بطبع الصحافي الذي اشتاق إلى مهنته السابقة، حرصت صباح اليوم التالي من إعلان نتائج الانتخابات الأميركية أن أقارن مانشتات الصحف في وطني والتي في العادة تحاول أن تختصر «الصورة الكبيرة» في كلمات قليلة, وذلك في محاولة مني لإدراك اتجاهات الرأي العام هناك.
أتوقع أنها كانت مهمة صعبة لرؤساء ومدراء التحرير وهم يبحثون عن العنوان المناسب، ففوز جورج بوش وبهذا الزخم جاء مفاجئا، وللجميع موقف سياسي من الرجل، فهو لم يكن حياديا بل كان ولا يزال مثيرا للجدل ومستفزا, ولعل ذلك ما جعل كثيرا من الصحف تلجأ إلى الحل السهل وهو الخروج بمانشيت مباشر يقول «فوز بوش بولاية جديدة» ولكن الشرق الأوسط خرجت بعنوان ذكي ومثير واعتقد انه الأفضل «العالم يكيف نفسه مع 4 سنوات أخرى لبوش».
نعم، هذا هو المهم، فعلى العالم ونحن جزء منه لا نملك إلا أن نكيف أنفسنا وأوضاعنا مع الوضع الجديد القديم، والذي عبرت عنه بوضوح صحيفة الاندبيندنت البريطانية الكارهة لبوش واختصرت موقفها وموقف كثيرين في مانشتها عندما أعلنت إنها «أربعة أعوام أخرى» وبين هذه الكلمات الثلاث نشرت صوراً لمعتقلي غوانتانامو في قفصهم، وطفلة عراقية باكية يحملها جندي أميركي مدججا بالسلاح، ومعتقل عراقي يقف كالشبح في سجن أبو غريب، وأحد أنصار بوش يحمل لافتة تقول «أخيرا مسيحي يقاتل ضد الشر، شكرا أيها الرئيس بوش» ثم صورة لأنبوب نفط يمتد عبر ثلوج ألاسكا أو روسيا والمعنى واحد،وأخيرا صورة للرئيس المنتصر وهو يبتسم وكأنه قيصر جديد.
الصورة ليست سيئة تماما ويمكن أن تخرج المملكة من المرحلة المقبلة بمكاسب، وليس سرا أن السعوديين أو على الأقل الرسميين منهم والمنشغلين بوضع السياسات العامة للدولة كانوا يفضلون بوش على منافسه السناتور جون كيري، ولكنهم حرصوا وبشكل حازم على النأي عن مكايدات معركة الانتخابات، خاصة وأن الديموقراطيين زجوا بالمملكة بل حتى بالأسرة السعودية المالكة فيها، وقاد ذلك المخرج مايكل مور في فيلمه الشهير فهرنهايت 9/11 وما رافق ذلك من كتب ومقالات وانعكس في تصريحات غير مسبوقة من قبل مرشح رئيسي في الانتخابات، ويحمد للرئيس بوش انه لم ينسق إلى ذلك، و أبدى مسؤولية تذكر له,
ومثلما نأى المسؤول السعودي بنفسه عن التورط في معركة الانتخابات كان رد فعله معتدلا بعد إعلان النتائج، إذ لا يوجد ما يحتفي به فهناك من أسباب القلق والتوجس ما يكفي، أبرزها ما «فتته» إدارة بوش بيديها في العراق وتحصد نتائجها اليوم مع الخوف والحذر في أن نتورط جميعا في هذه الورطة، بل إن فيما وقع في العراق عبرة ونموذج لما يمكن أن تقترفه يدا المحافظين الجدد دون أن يعترفوا بخطأ أو يعتذروا، وسوف يلقي هؤلاء بظلهم على العلاقات السعودية الأميركية في الأربع سنوات المقبلة مثلما فعلوا في السابقة، ولعله قد حان الوقت أن نطور علاقتنا بهم مثلما طورناها مع من سبقهم من سياسيين تقليديين، فهم لن يختفوا ولن يتخلوا عن فرصتهم التاريخية ويمكن أن نتعاون معهم فيما نتفق عليه, انهم يريدون رفع قيم الأخلاق والمحافظة في المجتمعات، ونحن في السعودية مجتمع محافظ, يريدون نشر الحرية والديموقراطية ومرة أخرى لا ينبغي أن نختلف هنا فلدينا مشروعنا الإصلاحي ورغبة مشتركة بين القيادة والشعب في إحياء التعددية والقبول بها، ونشر قيم التسامح والانفتاح على العالم وتعزيز المشاركة الشعبية، يريدون اقتصاد السوق وإطلاق حرية التجارة ونحن من اشد المؤمنين بذلك منذ عهد سلفنا الصالح ورحلة الشتاء والصيف، أما الدور الأميركي القيادي في العالم فهذه مسألة فرضتها الصواريخ والشركات العابرة للقارات وقبلت بها البرجماتية السعودية ولكنها رفضت الهيمنة والتوجيهات المباشرة وتجلى ذلك في الموقف السعودي عندما أعلنت الولايات المتحدة منفردة مبادرة الشراكة للشرق الأوسط الكبير، فعبرت المملكة عن رفضها لهذا الأسلوب وشجعت أميركا على أن تكون شريكة متفاعلة، فغيرت بالفعل أسلوبها وأخذت تتشاور اكثر مع حكومات المنطقة ومع ما هو موجود من مؤسسات المجتمع المدني من خلال سلسة من المؤتمرات عقدتها ولا تزال حول مختلف قضايا التنمية,وإذا كانت الولايات المتحدة مستعدة أن تدفع وتجعل بعضا من مؤسساتها في خدمة عملية الإصلاح والتنمية في عالمنا فلم لا نقبل ذلك ؟
ولكن هناك مشكلة ثقة ستبقى بيننا وبين المحافظين الجدد، فعلاقتهم الحميمة بإسرائيل تجعل شكوننا مشروعة حول نواياهم الحقيقية، فكيف تستقيم الدعوة مع نهضة العالم العربي ونشر الديموقراطية ومصلحة حليفتهم الإستراتيجية ، فكلما ازداد المواطن العربي حرية ارتفع صوته ضد الاحتلال، والاحتلال هو إسرائيل التي تمارسه والولايات المتحدة التي تؤيده, كما أن فعلهم في العراق مثير للقلق والشك فإذا كانوا جهلة يفتقرون للحكمة والسياسة ما جعلهم يرتكبون الخطأ تلو الآخر بالرغم مما تحت أيديهم من قدرات وخبرات فتلك مصيبة، وأما إذا كانت الأخطاء متعمدة على أساس انه لا يعقل أن يرتكب عاقل تلك السلسة من الأخطاء فتلك مصيبة اكبر، ويعزز ذلك مقولة أصحاب نظريات المؤامرة القائلين أن هدفهم الحقيقي هو زرع الفوضى في المنطقة، ان كان الأمر كذلك فلقد نجحوا نجاحا باهرا.
كما أن الإصلاح طريق ذو اتجاهين، فلنا مطالبنا نحن أيضا بإصلاح في الولايات المتحدة، لا تهمنا مناهجهم التعليمية أو نظامهم القضائي، وإنما ما يؤثر في علاقتنا المشتركة ومصالحنا، فمن حقنا أن نلومهم على الخطاب المزدوج لديهم فبينما يؤكد لنا الرئيس بوش والعقلاء من حوله كوزير الخارجية باول عمق العلاقة والشراكة بين البلدين يضربنا تحت الحزام وزراء الخزانة والعدل والأمن القومي بتسريب تهم ملفقة ضد شخصيات سعودية، وتضييق على الطلبة والزوار الأمر الذي انعكس سلبا على عدد الطلبة السعوديين في الجامعات الأميركية ما سيؤثر على دورة التعليم في جامعاتنا، وعلى الاستثمارات المتبادلة بين البلدين ما يضعف اقتصادنا وشراكتنا مع دول العالم كله وليس الولايات المتحدة وحدها.
لنفتح حوار الند للند معهم، واحسبهم لا ينكرون أن المملكة العربية السعودية لاعب أساسي في المنطقة وشريك ما من التعامل معه بد مثلما نعلم أن ما من بد من التعامل معهم، وسوف نكون افضل وأقوى بعد أربعة أعوام بإذن الله.
- آخر تحديث :














التعليقات