الشاعر سميح القاسم في حوار صاخب مع "إيلاف" (1/2)
سميح القاسم: هناك 22 إسرائيل في الوطن العربي، واحدة تتكلم العبرية والأخريات يتكلمن العربية
عرضتْ عليّ جائزة نوبل ورفضتها
حيث أكون تكون القصيدة العربية والحداثة العربية
لديّ مسؤولية بتكليف إلهي للدفاع عن روح هذه الأمةوتراثها وثقافتها وحضارتها وعن حداثتها
المتنبي ليس بقرتي المقدسة وقصيدتي أرقى من قصيدته
عُرضتْ عليّ وزارة ثقافة في أحد الأقطار العربية ورفضتها
حاوره موسى برهومة: ينتسب الشاعر الفلسطيني سميح القاسم إلى جيل مؤسس من الشعراء العرب للقصيدة التي تؤاخي بين الشعر والموقف، وهو من دعاة عدم الفصل بين الموقف الثقافي والموقف السياسي، ويدعو إلى انصهارهما من أجل تشكيل موقف إنساني مناويء للظلم والقهر والعبودية. وبالتالي فإن صاحب (دخان البراكين) يعوّل مسؤولية أخلاقية على الحرف قبل أن تكون مسؤولية فنية. عايش القاسم تحولات النضال الفلسطيني، وقاسى ويل الاحتلال، وقاوم التهويد، وبقي متشبثا في أرضه كسنديانة.
صاغ برفقة عدد من الشعراء الفلسطينيين تيار قصيدة المقاومة، ولم يهجره حتى هذه اللحظة، وإن اختلفت صيغ المقاومة وصيغ القصيد.
شاعر مشاكس، مناكف، جسور، حكاء من طراز نادر، ويمتلك طاقة فكاهة غالبا ما يغلفها بحس تراجيدي عميق.
دعته سيدة أردنية لدى زيارته الأخيرة إلى عمّان بأبي محمد الزرقاوي، ليس تيمنا بأبي مصعب الزرقاوي، وإنما لأن مدينة الزرقاء الأردنية شهدت مسقط رأسه واحتضنت صرخته الأولى في أيار من العام 1939.وعندما يسأل القاسم عن عمره يقول بطريقته المحببة : أنا عمري عشرون وعشرون وخمسة وعشرون.
نلتقي الشاعر العربي الفلسطيني، ونسافر معه في هذا الحوار مع (إيلاف) على أجنحة القصيدة والحلم والرؤيا، ونغرس في خاصرة الصمت أسئلة السجال المحرم.
* أراك تتكيء على عكاز. هل هو كي تستوي مشيتك، أم كي تهشّ بها على قطعان القصائد التي تعبر فيافي الروح.. أم كي تلوّح بها في صيغة احتجاج ووعيد. أم ماذا؟
- هي ندبة حوادث الطرق. أما أسراب القصائد وغزالاتها فتتبعني حيث ذهبت، لأنني أتبعها حيث ذهبت، وثمة قطعان بشرية،لأسفي الشديد، أجدر بالعصا والعصا لمن عصا.
* وإذا كانت القصيدة هي العاصية؟
- كعادتي، قصيدتي عصمتها في يدها، وكنت، كما قد تذكر، قبل عقد من الزمن أصدرت بيانا (من سميح القاسم المواطن إلى سميح القاسم الشاعر) وأعلنت فيه أنني لن أعود إلى الشعر، ودخلت معركة طاحنة مع الشاعر الذي سبّب لي القرحة والخيبة تلو الخيبة، ولكن بعد شهور، ربما، كانت قصيدة جديدة، وسئلت لماذا لا تلتزم ببيانك، قلت لأن القصيدة أعادتني إلى بيت طاعتها، فعصمتها في يدها.
* وفي هذا السياق تقول لا يبقى في الوادي إلا أحجاره. بأي معنى يتجلى هذا الكلام على مستوى قصيدة سميح القاسم والمستوى السياسي المتجسّد في تشبث الشعب الفلسطيني بأرضه فوق ترابه الوطني؟
- أريد أولا أن أوضح أسبقية أخي المبدع الجزائري المبدع الطاهر وطار في تحويل هذا هذه العبارة من تعبير فولكلوري إلى هاجس سياسي وثقافي عميق جدا. لكن ما قاله الطاهر وطار في الجزائر يصح في فلسطين وكل أرجاء الوطن العربي، لأن الظواهر الإبداعية كثيرة كالبضائع المستوردة، أما البضائع التي ندمغها بعبارة : (صنع في الوطن العربي) فهي قليلة. الإبداع العربي الحقيقي الحديث قليل جدا، وهو الذي يبقى في وادي الثقافة ووداي الحياة.
* وفي وادي السياسة؟
- لا أحب أن أذكر دائما بأؤلئك المهرجين الذين يقولون إن السياسة تفسد الأدب والفن والشعر، وإذا عدت إلى نتاجهم تكتشف أنه فاسد لأنه كالطعام بلا ملح , الملح والسياسة سيّان في هذا الزمن، ويؤسفني أن أكرر مرة أخرى عبارة جورج أوريل عن القرن السياسي. السياسة ليست رفاها، وليست خيارا ثقافيا، هي حياة، هي عنق طفل يذبح، وجذور شجرة تقتلع، وخطر اقتلاع شعب، وتجريف وطن، وتهجير أمة في جغرافيتها، وتحويل هذه الجغرافيا إلى مقبرة نفايات للصناعة وللمواد السامة، كما يحدث الآن.
السياسة ليست ترفا، ولا شعرَ بلا سياسة إذا كنا نتحدث عن الشعر الحقيقي والأصيل والحديث، وما ينتج خارج هذا الوعي وهذا السياق الفني والفكري لا يتعدى أن يكون كزهور البلاستيك التي تستوردها أقطارنا بكميات هائلة لتستبدل بها أحواض النعناع البري والورد الجوري والزنبق والنرجس البلدي.
أنا ضد هذه التبعية وهذه المذلة وهذا الخنوع والسقوط والركوع الذي ينتقل من السياسي إلى الثقافي كالعدوى الفيروسية. لماذا تستكثرون على أحد محاولة الوقاية إن لم نقل العلاج من هذه الظاهرة الثقافية والسياسية الساقطة بلا حدود؟.
* في هذا الزمن الذي يشهد سقوطا سياسيا مدويا كنتَ صرخت في قصيدة (تقدموا): لن تكسروا أعماقنا، لن تهزموا أشواقنا، نحن قضاء مبرمُ.. ولكن شارون ومن ورائه أميركا، ونصف العين الأوروبية المغمضة يحاولون أن يزينوا الأمر، وكأنهم هم القضاء المبرم. ما تعليقك؟
- ليست مسألة اتخاذ موقف عشوائي. حين قلت نحن قضاء مبرم وكررتها في القراءات : نحن القضاء المبرم ( مع أل التعريف) لم أتقمص شخصية عنترة العبسي، بل كنت الرائي الذي يرى حركة التاريخ في تداعياتها وتطوراتها، ولا يكتفي بالصورة الفوتوغرافية الراهنة. من خلال هذه الرؤية وهذه الرؤيا، أستطيع القول بأن القضاء المبرم يظل متجسدا فينا وفي حجارة الوادي التي أشرتَ إليها، لأن لحركة التاريخ منطقا لا يستطيع أحد سواء أكان جنرالا أم مليارديرا أم شاعرا أم إعلاميا أن يلغي مسار هذه الحركة أو يحيّد هذا المنطق.
والمنطق التاريخي يؤكد بأن حالات الظلم الاستثنائي لا تعمّر طويلا. سقوط النازية والفاشية والعسكريات اليابانية يدلل على أن الحياة تجدد ذاتها، أو كما قال عدد من علماء الطبيعة بأن الطبيعة ترمم ذاتها. نجرّف الجبل بالكسارات، بعد أعوام نجد الطبيعة تكسو هذا الجرح بالشجر والزهور والطحالب حتى يعود الجبل إلى انسجامه.
بهذا المعنى نحن القضاء المبرم، لا شارون ولا أميركا ولا أنصاف الإغماضات الأوروبية وكامل الإغماضات العربية. برغم كل ذلك نحن القضاء المبرم.
* الكلام عن هذه الإغماضات يقودنا إلى حزن بغداد، حيث رثيت في قصيدتك الأخيرة هذه المدينة التي احتضنت الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ، وبكيت على أطلالها، ورحت إلى زمن إمريء القيس ببنيته وإيقاعه، وربما بمفرداته. هل الحزن يستدعي ذلك البناء الكلاسيكي للقصيدة؟
- أولا قصيدتي لم تكن مرثية، ولا وقوفا على الأطلال. ولا أقول هذا الكلام مداراة لأشباه الشعراء وأشباه النقاد وأشباه المثقفين الذين يعيبون على شاعر أن يقف على الأطلال أسوة بشعراء الجاهلية. لنجر بعض الإحصائيات ؛ فأطلال العرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين أكبر من أطلال العرب في كل التاريخ. ماهذه البلادة، ما هذا القبح، ما هذه المازوكية التي تجعل الوقوف على الأطلال عيبا؟.
*ألا تستحق أطلال الوطن العربي الكبير من فلسطين إلى العراق ومن السودان إلى لبنان، ألا تستحق أطلال القنيطرة من يقف عليها. لماذا نرى في وقوف شاعر جاهلي على أطلال بيت شَعر أو موقد أمرا مبررا، ونرى في الوقوف على أطلال مدن وقرى ومنازل مأهولة بالجثث تحت القذائف الإسرائيلية والأميركية والعربية. لماذا يصبح الوقوف على هذه الأطلال عيبا فنيا؟
هذه مسألة تستفزني، ليس على المستوى الشعري، فعلى هذا المستوى قلتها منذ أعوام طويلة : حيث أكون تكون القصيدة العربية والحداثة العربية. ولكن لقطاء النفايات الأوروبية والأميركية لا يعرفون الشعر الأوروبي والأميركي والياباني والروسي بمثل ما أعرفه، وهذا أمر محسوم قطعيا، وثقافة هؤلاء لا تتعدى قصاصات الصحف، وفيما اشتغلت على ثقافتي باحترام للثقافات الأخرى ولثقافتي وذاتي وقصيدتي في الوقت نفسه، ظل هؤلاء لا يعرفون الشعر الفرنسي، وإن كانوا يكثرون من استخدام اللكنة الفرنسية وأسماء الفرنسيين والإنجليز والألمان ليدهشوا أشباه الأميين في الوطن العربي، وليوهموهم بأنهم مثقفون ومطلعون وحداثيون. هؤلاء لا علاقة لهم بالحداثة ولا بالأصالة.
وقد قلت وأكرر بأن لديّ مسؤولية بتكليف إلهي للدفاع عن روح هذه الأمة وتراثها وثقافتها وحضارتها وعن حداثتها أيضا في غمرة العولمة والأمركة والأوربة وفي ظل فضيحة التقليد الممسوخ والقاصر والمجرد من الأخلاق الفنية والأخلاق الاجتماعية والإنسانية.
أنا لم أرثِ بغداد، وعدْ إلى من كتبوا عن هذه القصيدة، فهناك من وصفها بأنها ( معلقة العصر) وأنا أعتز بهذا الوصف. كما أعتز بأننا نستطيع في هذا العصر أن نستأنف عصر المعلقات ونبدعها في أي زمان وأي مكان. القصيدة ليست مرثية لبغداد وإنما مرثية لنا. بغداد موجودة، وأنا لست من السذاجة لأن أقول دمروا بغداد، لم يدمروا بغداد. أنا في القصيدة أقول : "بغداد أنتِ، ولكن أين بغدادي" أنا أريد بغداد الحضارة والكرامة والإبداع، بغداد التي كانت لعقود طويلة ولقرون عديدة هي وشقيقاتها القاهرة ودمشق وفاس ومدن الأندلس العربية الإسلامية مصادر الإشعاع الحضاري على العالم كله. أنا أسأل عن بغداد التي حولها اللصوص والقتلة والمزيفون - مزيفو العملة ومزيفو الثقافة ومهربوالمخدرات - إلى مبغى للسياسة الأميركية والبريطانية ولحالة السقوط والانهيار التي لا تستحقها هذه الأمة.
* بهذا المعنى توصف القصيدة بأنها مرثية لبغداد، لأنك تحاول أن تبحث عن بغدادك، وعن فردوسك المفقود.. هكذا تتجسد القصيدة كمرثية.
- ممكن. هل من رثاء لإرم ذات العماد؟ ربما. هناك القلق والتوجس والرثاء والغناء أيضا. أنا في هذه القصيدة غنيتُ لبغداد : في الكاظمية لي شمس أغازلها، وفي الرصافة شباك لإنشادي، وللعلوج من الأجلاف زعنفة تبدّل الحال إفسادا بإفساد... وإنتِ بغداد، ولكن أين بغدادي؟.
* بقيتَ دائما في مرمى السهام، وكنتَ دائما كاتبا إشكاليا تردّ السهام إلى أعقاب مرسليها، وقاومتَ باستمرار فكرة أنك تتموّل من وزارة المعارف الإسرائيلية التي قيل إنها منحتك جائزة، وموّلت مشاريع النشر لديك. ما حقيقة هذا الأمر؟
- أولا، هذه الأمور قابلة للكشف بسهولة. هناك مليون وربع مليون عربي تحت الحكم الإسرائيلي، وحين عرضت عليّ جائزة إسرائيل عرضت عليّ معها جائزة نوبل، والحقيقة معروفة بأنني رفضت جائزة إسرائيل كما رفضت الجوائز الأخرى، ليس لأن ممالك الطوائف وحظائر سايكس بيكو أفضل. أنا قلت هناك 22 إسرائيل في الوطن العربي، واحدة تتكلم العبرية والأخريات يتكلمن العربية. الكلام عن حصولي على جائزة إسرائيلية كذبة حقيرة روّجها أوباش وحثالات وجبناء يعتقدون أنهم يستطيعون قتلي معنويا. أما مجلتي (إضاءات) فأضطررت لإيقاف إصدارها لأنها غير قابلة للاستمرار من دون تمويل أو دعم مادي. ومن مظاهر التعهر،بالمعنى الأخلاقي والسياسي، أن بعض الذين ادّعوا هذا الإدعاء اتضح أن أقرباءهم وأبناء عمومتهم هم الذين يتلقون التمويل من وزارة المعارف الإسرائيلية، ونشرت في الصحف الأردنية بيانات رسمية من مدير دائرة الثقافة العربية في وزارة المعارف الإسرائيلية موفق خوري يقرّ فيها بأن مجلتي وأنا لم نأخذ أي شيء، وذكر أسماء الذين يتلقون الدعم. وبالمناسبة أنا لا أهاجم هؤلاء الذين يتلقون التمويل، فنحن ندفع الضرائب للحكومة الإسرائيلية بمقدار ميزانية إحدى دول إفريقيا أو أميركا اللاتينية، ومن حق جماهيرنا أن تسترد هذه الضرائب على شكل ميزانيات السلطات المحلية ومنح للأدباء والفنانين غير مشروطة، وحين كنتُ رئيسا للاتحاد في فلسطين المحتلة العام 1948 أتحتُ وسمحتُ لأي شاعر أن يتلقى الجوائز غير المشروطة. ولكنني ولعلمي بنوايا الساقطين على امتداد الوطن العربي، وهم قلة قليلة نادرة بالمناسبة، صنتُ نفسي عما يدنس نفسي، ولم أحصل على أي جوائز ولم أتلق أي دعم، برغم أنه من حقي أن أحصل على الجوائز وأتلقى الدعم من هيئة الأمم المتحدة كلها، فليس هناك من هو أجدر مني لا بالجوائز ولا بالدعم. التطاول من سمات الصغار، ومن كان لديه برهان على حصولي على جائزة أو دعم من إسرائيل فليقدمه إن كان صادقا.
لكن هؤلاء لم يستطيعوا إفساد التواصل المدهش بيني وبين جماهير الشعر وجماهير الشعب على امتداد الوطن العربي، وأنت كإعلامي تعرف ذلك، وتستطيع أن تسأل عن حضور قصيدتي الاستثنائي والاستثنائي جدا من مصر إلى الخليج العربي إلى المغرب وسوريا والأردن، وفي كل مكان برغم الأكاذيب التي يقترفها لقطاء السياسة العدوة والثقاقة العدوة.
* وهل ينخرط في إطار هذه الأكاذيب أنك شاركت مع شعراء ومثقفين إسرائيليين في ندوات وأماس ٍ شعرية، وهؤلاء قيل إن لهم موقفا معاديا من القضايا العربية والفلسطينية؟
- قلت أكثر من مرة بأنه يجب إنقاذ العقل العربي والوعي العربي والثقافة العربية من الغوغائية في الرؤية وفي التحليل، وقلت أيضا بأنه إذا طبّع 300 مليون عربي فسيظل هناك عربي في الجليل يرفض التطبيع، لكنني قلت أيضا بأن الهروب من الحوار هو خيانة ثقافية أشبه بخيانة الجندي الذي يهرب من المعركة. أنا أحاور الإسرائيليين والأميركيين والبريطانيين، وكما قال أخي وصديقي الكبير الشاعر الجواهري رحمه الله : "أنا حتفهم، ألجُ البيوت عليهم، أغري الوليد بشتمهم والحاجبا". أنا أذهب إلى أي مكان في العالم لأن قضيتي عادلة، وأنا على حق، وصوتي حر وحي، وهذه الأمة في حاجة إلى هذا الدور، وأنا، بتكليف إلهي وعون إلهي، سأواصل الدفاع عن كرامة الثقافة العربية والإبداع الأصيل والحداثي، وأترك لسواي الاستحداث والقزامة والتقليد والضحالة وعجز المعرفة والشعور بالنقص،وسأظل أحاور اليهود والأميركيين والروس والألمان والبريطانيين والبوذيين، كما أريد أن أحذر من الانهيار العنصري الذي يدفع مثل هؤلاء الحثالات من الأقزام للتطاول عليّ بسُبّة الحوار. الحوار ليس سُبّة وأنا لست عنصريا، والحضارة العربية الإسلامية ليست عنصرية. نحن لم نفرز النازية والفاشية والديكتاتوريات والعسكريات على أنواعها. نحن لم نفرز أفران الغاز ولم ننشيء المحارق، واحتضننا اليهود والأرمن واليونانيين والأكراد والبربر، والدعوة الآن إلى كراهية اليهودي من حيث هو يهودي،هي دعوات عنصرية غريبة على العروبة وعلى الإسلام، وسأتصدى لها بكل ما أوتيت وسأدحرها. سأدحرها ولو بمفردي، ولن أسمح لهذه الخيانة الدينية والحضارية والروحية والفكرية والشعرية والنثرية بأن تهيمن على الشاعر العربي والشارع العربي، وعليهم ألا يضعوا أيديهم في ماء بارد. صحيح أن نسبة الأميين لدينا كبيرة، لكن ذلك لا يعني عدم معرفة القراءة. هناك ما هو أخطر وهو أمية الفكر والروح، وهؤلاء العنصريون يراوحون في هذا الحيز.
* ولكن ألا ترى بأن الحوار مع المثقف الإسرائيلي العنصري..
- (مقاطعا) : لماذا العنصري؟
* إذن، ماذا حققت من هذا الحوار؟
- احتجاجا على اجتياح لبنان خرج قرابة نصف مليون إسرائيلي في تظاهرات كبرى , هل تريدني أن أناصب هؤلاء العداء، وأن أصفق لذوي الأقفية السميكة الذين اكتفوا بالجلوس على مقاعدهم الوثيرة والتفرج على دمنا والدم اللبناني من خلال التلفزيون؟. مرة أخرى لن أخضع للإرهاب العنصري الذي تحاول نشره شرذمة من أشباه المثقفين وأشباه الشعراء وأشباه الأدميين، وسأدافع عن الروح العربية والإسلامية ثقافة وسياسة وفكرا، وسأناهض العنصرية في الوطن العربي كما أناهضها تحت الحكم الإسرائيلي.
* وهل استطعت أن تحدث عبر حوارك مع الإسرائيليين فجوة في هذا الجدار الصلد؟
- أخرجت مظاهرة صغيرة من عدد من المثقفين الإسرائيليين أمام السجون التي يقبع فيها مناضلونا، أخرجت مظاهرة صغيرة دفاعا عن القدس العربية، ومظاهرة مع إخواني من المناضلين العرب ضد جدار الفصل العنصري. أما إذا قلت لك بأن قصيدتي غيّرت توازن القوى في الشرق الأوسط فسأكون مستسخفا لعقلك، وأنا أحترم عقلك. ميزان القوى بين قصيدتي والترسانة العسكرية الإسرائيلية ما يزال مختلا. أمهلوني قليلا حتى أعدل ميزان القوى بين قصيدتي وبين ترسانة إسرائيل.
* سنمهلك كثيرا، ولكنني أبقى في النقطة نفسها، فأنت تحمل جواز سفر إسرائيليا، وكنت صرخت: امنحوني جواز سفر عربيا، وسوف أقلع عن حمل جواز السفر الإسرائيلي..
- (مقاطعا): هذا اقتباس غير دقيق..
* هل أنت مستعد لمثل هذه الخطوة إذا منحت جواز سفر عربيا؟
- لبقائي في وطني ثمن، وجزء من هذا الثمن أن أحمل أوراقا ثبوتية إسرائيلية، أستطيع أن أعيد جواز السفر لحكومة إسرائيل وأتحول إلى رقم جديد على قائمة اللاجئين الفلسطينيين، وأنا سأكون لاجئا من فئة عشر نجوم وأكثر. لقد عرضت علي وظائف ومصالح كثيرة في الوطن العربي، وعرضت عليّ وزارة ثقافة في أحد الأقطار العربية.
* ولماذا رفضتها؟
- لأنني من برج الثور، وبالتالي فأنا عنيد، ثم ما هذا السؤال لماذا رفضتها؟ لا يوجد فراغ لا في الجغرافيا ولا في السياسة ولا في الفيزياء، خروجي من وطني يعني إفساح المجال لقادم جديد من روسيا أو من اثيوبيا ( بدها شطارة المسألة؟) وأنا لا أريد إخلاء وطني لقادمين جدد. وطني جميل، حيث ورثت عن آبائي وأجدادي أرضا جميلة وأشجار زيتون تمتد لآلاف السنين، ولدي أصدقاء ومقابر ومدارس فلماذا أتخلى عن كل ذلك؟
* ولكنك في النهاية مواطن إسرائيلي..
- ( شو يعني مواطن إسرائيلي) ما هذا الكلام؟ أنا مقيم في وطني، تزول الدول كلها، ويبقى وطني، كنا تحت السلطنة العثمانية والامبراطورية البريطانية وحكم دولة الشعارات وأتى الإسرائيليون وربما يأتي بعدهم البلجيك أو المنغول. هذا كله لا يعنيني من حيث الانتماء، فالوطن وطني، وإذا استطعت أن أبقى في هذا الوطن فلن أتخلى عنه، وسأحمل أي جواز سفر. هذه الشكليات يتسلى بها ضعيفو الإيمان المهتزون، والصغار، أنا إيماني كبير بالله وبذاتي وبحقي وبحضارتي وبتاريخي وبقصيدتي.
أستطيع استصدار جواز سفر من أي دولة عربية، ولكن هذا لا يعني التخلي عن جواز السفر الإسرائيلي، وإنما التخلي عن ميراثي من ملك والدي وأمتي، وهذا لن يحصل إلا على جثتي.
يتبع
التعليقات