هل يستطيع رئيس دولة انتُخب بالصدفة وبأكثرية ضئيلة ومشكوك فيها أن يحكم العالم لمجرد أن بلاده هي أغنى دولة اقتصادياً وأقواها عسكرياً؟. من الواضح أن الرئيس جورج بوش في المئة يوم الأخيرة من عهده هو غير الرئيس جورج بوش في المئة يوم الأولى. قبل أربع سنوات كان اهتمامه يكاد ينحصر في الأمور الداخلية التالية:
- إجراء إصلاحات اقتصادية تقوم أساساً على مبدأ تخفيض الضرائب.
- إجراء إصلاحات تعليمية من ضمنها إدخال التعليم الديني الإنجيلي تحديداً في المدارس.
- مواجهة الانفلات الليبرالي المتفلت من الضوابط الأخلاقية والدينية بما في ذلك الإجهاض، وزواج المثليين.
أما على الصعيد الخارجي فكانت مواقفه تعكس توجهاً انكماشياً مبالغاً فيه. ومن أبرز تلك المواقف:
- الانسحاب من الالتزامات التي تفرضها معاهدة كيوتو حول البيئة على كافة الدول الصناعية لتخفيض إنتاج ثاني أكسيد الكربون وبالتالي للحد من ارتفاع حرارة الكرة الأرضية.
- الانسحاب من معاهدة الحد من إنتاج الصواريخ المضادة للصواريخ مع الاتحاد الروسي.
- معارضة المعاهدة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب (معاهدة روما) ما لم يستثن الأميركيون منها.
ولكن بعد أن وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 تحول جورج بوش إلى رئيس من نوع آخر. فأعلن الحرب العالمية الثالثة على الإرهاب وقسّم العالم إلى قسمين: مع واشنطن أو ضدها. فكان اجتياح أفغانستان ثم كان اجتياح العراق. والآن يوجه التهديدات المباشرة إلى إيران وسوريا والسودان.
وفي إطار هذا التحول من الانكفاء على الداخل إلى الحرب على الخارج مسخ منظمة الأمم المتحدة وتجاوزها وانتهك ميثاقها وشق حلف شمال الأطلسي وكاد يطيح به. ونصّب نفسه مبعوثاً إلهياً وحدد مهمته الإلهية بتحرير العالم من الدول المارقة وطرح معادلة جديدة في العلاقات الدولية للتعامل مع الدول المعترضة تقوم على قاعدة استبعاد التفاوض والتهديد بالضرب... أو حتى بالضرب مباشرة!.
كان طبيعياً أن ترتفع من داخل المجتمع الأميركي أصوات تعارض هذه السياسة الاستعدائية بكل ما فيها من عشوائية وتندد بها. ولكن الرئيس بوش استطاع أن يفرض حظراً على هذه الأصوات بالإعلان اليومي المتكرر والممل بأن الولايات المتحدة في حالة حرب ضد الإرهاب. وأنه في هذه الحالة لا يعلو صوت فوق صوت الإدارة التي تشن هذه الحرب. وقد سلّح نفسه بقانون "مكارثي" جديد أطلق عليه اسم "القانون الوطني" الذي يجرد المجتمع الأميركي من أهم وأنبل وأغلى ما يتمتع به وهو الحرية. وبموجب هذا القانون صرف من العمل أساتذة جامعات واستقال موظفون كباراً وكمّمت أفواه إعلاميين وكتّاب وأعيد فتح ملف التمييز العنصري والديني على أوسع نطاق وأشده بشاعة، فأصبح كل مواطن له ملامح شرقية أو يتردد على المساجد متهماً بل ومداناً حتى يثبت العكس. وغالباً ما يحرم حتى من حق الدفاع عن النفس لإثبات العكس.
لقد تمرّدت المؤسسات الدينية الأميركية بكنائسها المختلفة على هذه المكارثية ورفعت شعارات تندد بلاأخلاقية الحرب على العراق، وبالعقاب الجماعي الذي يتعرض له مواطنون أميركيون أو مقيمون آمنون في الولايات المتحدة. وحتى شعوب صديقة تحفظ للشعب الأميركي كل التقدير والاحترام.
وبعد المذكرات الانتقادية والاحتجاجية التي رفعتها إلى الرئيس بوش مجموعات من الدبلوماسيين والعسكريين والسياسيين الذين خدموا في الإدارات الأميركية المختلفة السابقة، دوت في أرجاء البيت الأبيض وفي الكونغرس أصداء صرخة جديدة ضد سياسة الرئيس الأميركي صدرت هذه المرة عن 650 عالماً أكاديمياً وسياسياً وباحثاً ومفكراً من 150 جامعة أميركية في الولايات المتحدة والعالم. وقد نشر هؤلاء مذكرة بذلك في الأسبوع الماضي أكدت على أن الحرب على العراق لم يعد لها أي تبرير أخلاقي خاصة بعد أن قُتل أكثر من ألف جندي أميركي وعدد غير معروف من العراقيين (يتجاوز عدد الضحايا العراقيين حسب إحصاءات دولية منذ بدء الحرب 38 ألف ضحية).
ورداً على مقولة الرئيس بوش بأن العالم اليوم هو أكثر أمناً من السابق، قالت المذكرة: لقد تمحورت السياسة الأميركية الحالية حول الحرب في العراق وهي أشد السياسات تضليلاً منذ فترة حرب فيتنام. وهي سياسة تضرّ بقضية النضال ضد الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين. وأحد نتائج ذلك هو التشويه العظيم الذي تم في النقاش العام حول سياسة الأمن القومي والسياسة الخارجية حيث حدث تركيز على التكهن بدلاً من التركيز على الحقائق. والتركيز على الأوهام بدلاً من الحسابات. وعلى إرضاء جوانب معنوية، بدلاً من اعتبارات المصالح القومية... وإذا تحول خطر الحرب الأهلية في العراق إلى حقيقة فإن حال العراقيين العاديين سيكون أسوأ بكثير منه عندما كان صدام حسين في الحكم.
تعامل الرئيس بوش وإدارته مع هذه الاعتراضات بكثير من الاستخفاف والتجاهل بل إن أصحابها تعرّضوا للتنديد والتجريح. فلم يغيّر الرئيس بوش من سياسته ولم يتراجع عن أخطائه وهو الذي يقول: إن من يحكم العالم لا يخطئ... ولا يجوز له أساساً أن يعترف بأنه يخطئ. وفي الواقع كيف يمكن لمن يدعي أنه يقوم بمهمة إلهية أن يخطئ أو أن يعترف بأنه يخطئ؟.
لقد زعم الرئيس بوش أن النظام العراقي السابق كان يملك أسلحة دمار شامل يهدد بها أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها. ولكن تبين أن هذه الأسلحة ليست موجودة. وأن النظام السابق لم يكن قادراً على إنتاجها. وزعم الرئيس بوش أن النظام العراقي السابق كان على علاقة بالقاعدة وعلى اتصال بزعيمها أسامة بن لادن. ولكن تبين أن هذا الزعم كان كاذباً ومختلَقاً. وزعم أن النظام العراقي السابق كان يعمل على إنتاج سلاح نووي وأنه حاول شراء اليورانيوم الخام من النيجر. ولكن تبين أن كل هذه القصة كانت مختلقة من الأساس. رغم ذلك لم يعتذر الرئيس بوش عن هذه الأخطاء. بل إنه لم يعترف بأي منها وأصرّ على أن الحرب على العراق كانت ضرورية لأن العالم الآن بدون صدام حسين أصبح أفضل مما كان عليه وأكثر أمناً!.
فهل إن الدليل على ذلك هو ما يجري في العراق من سفك يومي للدماء ومن تقتيل عشوائي للأبرياء سواء على يد القوات الأميركية المذعورة أو على يد الإرهابيين الذين لا يقتلون المدنيين الأبرياء فقط ولكنهم يسيئون بجرائمهم إلى العراق وإلى العرب وإلى الإسلام على حد سواء؟!. ولعل الأمر الوحيد الذي تحدث عنه الرئيس بوش بصدق يتمثل في قوله أثناء المناظرة التلفزيونية مع منافسه جون كيري: إن الحرب على العراق حققت الأمن لإسرائيل.
لقد أطلق الرئيس بوش يد حليفه الاستراتيجي الجنرال شارون ليرتكب ما يشاء من المجازر الجماعية التي تصل إلى حد الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. حتى إذا ضج العالم بهذه الجرائم وحاول التنديد بها تتصدى له الإدارة الأميركية بالفيتو في مجلس الأمن الدولي. ولقد اعترف رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي السابق سكوكروفت في دراسة له حول سياسة الرئيس بوش بأن الجنرال شارون استطاع أن يجعل من الرئيس الأميركي "خاتماً في إصبعه". وإذا كان لنا أن نضيف شيئاً إلى هذا الوصف فهو أن هذا الخاتم كان - ولا يزال - بمثابة الخاتم السحري الذي يستحضر المارد الأميركي عسكرياً وسياسياً ومالياً في كل وقت يحتاج فيه الجنرال الإسرائيلي إلى دعم لارتكاب جريمة جماعية أو إلى تغطية لجريمة يرتكبها.
ومن هنا السؤال: أي مصير ينتظرنا وينتظر العالم كله إذا جدد الشعب الأميركي - تحت هاجس الحرب على الإرهاب - للرئيس بوش أربع سنوات جديدة؟!.














التعليقات