إنّني وثنيّ، يهوديّ، مسيحيّ، شيعيّ، سنّيّ... هذه هي خريطة جيناتي العقائديّة كمواطن من شمال إفريقيا. فنحن في بلدان شمال إفريقيا لازلنا نؤمّ في قرانا بعض الأشجار العتيقة لممارسة يعض الطّقوس الإسلاميّة بعقليّة سحريّة. ولا زالت نساؤنا يتزيّنّ بالسّمكة واليد اللّتين كانتا من تمائم وأدوات طقوس عبادتنا الوثنيّة القديمة. السّمكة واليد، وإن اضمحلّ منهما الطّابع القدسيّ، ظلّتا تمارسان دورهما في إبعاد الحسد والشّرور، في ما تبقّى فينا من ميراث الذّهنيّة السّحريّة العجائبيّة. أمّا نجمة داوود التي نسمّيها خاتم سيّدنا سليمان، فقد كان حرفيّو صناعة الفضّة إلى عهد قريب ينقشونها على الحلي.
أمّا الصّليب، فإنّك تجده ماثلا على راحلة المهاري ونجده تعويذة يتّقي بها الطّوارق شرور الصّحراء وأهوالها. وكم كان هذا الصّليب محبّبا إلى قلوبنا لأنّه يذكّرنا بوجوه أمّهاتنا وجدّاتنا اللاّتي حفرناه وشما على جباههنّ.
وقد كنّا وما زلنا نحتفل بعاشوراء ونمثّل في مسرحيّات شعبيّة مأساة الحسين، وننتصر لعليّ في حكاياتنا وأساطيرنا الشّعبيّة، ونقرن اسم عليّ على الدّوام باسم النّبيّ محمّد، سواء في صرخات النّساء عندما يأتيهنّ المخاض ويستجمعن قواهنّ للطّلق، أو بعد كلّ زغرودة فرح لعودة غائب أو لتباشير مطر.

واليوم ها نحن ندين بالدّيانة السّنّيّة التي فرضت علينا فرضا ككلّ الدّيانات القديمة التي اعتنقناها، لا عن اقتناع بها، بل امتثالا لإرادة حكّامنا وزعماء عشائرنا، والقائمين على شؤون مقدّساتنا الذين تحوّلوا مع الزّمن إلى جزء من المقدّس، ضمن ذهنيّة عبادة الأسلاف التي لا ينجو منها بشر يسعى إلى الخلود والنّجاة الأبديّة، في محاولة للتّخفيف من عبثيّة حياة عاقلة مآلها الفناء.

اللاّفت للنّظر في هذه العقود الأخيرة من تاريخ العرب المسلمين، أنّ هؤلاء يعانون من أزمة هويّة أنتجت انفصاما وتشوّها اجتماعيّا زادا من بؤسهم وأفقدهم القدرة على الإحساس بالتّعدّد الإبداعيّ وبالتّسامح والحبّ.

لا نكاد نسمع اليوم عن شعر أو رواية تبثّ نفحة عشق تتناقلها الأفواه، فقد احتكرت مآقينا صور الدّم المسفوح، ووقر آذاننا صراخ دعاة الحقد والكراهية.
في هذا الضّجيج والتّلوّث السّمعيّ والبصريّ للعدم، لا بدّ أن تصرخ بقصيدة حتّى تُسمع، ولكنّك إذا صرخت بالشّعر استحال الشّعر إلى لاشعر، فالشّعر يرتدي غلالة الهمس ليتمكّن من الشّغاف، وغلالة النّجوى تتهتّك بكلمات العنف الطّائشة.

هل تسمعون اليوم شيئا عن الفنّ المسرحيّ أو السّينمائيّ؟ نعم، عندما يحتفى بممثّلة تحجّبت لتوّها، لأنّها ولا شكّ اكتشفت الإسلام مع بروز أوّل التّجاعيد في عنقها، ولأنّ ما ستناله من أعطيات الأثرياء الذين يطمحون إلى قصور الجنّة بعد أن ملؤوا الدّنبا بمفاسد قصورهم، أكبر بكثير ممّا سوف تدرّه عليها أدوار تتناسب مع ما تبقّى على وجهها من سراب الجمال.

هل تسمعون اليوم شيئا عن النّضال السّياسيّ الذي كان يمارس من خلال الحوار وترانيم الرّبابة وأنغام العود وأهازيج الأطفال الواعدة بالفرح؟ أعتقد أنّكم لا تكادون تسمعون شيئا منها لأنّ إفراغ الذّاكرة من تاريخها هو المقدّمة الضّروريّة لإفناء البشر وإقناعهم بفضيلة الانتحار.

أما آن لهذا الزّمن العربيّ البائس أن يندحر؟ وللأغنية العاطفيّة أن تسمع؟ وللحبّ أن يلملم وريقات خريفنا ليبني له عشّا فلي القلوب؟ وللإسلام الشّعبيّ الجميل أن يتخلّص من الإسلام التّطهيريّ والتّفكيريّ وأن يورق فنفيء إلى ظلّ تسامحه من جديد؟

أما آن لرجال الدّين أن يحلقوا لحالهم أو أن يستبدلوا حقدهم قملا، حتّى ينشغلوا عنّا بالفلي والحكّ ويتركوننا لشأننا؟

أما آن لسيوفنا الصّدئة ومدانا الدّاثرة أن تخجل من الحداثة فتتوارى في غمد الزّمان؟ وللوثنيّ واليهوديّ والمسيحيّ والسنّيّ والخارجيّ أن يغنّوا أغنية حبّ للوطن لا نشاز فيها حتّى تزهر المواطنة والحرّيّة؟

أيّها الآلهة المتقاتلون على الأرض، ارجعوا إلى إنسانيّتكم فهذه أولى الخطوات إلى التّوحيد ونبذ الشّرك. واعلموا أيّها البشر أنّ الآلهة لا آخرة لها ولا جنان.

[email protected]