الناقد السعودي عبدالله الغذامييحمّل الشعر العربي مسؤولية صناعة الطغاة (1/2)

حاوره موسى برهومة:يعد الناقد السعودي عبدالله الغذامي من أبرز النقاد العرب وأكثرهم سجالية وإثارة للجدل، حصل الغذامي على شهادة الدكتوراه من بريطانيا العام 1987، وحاز في العام 1999 جائزة سلطان العويس الثقافية في الدراسات النقدية، وله العديد من المؤلفات أبرزها: "الكتابة ضد الكتابة"، "الخطيئة والتكفير: من البنيوية الى التشريحية" و" المشاكلة والاختلاف: قراءة في النظرية النقدية العربية، وبحث في الشبيه المختلف" و"المرأة واللغة". وكان آخر إصداراته كتاب " حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية" الذي أثار كما كتبه السابقة مساجلات واسعة، يوضح الغذامي مرجعياتها في هذا الحوار مع (إيلاف) الذي أجري معه على مرحلتين الأولى في عمّان، والثانية عبر الهاتف من الرياض حيث يدرّس الغذامي هناك النقد والنظرية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

* أثار كتابك الأخير حول الحداثة في السعودية مناقشات واسعة تعدى بعضها النطاق المطروح بين طيات الكتاب إلى تأويلات حول المغزى العام من الأطروحة التي قدمتها وتوقيتها. كيف ترى إلى تلك الملاحظات؟

- من المتوقع جدا في مجتمع محافظ أن يميل هذا المجتمع إلى التكتم على قضاياه الخاصة، وهذه سمة نسبية لأي مجتمع محافظ، ولهذا تجد أن الرواية أو المسرحية أو كتابات السيرة الذاتية تلاقي مشاكل عديدة في ردود الفعل عليها، لأن من طبيعة العقلية المحافظة أن تصوّر نفسها كاملة وتامة، ولا تميل إلى كشف العيوب وتعرية الذات.
ولهذا إذا تكلمنا عن ظاهرة (الحداثة) في المملكة العربية السعودية، أي حالة (الحداثة) أمام مجتمع محافظ، فإن هذا الحديث سيجر بالضرورة إلى الكشف عن آليات تعامل المجتمع مع مشروع الحداثة، والطرق التي توسّل بها ضد هذا المشروع وشخوصه.
وإذ تستعاد هذه الحكايات والقصص، فمعناه أننا نكتب سيرة المجتمع، ونكشف عن أنساقه، وهذه تلامس أدق خصوصيات التفاعل الاجتماعي التي يعتقد الناس، عادة أنها من الأشياء التي يجب أن تنسى ويسكت عنها، ويجري التسامح والعفو والصفح حولها، وإذا تفاجأوا بكشفها فإنه من الطبيعي جدا أن يكون هناك ردود فعل، وهذا ما شهده الكتاب، وما يزال، منذ صدوره قبل بضعة أشهر.

* وهل كنت تتعمد إحداث هذه الصدمة سعيا وراء إثارة جَلَبَة حول الكتاب؟

- لم يكن التعمد خطة مقصودة، ولم أشأ، إطلاقا، أن أحدث جلبة، لكن في الوقت ذاته لم أكن خاضعا للمخاوف من ردود الأفعال، فأنا أفرق هنا بين الخوف من ردة الفعل، وبين تعمد إحداث رد فعل معيّن، وأعتقد أن مسألة المفكر أو المثقف أن يقول وأن يفعل ما يجب قوله، وما يجب فعله من دون خوف من ردود الفعل مهما كانت.

* اجتهدت في الكشف عن جماليات الشعر العربي وكوامنه الفنية، لكنك في نقدك الثقافي له قوّضته، وفكفكت بنياته المعرفية، هل هذا جزء من مشروعك النقدي؟
- نعم هو جزء آخذ في البدءالجانب الجمالي حسب مقولة النقد الادبي، ثم انعطف انعطافة جذرية في التحول من قراءة النصوص الى قراءة الانساق. وهذا تحول جذري تختلف معه النظرة من حيث المبدأ وتختلف فيه آليات التأويل. وهذا هو الفارق الاساسي بين النظرتين.

*ما الذي تبغيه من وراء هذا المشروع الذي يقوم في أساسه على الهدم في مستواه المعرفي؟
- الذي ابغتيه ويرتكز عليه هذا المشروع هو التمييز بين استقبال الادب بوصفه قيمة جمالية بلاغية، وبين مفهوم آخر يجعل الادب (حادثة ثقافية) مع التسليم التام بجمالياته، غير ان المسكوت عنه هنا هو المحرك والفاعل الثقافي، فتكون العينة الادبية علامة ثقافية، بعد ان كنا ننظر اليها على انها قيمة جمالية فحسب.

* تحاول اقتراح مفهوم جديد للادب والثقافة على اعتبار انهما مصطلحان ملتبسان. في حين ان كثيرين يتطامنون ويتواطأون على عدم تعريفهما. هل انت في مشروعك ضد البداهة؟
- نعم، وضد المسلمات العامة التي توهم نفسها انها مصطلح معروف وغير شائك، بينما الامر على خلاف ذلك، اذ ان كل عملية فحص لمصطلح الادبية او لمفهوم الثقافة ستوصلنا الى انها مفاهيم شائكة وتتسع اتساعا يوصلها الى درجة اللامعنى، او تضيق ضيقا اصطلاحيا اكاديميا. وفي الحالتين تكون النظرة قاصرة، وسنحتاج حينئذ الى ان نعيد نظرتنا مرة تلو الاخرى حول ما نظنه مفهوما ومعروفا، فاذا بنا نكتشف انه شائك ومرتبك.

* تدعو الى النقد المنشغل بتتبع الصحافة والاعمال السينمائية ووسائط الاتصال الجماهيري، ولكن هل يمكن ان يحل هذا محل النقد الادبي؟
- لا يحل محل النقد الادبي، لكنه وظيفيا ومرحليا، يعد بمثابة للمرحلة الثقافية التي نمر بها، وهي مرحلة تشهد تغيرا ضخما على المستوى العالمي، ونحن جزء من هذا العالم، وفي هذا التغير تتكشف لنا اننا في (ثقافة الوسائل). فالوسيلة الآن صارت هي بذاتها الاداة الثقافية، وفي الوقت ذاته، فان الوسيلة سريعة التغير والتبدل لأسباب تجارية استهلاكية لكننا منصاعون بالضرورة، ومتأثرون بالضرورة بهذه الوسائل، وبأنماط تغيراتها السريعة،وهذا يقتضي منا ان نتحول بوعينا النقدي نحو النظر الى هذه المتغيرات، لكي نعرف موقعنا في هذا الوجود المتغير، ولكي نتلمس اساليب وضرورات التعامل مع هذا المتغير. اما لو ظللنا على اسلوبنا التقليدي في النظرة الاكاديمية الثابتة، فهذا معناه ان العالم يتحرك بسرعة، ونحن غافلون عما يجري تحت دعوى الجمالي الخالد والمتعالي، كما هي دعوة النقد الادبي في الاصل. وهذا ما يتطلب قيام النقد الثقافي كبديل عن النقد الادبي بوصف ذلك استجابة لشروط المرحلة وشروط هذه التغيرات الجذرية.

* هي دعوة، إذن، لأن ينهمك المثقف في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي سائر مناشط الحياةلا ان يبقى اسير نصه الادبي؟.
- نعم وهي دعوة لأن يلتفت المثقف الذي نسميه عادة بـ (الجاد) لكي يقف على الخطابات ذات الفعل المباشر في الناس، ولا يكتفي، كما هو الحال في السابق، بالوقوف على النخبوي المتعالي. لقد بدأ الهامشي يتحرك مطالبا بالاحساس به والالتفات اليه، وفي الوقت ذاته تتعرض الهوامش كلها لضغوط معنوية ومادية تتمازج في الخطابات الراهنة، وهذا معترك مهم جدا، وخطر جدا، وعلى المثقف الجاد ان يدخل بكل ثقله الى هذا الحدث العصري الذي له من التأثير والفعل ابلغ الحدود. ولنأخذ كمثال قصيدة لأدونيس واغنيةشبابية، ونسأل انفسنا اي واحد من النصين يدخل الى عالم الاستقبال الوسيع، والتأثير الاخطر. وحينئذ لا بد للناقد ان يسأل نفسه هل هو معني بالاستقبال الجماهيري العام الفاعل والمؤثر في الناس، ام انه سيكتفي بالدائرة الثقافية الضيقة مع تساميها، لكن السمو الآن يتنازل عن دوره ليحل محله الجماهيري، وهذا يجعلنا مسؤولين عن التعرف على معالم هذه التغيرات، وادوار تأثيراتها، هذا ان كنا معنيين فعلا بالشأن الثقافي الاجتماعي بأبعاده الحقيقية. هنا تكمن المسؤولية التي تحتاج الى شجاعة وجرأة، وتحتاج الى كسر الحد التقليدي الفاصل، بحيث لا نعود نطالب الناس بالارتقاء الى مستوى النص، طالما انهم غير عابئين بهذا الطلب. وفي هذه الحالة لا بد ان نتجه نحن الى الناس، والى تفاعلاتهم الثقافية، وهذا ليس تنازلا عما يسمى شرف العلم وحصانة العلم،ولكنها محاولة للاتصال مع الواقع بكل ما في هذا الواقع من سلبيات كثيرة او ايجابيات قليلة. هذا هو السعي الحقيقي لقراءة الخطاب وذهنية الاستقبال وحركية التباعد.

يتبع