الشاعر سميح القاسم في حوار صاخب مع( إيلاف) (2/2):
لديّ مسؤولية بتكليف إلهي للدفاع عن روح هذه الأمة وتراثها وثقافتها وحضارتها وعن حداثتها
المتنبي ليس بقرتي المقدسة وقصيدتي أرقى من قصيدته
حاوره موسى برهومة: ينتسب الشاعر الفلسطيني سميح القاسم إلى جيل مؤسس من الشعراء العرب للقصيدة التي تؤاخي بين الشعر والموقف، وهو من دعاة عدم الفصل بين الموقف الثقافي والموقف السياسي، ويدعو إلى انصهارهما من أجل تشكيل موقف إنساني مناويء للظلم والقهر والعبودية. ها هنا الحلقة الثانية والأخيرة من حوار صاخب كان لنا معه:
* شننت حملات شعواء، وما تزال، على ما سميته القصيدة البلاستيكية، وظن كثيرون أنك تقصد قصيدة النثر، فهل لديك موقف من هذه القصيدة برغم من أنك كتبتها؟
- لم أقصد قصيدة النثر، قصدت الشعر التافه الذي تعتبرون أصحابه شعراء كبارا في الوطن العربي. قصدت كل الشعر التافه شكلا ومضمونا، أنا لا أميز بين قصيدة نثر وقصيدة كلاسيكية، فهناك قصائد نثر فيها من الشعر أكثر مما يتأتى لعشرين ديوان من الأوزان الكلاسيكية، وهناك قصائد كلاسيكية فيها من الحداثة والعمق والغموض الفني الجميل والنبيل أكثر من أطنان من دواوين شعراء البلاستيك.
* لكنك قلت بأن هناك شعراء كبارا يكتبون قصائد تافهة
- (مقاطعا) كبار في مقاييسك، وليس في مقياسي أنا
* ولكن الشاعر الكبير كبير، أليس كذلك؟
- لا لا لا أبدا مقاييس الصحافة العربية لا تلزمني، ومقاييس الصحافة البريطانية لا تلزمني أيضا.
* إذن ما هو مقياسك للشاعر الكبير؟
- إقرأ قصيدتي تعرف مقياسي. أنتم تحبون أحيانا اللعب بالكلام، أنا لا ألعب بالكلام، أنا مسؤول وقصيدتي مسؤولة، أنا لا ألعب بالشعر، أنا أتفجر بالشعر..
* ولكن اللعب في الشعر شيء جميل، الشعر لعب..
- لا لا الشعر ليس لعبا
* احتراق؟
نعم، احتراق واشتعال وتفجر. يبدو لعبا من خارج القصيدة وخارج الشاعر، عندما تقرأ بيتا من الشعر الحقيقي يخيل إليك أن الشاعر يلعب. حين قال المتنبي في ذاته : واقف تحت أخمصيْ قدر نفسي، واقف تحت أخمصيّ الأنام. هذا يبدو من خارج القصيدة، لعبة لفظية. أنا أعرف وجع المتنبي ومحنته حين صدر عنه هذا الكلام.
* وهل تصدر الآن عن هذا الوجع؟
- نعم، ولكن بقصيدتي وليس بصيغة المتنبي أو بقصيدته. صيغتي وقصيدتي أرقى. المتنبي ليس بقرتي المقدسة، أنا أحترمه شاعرا ولا احترمه راقصا بين الهجاء اليوم والمديح غدا. لا أحب هذه السمة وقد قلت : " وأنا أرفض عهر المتنبي ورياء المتنبي، نحن من نبع ولكنّا افترقنا من مصب لمصب ".
* برأيك كم متنبي في الحياة الثقافية العربية الآن؟
- لا حاجة لوجود المتنبي.
* أقصد الشاعر ذا الصفات التكسبية الذي ينتفع من قصيدته..
- تكسّب المتنبي يختلف عن تكسب شعرائنا هذه الأيام، وربما يبدو تكسبه في ذلك الزمن طبيعيا ومبررا، ويظل تكسبه أرقى وأشرف من طهارة هؤلاء ومن نقائهم الثوري.. لا أقبل الاختباء وراء ضعف المتنبي لتبرير العهر الثقافي الذي تعيشه أمتنا هذه الأيام. دعوا المتنبي جانبا، فهو ملك للتاريخ والتراث ولا يجوز التطاول عليه لتبرير تفاهات بعض المرتزقة والمتكسبين بالشعر. كم متنبي لدينا الآن من حيث المحنة؟
اعتقد ما يقارب من 300 مليون عربي، وهي محنة روحية، بعضهم يعبر بالقصيدة، وبعضهم بالهجرة وبالانكفاء أو النكوص على الأعقاب، أو بالتدين أو التصوف أو الإلحاد.
بغداد
قصيدة جديدة للشاعر سميح القاسم
بايَعتُ عيدَكِ، واستثنيتُ أعيادي
مُستشرِفاً غدَ أبنائي وأحفادي
وكانَ نذري دمي قُربانةً سَنَحَتْ
على مذابحِ آبائي وأجدادي
وقُلتُ لاسمك (كُن رؤيا) فصارَ رؤىً
لطارفِ المجدِ موصولاً بأتلادِ
وأنتِ ما أنتِ عبّاسيّةٌ ملكتْ
شمسَ الشموسِ بتاجِ اللهِ والضّادِ
ووزّعتْ نورَها في كلِّ غاشيةٍ
من الظَّلامِ بمشكاةِ الدمِ الهادي
وشعَّ قرطاسُها روحاً ومعرفةً
على العوالمِ من خافٍ الى بادِ
هُنا المنابرُ من عُربٍ ومن عَجَمٍ
هُنا المنائرُ هَدْيُ الرائحِ الغادي
أصابعُ الناس أقلامٌ وأَحرُفُهم
بَوْحُ اللغاتِ بحُلم الصابيءِ الصّادي
من المشارقِ أسفارٌ مذهَّبةٌ
إلى المغاربِ مرصاداً لمرصادِ
ودجلةٌ عَسَلٌ تغري لذائذُهُ
سمنَ الفراتِ بنحلٍ بين أَورادِ
وللنخيل عيونُ التَّمرِ شاخصةً
لسومرٍ بابلٍ آشورَ أَكّادِ
ليعرب جامحٍ شدَّت نوازعَهُ
بوّابةُ الشرقِ أمداءً لآمادِ
فللخيولِ صهيلٌ عبر أورمية
وللسيوفِ صليلٌ خلفَ أَروادِ
والأطلسيُّ يُعيدُ الوصفَ للهادي
مصاحفٌ ورماحٌ للمدى نشرتْ
إيمانها النورَ في أسدافِ إلحادِ
وشرَّعتْ علماً واستنهضتْ أُمماً
وأشهرتْ قلماً في وجهِ جلاّدِ
وللقصائد كوفيٌّ يتيهُ بها
وكم تتيهُ إذا قالوا: من الشادي؟
وشهرزادُ صلاةُ الليل حكمتُها
لخدِّها طالما حنَّتْ مخدَّتُها
وشهريارُ لإبراقٍ وإرعادِ
وأنتِ كاهنةَ الإلهامِ شاهدةٌ
على بدائع أمثالٍ وأضْدادِ
كنوزُ كفَّيكِ أمجادٌ مخلَّدةٌ
زكاتُها رَدْفُ أمجادٍ بأمجادِ
أعلى الرشيدُ صروحَ العلمِ وانكفأَتْ
على المبعثَرِ من علمٍ وإِرشادِ
وملءَ نهريكِ حبرُ الروحِ سالَ دماً
وسالَ حبراً دمي في بحر أحفادِ
وكنتِ ما كُنتِ من حُرٍّ لطاغيةٍ
عبرَ العصورِ وعُبداناً لأسيادِ
تداولتْك صروفُ الدهر عاصفةً
ورنَّحتْكِ كفوفُ الشرِّ خاطفةً
وطوَّحتُكِ من الجزّارِ للفادي
ومن أَساورِ عزٍّ غرَّدتْ ذَهَباً
إلى شُفوفِ حريرٍ زغردتْ طَرَباً
إلى مذلَّةِ أغلالٍ وأصفادِ
وللمغولِ زحوفٌ لا لجامَ لها
وللتتارِ سيوفٌ دونَ أغمادِ
وللعلوجِ من الأجلافِ زعنفةٌ
تبدَّلُ الحالَ إفساداً بإفسادِ
وأنت عاريةٌ في السِّجنِ داميةٌ
وأنتِ كابيةٌ في القيد باكيةٌ
والقهقهاتُ لأوباشٍ وأوغادِ
ما أَنجدتْ يَمَناً قيسٌ ولا ذرفتْ
ثمودُ دمعةَ محزونٍ على عادِ
والأَهلُ أَهلك لم تنبِسْ لهم شفةٌ
بغيرِ صمتٍ لدى أجراس حُسّادِ
لِمَ ازدهرِت وبيدُ الشرقِ قاحلةٌ
وكيفَ صار حريراً ثوبُ لُبّادِ؟
وما نهوضُكِ والأجفانُ مغمِضَةٌ
على الرمال، وماذا صوتُكِ الحادي؟
وما طموحُكِ والآمالُ خائبةٌ
وما صعودُكِ والأعرابُ في الوادي؟
يا حرَّةً لوَّثَ الطاغوتُ زَهْوَتَها
ومُهرةً دنَّسَ الكابوي صَهْوَتَها
ما العيشُ في موتِ فُرسانٍ ورُدّادِ؟
لكِ الأجانبُ أسياداً متى رغبوا
وكمْ يجانِبُ من أهلٍ وأَولادِ
تفرَّقوا شِيَعاً وافرنقَعوا زُمَراً
وأسْرَفوا عبثاً في شِحِّ إرفادِ
ولا تُجَمِّعُهُم في الويل جامعة
نادي عليهم إذن يا أُختَهُم نادي!
وصاحبُ الجاه في مستنقَعٍ نَتِنٍ
يتيهُ بالجاهِ فيما يسخَرُ النادي
عليهِ من حُلَلِ الأشباهِ ضافيةٌ
ودأبُهُ الرقصُ مشدوداً بأوتادِ
وحين يخطبُ فالأقوالُ في وادِ
وحين يفعلُ فالأفعالُ في وادِ
حصانُ طُروادة صالونُ منزلِهِ
وكعبُ آخيلَ في جيشٍ وقُّوّادِ
وصاحبُ الجاه رَخْوٌ حين تَصفَعُهُ
كفُّ الغريبِ وفينا كابنِ شدَّادِ!
وأيُّ جاهٍ نجا من جاه عِصْمَتِهِ
وحولَهُ حَشْدُ أزلامٍ وأكْدادِ
جزَّ الرقابَ فلم يُشبعْ هوايتَهُ
جزُّ النواصي وتعليقٌ بأعوادِ
واستصغَرَ الخلقَ معتدّاً بسطوتِهِ:
لم يخلقِ اللهُ أمثالي وأندادي!
***
بغدادُ بغدادُ حُبِّي قاتلي فمتى
يُتيحُ حُبُّكِ تَكْفيني وإلحادي؟
في الكاظميَّةِ لي شمسٌ أُغازلُها
وفي الرَّصافةِ شُبّاكٌ لإنشادي
وشاغِلي رَصْدُ أَنقاضي مُبعثَرَةً
في راحلينَ عن الدنيا وأَوفادِ
غرستُ في تربة الأحزانِ لي أملاً
وما سوى الحزن إصداري وإيرادي
يُقتَّرُ الدَّهرُ في حظِّي وفي هِبَتي
وحظُهُ من هِباتي جودُ أَجوادِ
وللفراتِ أَبٌ قبلي قَضى وَجَعاً
في مَنْفَيينِ بلا صَخْبٍ وَعُوّادِ
بريدُ غُربتِهِ في غُربتيهِ بكى
رسائلَ البينِ من بُعدٍ لأبعادِ
بَدَّلتِهِ جسداً صَلصالَ طاغيةٍ
ومن يُبدِّلُ أرواحاً بأجسادِ؟
وأنت من سَلَف أودى به خَلَفٌ
وكم شقيتِ وكم حاولتِ إسعادي
وأنتِ لي أنتِ لي آتيكِ مُبتهلاً
دربي تُرابٌ فلم أَطمعْ بسجّادِ
وأنتِ زادي على بُخل الحياةِ وفي
عَسْفِ المجاعةِ يا بوركتِ من زاد
وخُبزُ روحِيَ في كفَّيكِ مُختمِرٌ
وماءُ عينيَّ من بستانِك النادي
وأنتِ ملهمتي من قبل مُلهمتي
لتَمْرِ عينيك تَرْتيلي وتَرْدادي
ومن شناشيلكِ اصطادَ الشَّجا كَلِماً
صاحتْ لآلئُهُ: بوركتَ صَيَّادي!
وصِحتُ من وجعٍ في القُدسِ يُشعِلُهُ
أنّي استغثتُ فغضَّ السَّمع نُجَّادي
وجُرحُك الحيُّ من جُرحي ومُعتَصمي
لا يستجيبُ وغضَّ الطَّرفَ أشهادي
وكم عَدَدْتُ ملاييناً لها نَسَبي
فلَم تُقِلْني حساباتي وأعدادي
وَكَمْ أَرِقْتُ على نومٍ يُحاصرني
خلفَ الحصارِ وكَمْ أَرَّقتُ جَلاّدي
ويعلمُ اللهُ لم أُغمضْ على مَضَضٍ
عينَ الكفاحِ ولا أَخلفتُ ميعادي
قَصَدْتُ وجهكِ مسكوناً بمحنتِهِ
وخابَ قصدي وما خيَّبتُ قُصّادي
منّي التقرُّبُ للمحبوبِ محتسباً
شرورَ صدّي وإفرادي وإبعادي
ويذبُلُ الحبُّ مأسوراً ونُضرتُهُ
طَلْقاً تدومُ إلى آبادِ آبادِ
وأينَ قلبُكِ من كفٍّ تُهدهدُهُ
ودونَهُ مِبضعٌ في كفِّ فَصّادِ
تقودُهُ طغمةٌ للباطشين بِهِ
وكان قلبكِ حرّاً غير مُنقادِ
شبعتِ أَسراً وإذلالاً وتضحيةً
ولافتدائكِ قلبي غارثٌ صادِ
ومن نعيم الهدى علماً وعافيةً
إلى جحيم الرَّدى في قبضةِ العادي
بغدادُ بغدادُ ناري ألفُ لاهبةٍ
وبين جنبيَّ قلبٌ أَلفُ وَجَّادِ
أَأَستعيدُ بما أسلفتِ خارطتي
وهل أُجدِّدُ باسم اللهِ ميلادي؟
وأنتِ ما أنتِ عَبَّاسِيَّةٌ سُبِيَتْ
بغدادُ أنتِ ولكن أين بغدادي؟!
وأنتِ بغدادُ..لكن أينَ بغدادي؟
الرامة- فلسطين المحتلة
3/8/2003
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات