جليل العطية: لطه حسين رصيد جيد في قلوب وعقول المثقفين والمبدعين العرب عموما، وفي قلوب التونسيين خاصة ، فقد زار تونس مرتين، لقي منها ما يليق به من حفاوة واكرام، لهذا لم نستغرب ان ينهض «بيت الحكمة» ـ وهو بمستوى المجمع العلمي ـ بتكريمه، وعقدت له ندوة علمية بمناسبة ذكراه المئوية في يناير(كانون الثاني) 1990، وأصدر بيت الحكمة البحوث التي قدمت ـ وعددها أحد عشر بحثاً ـ في كتاب سيظل منهلا للدارسين. ونشر «بيت الحكمة» «طه حسين مؤرخاً» للدكتور عمر مقداد الجهني، هذا إلى جانب دراسات أخرى اختار أصحابها جوانب من أدب وفكر طه حسين، وبعضها كانت «اكاديمية». فلقد نال سعيد اللاوي وزهرة كحولي شهادة الكفاءة لقاء دراسة «على هامش السيرة»، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
و«طه حسين وابن خلدون» لحسن أحمد جغام ـ (ناشر وأديب) هو الثاني عشر في سلسلة مكتبة طه حسين ـ وهي خاصة بأدب «صاحب الأيام» وبما يكتب عنه.
الكتاب صدر عن دار المعارف للطباعة والنشر وسبق لجغام ان أصدر كتابا ضمن السلسلة عنوانه: طه حسين: قضايا ومواقف.
ويرى جغام أن أبا القاسم كرو حاول مسخ كتاب طه حسين (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية).
الواقع أن «طه حسين» وجد عند «ابن خلدون» فهماً عميقاً للمراحل التاريخية وتنوعها وتباينها، فهما لمعنى تطوّر المجتمعات، متقدماً على عصره، حتى انه عدّه المؤسس الحقيقي للمفهوم الفلسفي للتاريخ الاجتماعي. اضافة إلى السبق الذي سجّله لطه حسين، إذ برسالته هذه، يكون أول من قدّم دراسة علمية وتحليلية وافية في العصر الحديث عن ابن خلدون. ويضيف جغام في فصل آخر من كتابه معترفاً:
«إن كتاب كرو (العرب وابن خلدون) ـ على ضآلة حجمه ـ يعد واحدا من أخطر الكتب التي ظهرت في المكتبة التونسية. وقد ظهر في فترة كان المواطن التونسي فيها متعطشا لأي انتاج وطني، فساهم كتاب «كرو» في هدم الفكر التنويري لطه حسين، وقد ساعدت ـ ايضا ـ ظروف تاريخ ظهوره على اخفاء أهدافه، إذ كان جميع المثقفين التونسيين عام 1956 منشغلين بالقضية الوطنية وأحداثها الساخنة. كان «كرو» أول كاتب تونسي يقول في عميد الأدب العربي «ان كل ما قاله كان باطلا، ومحض افتراء، وسوء فهم»!
وفي الباب الثالث ينكر جغام على «كرو» استخدام كلمة «تأليف» فيقول: وكتاب «طه حسين والمغرب العربي» الذي جاء على غلافه «تأليف» يتكون مما يلي:
56 صفحة: مقالات ومحاضرات لطه حسين.
144 صفحة: مقالات عن طه حسين لكتّاب غير كرو.
60 صفحة: فهارس وحواشٍ وصفحات بيض من اعداد كرو.
30 صفحة: صور فوتوغرافية اكثرها لا علاقة له بالموضوع.
المجموع: 260 صفحة.
وهكذا لم يتبق من عدد الصفحات «364» إلاّ 74 صفحة. وهذه الصفحات القليلة، وقع استثمار اكثرها ايضا في كتب اخرى، اي نشرت اكثر من مرة في مناسبات عديدة! نعود إلى كتاب «طه حسين» فنقول: إن عميد الأدب العربي لم يكن مهتما بسيرة «ابن خلدون» الشخصية إلاّ إذا بدا له سلوك معين يمكن ان يؤثر على فكره وتراثه. إن غرض «طه حسين» لم يكن البحث عن نقط الضعف في حياة «ابن خلدون».
فطه حسين لم يتعرض لبعض المسائل الشخصية في حياة «ابن خلدون» بالنقد إلا في الفصل الأول، وهو الفصل الوحيد، في حين أن كتاب «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» يشتمل على عشرة فصول عالج طه حسين في جميعها فكر ابن خلدون وفلسفته، ومنهجه التاريخي، وفهمه للتاريخ وسبقه في علم الاجتماع كظاهرة ايجابية في تاريخ الآداب العربية، وفي تاريخ الفكر الانساني كشخصية عظيمة، وكعبقرية فذة، في حين أن كل ما عابه «كرو» على طه حسين من آراء استمدها من كتاب «ساطع الحصري»! يقول «جغام» وهو يناقش آراء كرو في الحرب والبدو والحضر والشعوبية: «نفهم من كلام «كرو» هذا انه أصبح يكذّب ابن خلدون.. نجده ينقلب ضده إلى أقصى الطرف الآخر، وأصبح يصف موقف «ابن خلدون» بأكثر تطرفاً مما قال طه حسين باحتراز.. بل أصبح يقول ما لم يقله الكتّاب المصريون الذين تهجم عليهم بقوله «إن جميع المؤرخين الذين اعتمدوا ابن خلدون وزادوا عليه من أجانب ومسلمين قد اخطأوا هم ايضاً، وان بينهم مضللين متعمدين» ويعلّل «جغام» هذا التحول بانه لم يقرأ «مقدمة» ابن خلدون «حين أصدر كتابه (العرب وابن خلدون) «1956» ولم يكن بين يديه سوى مرجع واحد، هو «دراسات في مقدمة ابن خلدون» لساطع الحصري.
يقول «كرو» في الفصل الأخير من كتابه: «ان علاقة تونس بطه حسين كانت وستبقى علاقة فريدة ومتميزة، ليس لها شبيه أو مثيل فيما بينه وبين الاقطار العربية الأخرى من علاقات وصلات».
ويغالي إذ يزعم أن تونس هي الموجه لشخصيته وطموحه منذ كان طالباً بالأزهر عام 1909م.
ومن هنا.. بدأت علاقة تونس بطه حسين، وهو طالب في الأزهر، اي من خلال علاقته بعبد العزيز جاويش «ت 1929م».
والواقع أن «جاويش»، وان كان أحد أجداده تونسي الأصل، إلاّ أنه لم يكتب عن تونس، ولم يزرها قط.. وبالتالي لا يربطه بها أدنى رابط.. لكن «كرو» يحاول أن يربط بين طه حسين وجاويش وتونس.
يقول كرو «لولا نصحه للفتى طه ـ أي جاويش ـ لما تعلم الفرنسية، ولما سافر إلى فرنسا، ولما أصبح لطه حسين هذه المكانة العالمية التي لم يصل إليها قطّ أي أديب عربي».
وبالتالي يصل إلى القول بأن جاويش ـ التونسي الأصل، هو صاحب الفضل في تكوين فكر طه حسين.. الخ.
وصفوة الكلام: أن أبا القاسم نسي أو تناسى أن البلد العربي الذي قضى فيه طه حسين بعض عطله، هو لبنان الذي أهداه أحد أعماله، روايته «شجرة البؤس». ثم المغرب ثم تونس.