المحامي والناشط الحقوقي أنور البني: نقابة منعتني من مزاولة مهنة المحاماة لأنني تكلمت عن المعتقلين السياسيين


حاوره في دمشق حسام شحادة: الحوار مع أنور البني المحامي السوري والناشط في مجال حقوق الإنسان يكتسب أهمية خاصة ومميزة، فهو يتحدث بلغة سهلة ممتنعة بعيدة كل البعد عن أي تكلف أو تملق، كما أنها في ذات الوقت لصيقة تماماً بالغيرية على الوطن والمواطن.. فالحديث مع هذا المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان يأخذك فوراً إلى الإنسان باعتباره الهاجس الأول والأخير.. ونظراً لأن أنور البني يشكل فرادة من خلال حضوره وإسهاماته الدائمة والدؤوبة في الدفاع عن المعتقلين وسجناء الرأي والضمير، كان لنا معه هذا اللقاء في مكتبه.. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع ما يطرحه الأستاذ أنور البني، تبقى »الغيرية« والإخلاص للمواطن الإنسان هو الأساس والجوهر وهو المنطلق والهدف.

*بداية، كيف لأنور البني أن يقدم نفسه إلى القراء والمهتمين، كإنسان وكناشط في الحقل العام وقضايا حقوق الإنسان؟
- ولدت عام 1959 في مدينة حماة كابن سادس لعائلة محدودة الدخل. والد مكافح موظف لدى مؤسسة التبغ نهارا ويعمل مساء في المنازل كصائغ يدوي توفي عام 1971 تاركا أكبر الأبناء في الثالث الثانوي.
ونظرا لقربي من والدي لصغري فقد تعلمت منه الصياغة اليدوية لأساهم مع أخوتي في حمل العبء الاقتصادي للعائلة.
ومنذ بدايات تشكل الوعيّ لدي انفتحت على العمل السياسي، حيث كان أخوتي يهتمون بالعمل السياسي ومشاركون بنقاشات لتشكيل الحلقات الماركسية التي كانت كتبها تملأ المنزل وبعد انتقال أخوتي للجامعة خارج حماه وبحكم تحملي العبء الاقتصادي للعائلة فقد كنت أتابع الشأن السياسي عن طريق أخوتي وأصدقائهم ونقاشاتهم دون الانغماس فيه، وهذا منحني فرصة المراقبة اللصيقة والحوارات والعمل السياسي دون الانخراط فيه رغم المحاولات التي بذلت من قبل الأصدقاء لجذبي للعمل السياسي المنظم حيث كنت مهتما بتوفير الأمان الاقتصادي للعائلة أولاً.
وفي بداية عام 1977 أعتقل أكبر أخوتي يوسف ثم عام 1978 اعتقلت أختي سحر ومن ثم أخوتي إبراهيم وأكرم كما تم توقيفي لأيام معدودة في فرع الأمن الداخلي كما تم توزيع أشقائي على سجن المزة وكفرسوسة وفرع التحقيق العسكري. كما اعتقل عدد كبير من أصدقائي وهذا ولد ألم كبير لأمي ولي وكما تضخم العبء الاقتصادي والخوف الأمني على العائلة.
في تلك الفترة القاسية كانت خياراتي قد حددت على الأقل من الناحية المهنية حيث اتخذت قرارا أن أكون محاميا لأقدم على الأقل خدمة للمعتقلين السياسيين وأن أقوم بالدفاع عنهم أو على الأقل إيجاد موقع ما لأستطيع التدخل بقضيتهم.
وفعلا وبعد أن وجدت عملا مساعدا دخلت كلية الحقوق بجامعة دمشق وتابعت دراستي عن بعد وأنا أقوم بأعمال عدة لتأمين الدخل المادي لي وللعائلة جميعها.
وفي عام 1986 تحقق الهدف عندما تخرجت من كلية الحقوق والتحقت بالعمل كمحامي متدرب بالإضافة إلى بقائي أعمل أعمالا إضافية لتأمين الدخل.
وفي تلك السنة 1986 أعيد توقيف شقيقي يوسف وشقيقتي سحر ومن ثم شقيقي أكرم للمرة الثانية.
في ذلك الوقت كانت أفكار ومبادئ حقوق الإنسان غير متداولة أو مطروحة في سوريا، وكان الوضع الأمني طاغيا بشكل كبير، وكانت الحدود الدنيا للشروط الإنسانية غير متوفرة لا للمواطن ولا للمعتقل السياسي الذي كان يمكن أن يفقد حياته بكل بساطة دون أن يسأل أحد عن ذلك (وهناك الآلاف)، كما أنه يمكن أن لا يعرف مصير المعتقلين إلا بعد سنوات، وشروط التعذيب كانت شديدة أدت لوفاة كثير من المعتقلين، كما أن الشروط الصحية للسجون كانت متردية بشكل مخيف لا يوفر الشروط الإنسانية الأقل من الدنيا.
كما كان الرعب مستوطنا لدى الجميع وكان من غير الممكن إطلاقا أن تجد من يتكلم عن الإنسان أو حقوقه علنا.
ومع ذلك ومنذ بداية عملي في المحاماة نذرت جهدي لمتابعة قضايا المعتقلين السياسيين، وتقديم ما يمكن من المساعدة، وقد كادت هذه المسألة أن تؤدي بي إلى السجن مرتين، حيث تم توقيفي لأيام في أواخر الثمانينات وكذلك في منتصف التسعينات.
بدايات عملي في مجال حقوق الإنسان بدأت عندما شاركت في الدفاع عن لجان الدفاع عن حقوق الإنسان / أكثم نعيسة ونزار نيوف ورفاقهم / الذين كانوا قد اعتقلوا في أوائل التسعينات وقدموا إلى محكمة أمن الدولة العليا للمحاكمة مع مجموعات من البعث الديمقراطي والحزب الشيوعي المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي / الذين كان أخوتي منهم / وغيرهم.
ولقربي من كل هذه التيارات والأحزاب وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية كفكرة مثالية وانكشاف ما فعلته بالمجتمع الروسي والسوفيتي تعمق إيماني بالإنسان كهدف وغاية لكل الأفكار وليس مطية ووسيلة لهذه الأفكار فأي فكر سياسي يجب أن يكون هدفه خدمة هذا الإنسان والحفاظ على كرامته وحياته وإنسانيته لا أن ينتهك هذه الكرامة والإنسانية لتحقيق شعاراته.
هنا تعززت خطوات استقلالي عن كافة التيارات السياسية وانحيازي للإنسان المطلق تجاه جميع من ينتهك حقوقه من أي جهة كانت.
قطعاً لا يمكن القول إن العمل في مجال حقوق الإنسان هو خارج إطار العمل السياسي بل هو عمل سياسي حقيقي ولكن خارج إطار الأيدلوجيا والأفكار والاتجاهات، أنه عمل يسعى لتأمين البيئة الصالحة والضرورية للنشاط السياسي الحزبي ويقف بالمرصاد لأي تعد من هذا النشاط على حقوق الإنسان
وتابعت نشاطي في الدفاع عن معتقلي الرأي الذين كانوا يتوافدون بكثرة أمام محكمة أمن الدولة العليا في تلك الفترة (أواسط التسعينات) كما واظبت على عملي كمحام أدافع عن الحق والقانون والعدالة أمام المحاكم وأشير إلى الفساد في القضاء وضرورة محاربته.
وفي عام 2001 تنادينا كمجموعة لإنشاء جمعية حقوق إنسان في سوريا وفعلا اجتمعنا كهيئة تأسيسية في أول تموز عام 2001 وأعلنا عن تشكيل جمعية حقوق الإنسان في سوريا.
وانتخبت عضو مجلس إدارة في الجمعية باجتماع الهيئة العامة المنعقد عام 2003.


*قبل محاكمات ناشطي »ربيع دمشق« في عام 2002، لم يكن لك أي نشاط يذكر.. بينما اليوم أنت ماليء الدنيا وشاغل الناس، بتصريحاتك الإعلامية هل لك أن تحدثنا عن ماضيك السياسي إن وجد؟
- أولاً لا أوافق على ما قلته بأنني مالئ الدنيا وشاغل الناس أنا أولا وأخيرا أسعى لنقل قضايا حقوق الإنسان بكل ما أتمكن من وسائل لتكون قضايا عامة ومطروحة على أوسع شريحة ممكنة من الناس، وأتمنى أن أكون قد توصلت لنقل هذه القضايا لتكون مالئة الدنيا وشاغلة الناس وليس أنا، ما تفضلت به حول أنه لم يكن لي نشاط يذكر قبل محاكمات ربيع دمشق باعتقادي أن ذلك غير حقيقي فأنا كما ذكرت سالفاً ومنذ عملي كمحام ناشط بهذا المجال وكنت أحد المحامين الذي تطوعوا للدفاع عن جميع المعتقلين السياسيين أمام محكمة أمن الدولة العليا عندما بدأت محاكماتهم أواسط التسعينات واختلفت مع بعض زملائي حول طريقة الدفاع / قانونية أم سياسية / وكنت / كما يسميني البعض / مشاغبا قانونيا لدى المحكمة وحصلت عدة اشتباكات كلامية بيني وبين هيئة المحكمة في ذلك الوقت، واعترضنا على المحكمة وانسحبنا من الدفاع وقاطعنا المحكمة، أي باختصار كنا نقوم بكل ما نقوم به الآن إن لم يكن أكثر، وأذكر أنني بإحدى مذكرات الدفاع التي قدمتها أمام محكمة أمن الدولة العليا طعنت بشرعية المحكمة وشرعية قانون الطوارئ وشرعية »ثورة« آذار وشرعية السلطة السياسية كلها وعلى هذا استدعيت أمنياً أكثر من مرة وأوقفتني المحكمة لفترة بسيطة.
ولكن الذي اختلف الآن ليس نشاطنا ولكن اليوم هناك إعلام يتابع ما يجري وينقل ما نقوم به، في ذلك الوقت لم يكن يتجرأ أي صحفي أن يتحدث عما يجري في محكمة أمن الدولة. ولم يكن هناك أساسا إلا عدد محدود من مراسلي الوكالات والصحف العربية كانوا لا يغطون إلا النشاطات الرسمية وأذكر في هذا السياق أن وفد من منظمة العفو الدولية زار سوريا آنذاك وزار محكمة أمن الدولة العليا وقابل بعض المعتقلين وقابلنا كمحامين عنهم وقد تحدثنا في ذلك اللقاء عن مختلف وسائل التعذيب وعدم شرعية المحكمة وكل ما نقوله الآن ونشر ذلك حسب ما عرفت في تقرير منظمة العفو الدولية لذلك العام. أما الإعلام فلم يتطرق لذلك أولا لوجود تعتيم إعلامي شديد على ما نقوم به وثانيا لوجود حصار إعلامي مطبق لكل ما ينشر حول سوريا في الصحافة الأجنبية والعربية وبالتالي فإن ما تغير ليس نشاطنا وإنما النشاط الإعلامي وهذا ما يجعل غير المتابعين لعملنا سابقا أن يتساءل أين كنتم سابقا وهذا سؤال مشروع ولكن أستطيع أن أعيد السؤال بصفة أخرى / أين كان الإعلام سابقا /.


*بعض المهتمين والمتابعين للشأن السوري يرون في طريقة نشاطك وعملك، سعياً دؤوباً نحو الشهرة والأضواء.. ما ردك على هذه الاتهامات؟
- واجهني عدد من الأشخاص بمثل هذا السؤال، قد يكون هذا التساؤل مشروعا وقد يكون صحيحا إذا كانت هذه الشهرة وهذه الأضواء ستعطي للشخص امتيازات معنوية أو مادية ولكن في حالتنا وعملنا فإن البروز الإعلامي يسبب أعباء وأثماناً إضافية حيث تزداد المضايقات الأمنية المستورة والمكشوفة، ويتجنبك عدد من الناس أو يبتعدون عنك لوضوح موقفك، ويعاديك البعض الآخر بشكل مكشوف، ويكون ذلك مبررا لتعرضك لكثير من المواجهات المباشرة (على سبيل المثال فإن نقابة المحامين اتخذت بحقي قرارين من أصل ستة قرارات صدرت ضدي بمنعي من مزاولة مهنة المحامية لأنني أتكلم لوسائل الإعلام عن المعتقلين السياسيين وقضاياهم) والأربعة الأخرى لدفاعي عن معتقلي الرأي.
إذا إن هذه التهمة مردودة لأن خسائرها أكثر بكثير من فوائدها أو مرابحها بفهم طارحي السؤال.
كما أن السعي نحو الشهرة يكون مفهوما لدى شخص يسعى لتسليط الأضواء عليه، وكل متابع منصف لنشاطي يكتشف أن نشاطي لا هدف له إلا خدمة قضايا المعتقلين وتسليط الأضواء على معاناتهم.
على كلٍ أرى أن هذا اللقاء الصحفي يتناول الجانب الشخصي من تناوله للقضايا التي ندافع عنها، ولهذا خطر لي مرتين رفض هذا اللقاء، إلا أن استفزاز الأسئلة والتي هي مدار اهتمامات وتشكيك وخلافات مع البعض أملت الرد كي أضع الأمور في نصابها لا من أجلي فقط وإنما أيضاً من أجل عدد كبير من ناشطي حقوق الإنسان ومن أجل عمل صحي وصحيح أيضاً.
وأنا لدي قناعة بأننا كنشطاء حقوق إنسان ( وخاصة في سوريا حيث نعمل في بيئة لم تمنحنا الشرعية القانونية لممارسة عملنا في المجتمع بشكل صحيح ) فإن جزء أساسي من عملنا هو الكشف عن الانتهاكات التي تجري لحقوق الإنسان وتوثيقها وإعلانها للرأي العام، والإعلام هو الوسيلة الأساسية لممارسة هذا العمل.
وبالتالي فإن النشاط الإعلامي هو أهم وسيلة إن لم تكن الوحيدة التي نلجأ إليها لفضح هذه الانتهاكات وهذا لا يخصنا فقط بل يخص كل منظمات حقوق الإنسان في العالم. لنأخذ مثلا منظمة العفو الدولية فإن نشر تقاريرها وبياناتها في وسائل الإعلام هو مصدر تأثيرها وأهميتها.
إن عملنا ينصب على كشف وإدانة الانتهاكات بحق الإنسان مهما كانت الجهة التي تقوم بها، وبغض النظر أو طبيعة الحزب أو الأفكار السياسية المتبناة، وبالتالي فهي خارج إطار المنافسة السياسية بمعناها الشعبي.
باختصار شديد أود القول إن هناك خلطا بين العمل السياسي وبين نشاطات حقوق الإنسان في الأهداف والطريقة ومن هذه القناعة فإنني أحاول أن أستثمر وسائل الإعلام بكل طاقتها لا لهدف انتخابي أو سياسي أو شخصي كما هو حال الأحزاب وإنما لخدمة هذه الأهداف، وهذا أعتبره واجب يجب على الجميع استثماره، ومهمة أساسية من مهام ونشاطات العاملين في مجال حقوق الإنسان.


* البعض يذهب أبعد من ذلك في الاتهام، ويرى باعتبارك عضوا في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان ولست ناطقاً رسمياً باسمها، ويرى في تصريحاتك الدائمة لوسائل الإعلام والتي يعتبرها البعض أحياناً متطرفة وغير مسؤول بأنها مبنية على عقدة كون أنور البني، ابن العائلة قدمت أربع معتقلين سياسيين.. ما رأيك بهذه الاتهامات؟
- قد لا يكون هذا الاتهام خاطئا تماما بالنسبة لطبيعة موقفي من النظام العام، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نسلخ أي إنسان عن ماضيه أو معاناته، ولا يمكن أن أنسى ولو للحظة ما عاناه وتعرض له أخوتي من ظلم وانتهاك كبير وتعذيب وسجن ومعاملة لا إنسانية من نظام لا إنساني، وما سببه هذا لي شخصيا من معاناة، ومن الطبيعي جدا أن هذا يؤثر بشكل كبير على مواقفي ويدفعها لأن تكون قاسية (وليست متطرفة) فنحن هنا لسنا أمام أفكار سياسية حتى نصفها بالتطرف).
ومن الطبيعي أن أحاول الاستفادة من الثمن الباهظ الذي دفعناه في العائلة وأدفع بمواقفي خطوة للأمام لأجنب عوائل أخرى من هذا الوطن ما مرّ بنا وربما لهذا السبب أحاول أن لا أحمّل موقفي الأكثر جرأة للجمعية التي أنتمي إليها وبالتالي أطلق التصريحات باسمي شخصيا (بالمناسبة هذا الموضوع مثار جدل في الجمعية نفسها).
وهذا يعبر عن رغبة بنقل مواقف الأطراف الأخرى خطوة للأمام وليس حجبا لحقها أن تمارس نشاطها أو تعلن مواقفها فبإمكانها أن تفعل ذلك وهي تفعل ذلك دائما.


*في سورية اليوم، أكثر من هيئة ونخبة تهتم بقضايا حقوق الإنسان، والكثرة والتعددية دليل عافية في الكثير من البلدان أما في المشهر السوري فيلاحظ أن الأمر عكس ذلك حيث الاتهام والتشكيل سيد الموقف والذي يصل أحياناً حد الاتهام بالعمالة والارتزاق ما ردك على ذلك؟
- كما قلت في سؤالك إن التعدد هو دليل صحة وعافية في المجتمعات، وصحيح ما ذكرته أن هذا التعدد في سوريا هو دليل غير صحي ليس لوجوده، ولكن طريقة التعامل، أو لسبب هذا التعدد.
في الواقع إن سوريا بحاجة لأضعاف هذا العدد من نشطاء حقوق الإنسان لكثرة الانتهاكات وكثره وتعدد المجالات التي تنتهك فيها حقوق الإنسان والتي تغطي كافة جوانب المجتمع من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لجميع الفئات والمجموعات، ولكن التعدد في سوريا لمنظمات حقوق الإنسان لم يكن ناتجا عن هذا الواقع ولم يأت ليغطي جوانب متعددة أو بمعنى آخر لم يكن اختصاصا ليتكامل العمل فيما بينها لتغطية جميع هذه الانتهاكات بل كان تعددا مرضيا سياسيا.
المشكلة لها شقاق أو سببان، أولها أنه وبسبب القمع الشديد وتدمير بنى المجتمع خلال العقود الماضية، فإن معظم الذي ينشطون بالشأن العام هم من الأشخاص الذين لهم تجربة ومواقف سياسية وهم الذين الآن ينشطون في مجال حقوق الإنسان، وبالتالي فإن اختلاف الخلفيات السياسية أدى إلى خلافات شخصية وفكرية بين الذين يعملون في حقل حقوق الإنسان لهذا اختلفت أساليب وأهداف العمل.
والسبب الثاني، الدعم العالمي لحقوق الإنسان والحماية النسبية التي يتمتع بها الناشطون بهذا المجال من قوى المجتمع في العالم والقبول الشعبي لهذا العمل ولعدم السماح للعمل السياسي العلني في سوريا، كل ذلك دفع بعض الأحزاب إلى تغطية نشاطها السياسي بجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان لتمارس من خلالها نشاطها السياسي وتطلق مواقفها وتعلن آرائها.
وبالتالي فإن أسلوب العمل السياسي التنافسي هو الذي يحكم علاقات هذه الجمعيات بين بعضها وتنعكس على مواقفها تشهيرا أو اتهاما أو تشكيكا وليس تعاونا أو تكاملا.
هذا بالإضافة إلى أن المناخ الأمني الضاغط يدفع بالبعض إلى تغيير الخطاب وتخفيض أو رفع سقف المطالبات حسب استجابة الأشخاص أو الأحزاب للضغط الأمني من جهة أو ضغط المواقف والعوامل السياسية من جهة أخرى فيؤدي إلى اختلافات في سقف المطالبات وطبيعتها وينعكس ذلك مباشرة على اختلاف هذه المنظمات فيما بينها.


* في السياق ذاته، يلاحظ أن غالبية الناشطين في منظمات حقوق الإنسان السورية، ينحدرون من قوى وأحزاب سياسية، لهذا يتداخل في نشاطكم السياسي بالحقوقي وهذا مستغرب ومستهجن.. فكيف السبيل إلى تصحيح هذا الوضع؟
- إن ثقافة حقوق الإنسان في سوريا هي ثقافة حديثة نسبيا لم تتأسس وتتجذر في المجتمع ولم يسمح لها المناخ الأمني بالتطور الصحي السليم وكما قلت سابقا إن معظم الناشطين ينحدرون من مناخات عمل سياسي سابق أو ما زالوا ينتمون لأحزاب سياسية وهذا سينعكس حكما على نشاطهم في مجال حقوق الإنسان.
ولا يمكن برأيي اختراع أفكار وأشخاص سليمين في مجتمع مريض كلنا كأشخاص وأفكار نحمل بشكل أو بآخر جزء من أمراض المجتمع والمناخ غير الصحي الذي ما زال يسيطر عليه، نحاول بكل قوتنا تجاوز هذه الأمراض، ولكن ليس للجميع نفس المناعة والمقاومة ضد هذه الأمراض، وبرأيي لا يمكن أن نشفى نهائيا من هذه الأمراض قبل تهيئة المناخ الصحي لإنشاء بنية سليمة، وبالتالي فإننا نحاول أن نرتقي درجة على طريق الصحة ليرتفع المجتمع درجة ونعود لنسبقه درجة أخرى وهكذا، وهذا عمل وواجب النخبة، ولكن لا يمكن أن أدعي أن أحدا منا خال من الأمراض وإن كانت درجة المرض ودرجة المقاومة مختلفة بين شخص وآخر.


* عدم منح تراخيص رسمية لجماعات حقوق الإنسان السورية أدى ويؤدي إلى الكثير من الاشكالات والارباكات.. كيف تتعامون مع هذا الوضع؟
- إن هذا الوضع غير القانوني لا يؤدي إلى إرباكات وإشكالات في عملنا فقط بل يؤدي إلى مخاطرة كبيرة لجميع الناشطين بهذا المجال، وفي الواقع فإن العمل العام بكل أشكاله في سوريا ممنوع على الترخيص منذ أربعون عاماً، كأحزاب سياسية، وهيئات تجمع مدني، وحقوق الإنسان، ومع ذلك فإن هذا العمل لم يتوقف نهائيا في سوريا خلال الفترة السابقة ويفرض سياسة الأمر الواقع على السلطة للقبول بحدود معينة من مستوى هذا العمل والمشكلة تبدأ عندما تبدأ بملامسة الخطوط الحمر أو تجاوزها بالنسبة للسلطة.
هذا يخلق مخاطرة قد يكون نتائجها السجن لأعوام طويلة ومع ذلك فإن كثيرين مستعدين للقبول بهذا المخاطرة وإن بطرق مختلفة وهذا ما يفسر التنوع والاختلاف بطرق العمل وطرق طرح الأفكار والمواقف وحدود ملامسة أو تجاوز الخطوط الحمر.
أنا شخصيا أعتبر من حقي الطبيعي والمشروع ممارسة هذا النشاط دون النظر لمستوى المخاطرة والثمن الممكن دفعه وأعتبر أن هذا العمل هو عمل قانوني مشروع ملازم للشخصية الإنساني سواء أعطته السلطة المشروعية أم لا.


*الحكومة وحزب البعث يطرحان مشروع التطوير والتحديث على قاعدة الاستقرار استجابة لمتطلبات الوضع الدولي والإقليمي الضاغط والمؤشر وقوى المعارضة وأطراف المجتمع المدني تطرح صيغة مؤتمر للمصالحة الوطنية وثمة قوى في الخارج »الغادري« يراهن على دور أميركي لتغيير الوضع في سوريا، أين تقف من هذه الطروحات وهل تراهن على دور أميركي أو أوروبي؟
- هنا دخلنا المعترك السياسي المباشر. ومع أنني شخصيا وفكريا لدي موقف سياسي إلا أن العمل في مجال حقوق الإنسان مختلف.
أنا ما يهمني من السجالات السياسية وجميع الأفكار والأحزاب السياسية المطروحة أن أحافظ على الإنسان وحقوقه تجاه الجميع وأنا أعتمد ( وليس أراهن ) على أي قوة تدعم حقوق الإنسان وتحترم هذا الإنسان وتحافظ عليه.
وقناعتي أن موضوع حقوق الإنسان هو موضوع عالي فرضته الاتفاقيات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالتالي فإن من واجب الجميع في العالم الدفاع عن حقوق الإنسان ولا يمكن أن أرفض أية مطالب باحترام حقوق الإنسان وأعتقد أن من ساهم ودعم وحقق مبادئ حقوق الإنسان في العالم هو الضغط العالمي الشعبي الذي فرضه على جميع الحكومات وقبل أن أدخل بنقاش حول ما هي الأفكار الأصلح للشعب السوري والمصلحة السورية يجب أن أبحث أولا عن الإنسان القادر على تحديد مصلحته ويعلن خياره ويعمل لهذا الخيار.
ففي الوقت الذي يتحدث به الجميع باسم الشعب السوري أرى الشعب السوري صامتا لا يجرؤ على الكلام ولا يستطيع التعبير عن رأيه بهذه الأفكار والطروحات وغائب تماما عن جميع من يتحدث باسمه.
أنا من واجبي أولاً تحقيق مناخاً ليقول الشعب السوري كلمته ويعلن خياره بشكل حرّ ويختار قواه وممثليه السياسيين ويعلن عن رغبته بالسير بهذا الطريق أو ذاك لتحقيق مصلحته و حتى نتمكن من تحقيق ذلك فأنا مقتنع بأن لكل دول العالم دورا أساسيا وضروريا ولازما للمساعدة على تحقيق هذا الشرط الصحي ليعلن الشعب السوري خياره تجاه هذه الطروحات
وهنا يتجلى الدور الحقيقي منظمات حقوق الإنسان بتهيئة الجو الصحي والإنسان المتمتع بكل حقوقه ليكون فاعلا سياسيا واجتماعيا وثقافيا ويشارك بالتغيير برأيه وقواه بشكل فاعل لا أن يكون مفعولا به ووقودا للأهداف والشعارات.
طبعا لا يمكن لي المساواة أبدا بين العمل السياسي والأهداف السياسية التي تحترم حقوق الإنسان والعمل السياسي والأهداف السياسية التي تعتبر الإنسان مطية ووقودا لها.
وهذا يتجلى موقفي السياسي بدعم الأفكار السياسية والعمل السياسي التي تحترم الإنسان وتحقق له كرامته وتسعى لرفع مستواه الاقتصاد والفكري وأعارض الأفكار السياسية التي تتلطى بالشعارات البراقة مهما كان هدفها لقمع الإنسان وتدميره واستلابه وانتهاك حقوقه.


* خلافاتكم في الجمعية أصبحت متداولة في الشارع، ما هي الأسباب الحقيقية لخلافاتكم مع رئيس الجمعية وأمين سرها، وما هي التأثيرات المستقبلية على وضع الجمعية؟
- إن الخلافات حتى الشخصية في أي مجموعة هي محصلة طبيعية وإيجابية خاصة إذا كان هدف الاختلاف هو تطوير العمل والانتقال به إلى الأمام أو لعمل أكثر جدوى وفاعلية هناك خلافات حقا ولكني لم اسمح لهذه الخلافات أن تؤثر على عمل الجمعية أو على عملي نحاول جميعا كل من رؤيته أن نطرح ما هو أفضل للجمعية وللعمل العام قد نكون مخطئين مرة أو مصيبين مرة وقد ننجح مرة ونفشل مرة الا أننا جميعا نحاول بكل جهدنا تجاوز هذه الخلافات وترسيخ العمل المؤسساتي لا الشخصي وهذا ليس بالأمر السهل في سوريا نتيجة اعتيادنا التاريخي على الدور الشخصي وتمسكنا به من جهة وعدم وجود المناخ الصحي لممارسة دور المؤسسات من جهة أخرى بالإضافة إلى الخلافات السياسية بالأفكار والمبادئ التي تحكم ناشطي حقوق الإنسان كما سبق أن قلت
إن العمل في هذا المجال في سوريا له إشكالاته الشخصية والفكرية وعلينا أن نتأقلم معها ونفهمها ونحاول تجاوزها إن استطعنا.


*كيف تقرأون واقع حقوق الإنسان في وسورية وكيف تستشرف المستقبل القريب؟
- واقع حقوق الإنسان في سوريا ما زال مأساويا وإن شهدنا انفراجات خلال السنوات السابقة من تشكيل جمعيات ومنظمات لحقوق الإنسان وارتفاع أصوات عديدة تفضح الانتهاكات بالاضافة الى اطلاق أعداد كبيرة من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين وأصبح الحديث عن حقوق الإنسان واقعا ملموسا حتى الجهات الرسمية والحكومية والحزبية أصبحت تتناول بحديثها هذا الواقع ولكن بالمقابل كان هناك انتكاسات كبيرة وأليمة فمن اعتقالات ربيع دمشق الى إغلاق جريدة الدومري الى التهديدات والاستدعاءات الأمنية ومنع السفر والمراقبة للنشطاء إلى الاعتقالات الكبيرة بعد أحداث القامشلي واعتقالات الطلبة المحتجين على إلقاء مرسوم تعيين المهندسين إلى اعتقال كتاب وباحثين وصحفيين وتهديد بعضهم الى اعتقال أكثم نعيسة رئيس لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سورياكما صدرت أحكام قاسية عن محكمة أمن الدولة العليا غير الدستورية التي ما زالت تستعمل سلاحا لإرهاب وقمع أصحاب الرأي والنشطاء والسياسيين.
وقمعت عدة اعتصامات سلمية في دمشق وحصلت اعتقالات مؤقتة لعدد كبير من المعتصمين وضرب عدد منهم بقسوة.
وتم التضييق على استخدام الانترنيت والصحافة فمن اعتقال إبراهيم حميدي مراسل الحياة إلى اعتقال ومحاكمة والحكم على مهند قطيش وشقيقه ويحيى الأوس وعبد الرحمن شاغوري لاستعمالهم الانترنيت.
واستخدمت وسائل التعذيب بشدة مما أدى إلى وفاة أكثر من ستة أشخاص تحت التعذيب وثم قلع أظافر الأطفال أكراد اعتقلوا على خفية أحداث القامشلي المؤسفة.
والظروف والمعاملة اللا إنسانية التي يلقاها المعتقلون السياسيون في السجون فمن العزل الانفرادي بزنازين صغيرة وضيقة ووسخة ( ما زال معتقلوا ربيع دمشق الدكتور عارف دليلة والمحامي حبيب عيسى والدكتور وليد البني والمهندس فواز تللو) منذ ثلاث سنوات في زنازين انفرادية ضيقة تفتقر لأبسط الشروط الإنسانية وكذلك المعتقلون الأكراد.
إلى منع الزيارات والصحافة والراديو..إلى استخدام الضرب والشتم والإهانة بحقهم حتى بعد صدور الأحكام.
بالمحصلة إن السلطات السورية ترفض بشدة أي تغيير في طريقة وأسلوب إدارتها للمجتمع بسوريا وما زالت تعتمد على منطق القمع والتخويف وتهم العمالة والتخوين بحق المعارضين والنشطاء والمجتمع كله.
ورغم محاولتها التخفيف من شدة الضغوط لتحسين واقع حقوق الإنسان بسوريا من خلال التعامل بسياسة غض النظر عن بعض النشاطات إلا أنها ترفض تماما تغيير الأرضية القانونية لآلية القمع والسيطرة وترفض إعطاء الشرعية القانونية لهذه النشاطات أو تحسين واقع حقوق الإنسان بسوريا ودائما ترسل الإشارات بأنها قوية وقادرة على قمع أي نشاط لإرهاب المجتمع ولكني أؤمن بأن المستقبل القادم سيحمل تغييرا كبيرا لتحسين واقع حقوق الإنسان ليس في سوريا فقط وإنما في العالم كله.
فحقوق الإنسان الآن أصبحت في أولويات اهتمام الرأي العام العالمي في العالم وازداد حجم ووزن منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني وأصبح لها كلمتها المسموعة في القرار الدولي وأصبحت كل الحكومات بما فيها الدول الكبيرة تحسب حسابا لأي انتهاك لحقوق الإنسان وأجبرت على تبني هذا الموضوع في سياستها الداخلية والدولية.
وأظن أن السلطات السورية ستقاوم بكل ما أوتيت من قوة هذا التغيير وتحاول تفادي هذا الاستحقاق بكل الطرق بالانحناء له مرة واستعمال القمع والشدة مرة أخرى وهذا يمكن أن يزيد من معاناة الشعب من سوريا ويزيد من قيمة الثمن الذي سيدفعه لقاء هذا التغيير كما يمكن أن تحصل انتهاكات وردات فعل شديدة من قبل السلطة السورية لمعرفتها أن فتح هذا الملف سيفتح أبوابا كبيرة ومساءلات تطال عدد كبير من رموزها ورجالها وأن هذه الخطوة ستكون بداية النهاية لها لأن تركيبتها مبنية على القمع وسحق الإنسان وانتهاك كل شيء فيه من أفكاره حتى جسده.
ولكن أؤمن بشدة أن التاريخ لن يعود إلى الوراء وأن القادم هو أجمل وأن الإنسان بسوريا سيستعيد كرامته وحقوقه وإنسانيته في مستقبل أصبح منظورا وأن ما تم تقديمه من تضحيات لم ولن تذهب هباء.