشيعي، لأن مسألة الإمامة هي الأصل في التفريق بين المذاهب، أي سطوة الدين على الدولة وسطوة السياسة على الدين. تفاقم أمر المذهبية، وهي في رأس السلطة، إلى جعل المدارس الفقهية وقفاً لمذهب واحد، مثل المدرسة النظامية التي أسسها وزير السلاجقة نظام المُلك، وأوقفها للمذهب الشافعي من فراشها إلى مديرها وواعظها ومؤذنها.

ليس ابن طاوس بالإنسان العادي حتى تهمل فتواه الشجاعة ويتناولها الباحثون من أذيال السلطات الدينية بالهجوم والتقليل من شأنها وشأن مفتيها، لأنها ليس على صلح مع ولاية الفقيه أو ظل الله على الأرض من بقية الحكام.كان رضي الدين علي بن موسى بن طاوس (ت664هـ) من متقدمي المذهب الشيعي، ونقيب الطالبيين، ولد بالحلة فعرف بالحلي، وعاش وتعلم بالنجف، وكان صديقاً للوزير الحكيم ابن العلقمي، أمتلك مكتبة عامرة، وألف "سعد السعود" في تاريخ القرآن، وعشرات الكتب الأخرى، مات ببغداد ودفن عند الضريح العلوي بالنجف.

إن فتوى جريئة مثل فتوى ابن طاوس لم يقدر على إصدارها إلا المتحرر من هيمنة السلطة، وهي بهذا تضاف إلى إيجابية الاجتهاد في المذهب الشيعي، فتراكم تجربته في المعارضة، بعيداً عن التأثير، جعله ينظر إلى العدل أساساً في الحكم. بيد أن كل الأحزاب والمنظمات المعارضة تسعى إلى مناهضة الظلم، وتكريس مفهوم العدالة، لكنها تنقلب على شعاراتها لحظة وصولها إلى السلطة، حيث تبدأ معارضتها حتى من قبل أتباعها السابقين، وهذا ما حصل مع الثورة العباسية، والثورة الزيدية الشيعية باليمن، والبلشفية بروسيا، والثورة الفرنسية، ويحصل الآن مع الثورة الإيرانية، ومَنْ يتمكن من محاسبة ولي المسلمين حسب نظرية ولاية الفقيه؟ وهو في السلطة ينطفئ بهاء الدين أو المذهب أو الفكرة، ويحجم إلى مستوى الصغائر.

مؤخراً أخذ الفكر الشيعي يتأثر جزئياً بسلفية الأحزاب السياسية، رغم مقاومة المرجعية، فمن أوليات الانضمام إلى بعض هذه الأحزاب هو تحريم مصافحة النساء، وإطلاق الذقن، وفرض الحجاب والتبشير له، والتدقيق في الطعام، وفي نوع الجلود المحتذية، والريبة بأهل الأديان الأخرى، وبغير المتدينين، والبعد عن سماع الموسيقى، وعدم التظاهر بالفرح في الأعراس، أي محاولة تحويل المجتمع كله إلى كتلة دينية. وبطبيعة الحال، لا توافق مثل هذه الكتلة غير الدولة الدينية المناسبة، لتحقق مظاهر التدين بالقوة، وبطرق ملتوية، وبهذا مالت هذه الأحزاب عن التشيع وإيجابياتهكما هي عتد ابن طاوس، إلى ضيق ابن تيمية من دون أن تشعر، حتى قيل إن بعضها ماهو إلا امتداد لحزب التحرير السلفي، أو هو نموذج من نماذج أحزاب إخوان المسلمين.

لم يختلف الناس مع السلطات على الإيمان، بل أن السلطات تتخذ من الإيمان ذريعة للقمع، فمن قبل ليس لحروب الردة صلة بالإيمان، مثلما كانت صلتها باقتسام الأموال والتفرد بالحكم من قبل قريش. كان اختلاف الناس مع السلطات حول العدل لا حول الإيمان، هذا ما تؤيده خطبة معاوية بن أبي سفيان، قال:"يا أهل العراق أترونني قاتلتكم على الصيام والصلاة والزكاة، وأنا أعلم أنكم تقومون بها، وإنما قاتلتكم على أن أتأمر عليكم، وقد أمرَّني الله عليكم...إنما أنا خازن من خزان الله، أعطي من أعطاه الله، أمنع مَنْ منعه الله"(القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال). وقال مثل ذلك أبو جعفر المنصور وهو يخاطب المسلمين في موسم الحج: "أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وتأييده وتبصيره، وخازنه على فيئه أعمل فيه بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بأذنه، قد جعلني عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله وسألوه في هذا اليوم الشريف، الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً، أن وفقني للصواب والرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطائكم وقَسم أرزاقكم بالعدل عليكم"(ابن قتيبة، عيون الأخبار).
كل دولة دينية لا تقول أقل مما قاله معاوية وأبو جعفر المنصور، لأنها ستحاول، مهما تطلبت العدل والابتعاد عن الجور، حماية نفسها بمظلة الدين، وإلا هل تعتقدون أن خصومة آيات الله بإيران مع آية الله منتظري كان بسبب الإيمان والتقوى، أم هي على شكل الحكم واختلاف الطريقة في سَوس البلاد؟ ولننظر في قول عمر بن عبد العزيز: "الحجاج بالعراق، وأخوه محمد باليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، والوليد بالشام، وقرة بن شريك بمصر، امتلأت بلاد الله جوراً"! هل أحتج ابن عبد العزيز على نقص الإيمان بالله عند هؤلاء، أم أنكر عليهم نقص العدل؟ فما عرف عن الحجاج على وجه الخصوص هو الجامع بين التدين وسفك الدماء، لأنه كان يؤمن أن حق الخليفة هو من حق الله.

إن العدالة التي تحدثت عنها فتوى ابن طاوس لا يحققها إمام بعينه ولا مذهب ولا دين بل يحققها الناس بجمعهم، ولا يعتدل الميزان إلا بوجود سلطة ومعارضة قوية لها، وعلنية لا تخفي تجاوزات الإمام، مثلما أُخفيت لألف وأربعمئة سنة. فلا الاختلاف حول الآذان، ولا الاختلاف حول الوقف، أو تسمية المساجد وتوسيعها هو مطلب العدل، بل العدل يبدأ من المنافسة في تنظيف الطريق، وبناء المستشفى، والمدرسة، وإعزاز الشيخوخة، وإفراح الطفولة، وتوسيع الصناعة.

لو أُلتزمت فتوى الفقيه ابن طاوس، منذ ذلك الزمان، فهل عبرنا إلى الألفية الثالثة بهذا الركام من التراجع. أزمات متلاحقة، ولنا الفضل بإنتاج فتوى تحرم استعمال الوَرْد، وأخرى تجيز قطع الرقاب، ومناهج دراسية ومجالس وعظ تنتج عقولاً ليس لها في النور حصة.
[email protected]