محمد ناصر العطوان

عندما زرت شارع المتنبي في بغداد... واستمعت للمكان، وأدركت أنه يمكن للمدن أن تُرمم ذاكرتها، لا أحجارها فقط!

في بغداد، الحجر يتكلم... هذا ليس مجازاً شعرياً، بل حقيقة إستراتيجية تدركها فور أن تطأ قدماك «شارع المتنبي» بحلته الجديدة.

زرتُ هذا الشريان الثقافي، ولم تكن زيارة عابرة، بل كانت محاولة لفك شفرة كيف تعود المدن للحياة؟ في شارع المتنبي أنت في مسرح مفتوح، يصادفك «ديوان الحكومة القديم» والأقواس العباسية، لاحظتُ شيئاً ذكياً في «إدارة المكان»... الإضاءة المسلطة على الطابوق الأصفر (الآجر البغدادي) لم تكن لغرض الرؤية، بل لغرض «الدراما».

لقد تحول الشارع ليلاً إلى «مسرح مفتوح»... الأعمدة البيضاء التي تحمل الشرفات الخشبية (الشناشيل) في الطابق العلوي تقول بوضوح: «نحن هنا... ما زلنا واقفين».

الشناشيل ليست مجرد ديكور؛ هي عيون المدينة التي تطل بستر وحياء على المارة، تمزج بين «الخصوصية» في الداخل و«الحياة» في الخارج... التجديد لم يمسح التجاعيد التاريخية للمكان، بل جملها، وهذا قمة الذكاء في «الهوية البصرية».

استوقفني طويلاً محل «مرطبات الحاج زبالة»... والذي لم يكن مجرد محل عصير زبيب؛ هذا «متحف أنثروبولوجي» حي... رأيت الجدران مغطاة بصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود... فيها الملوك، الزعماء، الجنرالات، الشعراء، والصعاليك... كلهم متجاورون على الجدار نفسه! وكلهم يشربون من عصير زبيب الحاج «زبالة»!

هنا تكمن «المؤامرة الثقافية» الجميلة لبغداد... الزبيب يساوي بين الجميع!

على هذا الجدار، تسقط الرتب، وتذوب الخلافات السياسية، ويبقى «الإنسان» الذي مر من هنا وشرب العصير. إنها «ديمقراطية الذاكرة» التي لا تجدها في كتب التاريخ الرسمية. الحاج زبالة يبيع «التاريخ السائل» في أكواب، ويقول لنا: الكل يرحل، ويبقى طعم بغداد.

كنت حريصاً على التقاط صور لقباب ومراقد (مثل مرقد الشيخ الكليني) تتداخل مع المكتبات والمقاهي... هذه إشارة عميقة جداً... الثقافة في بغداد ليست «علمانية» بمعنى الانفصال عن الروح، وليست «دينية» بمعنى الانغلاق.

القبة الزرقاء المزخرفة التي تعانق سماء الليل تقول إن «المعرفة والروح» صنوان لا يفترقان في تكوين العقل العراقي. المكان حسب اعتقاد مرتاديه «مبارك» بالأولياء، و«محروس» بالكتب.

الأرضيات اللامعة، الترتيب المدهش، والناس الذين يمشون بانتشاء كلها رسائل «Soft Power» (قوة ناعمة). بغداد تقول للعالم: انتهى وقت الدمار، وحان وقت «الأناقة»... تجديد شارع المتنبي ليس مشروع مقاولات؛ هو «مشروع تعافي نفسي» لأمة كاملة.

خرجتُ من المتنبي وأنا أدرك أن ما رأيته لم يكن مجرد شارع تم طلاؤه بعمق 2 سم على الواجهات... لقد رأيت مدينة تنفض الغبار عن «بدلتها الرسمية» لتعود سيدة للمدن.

بغداد في المتنبي لا تقرأ الكتب فقط، بغداد تكتب الآن فصلاً جديداً من الحكاية، حبرها الضوء، وورقها «الآجر» الأصفر، وشاهدها «عصير الزبيب» الذي هزم كل المرارات.

وكل حجرٍ لا يُبنى باسم الله... هش... وكل ترميم لا يُراد به وجه الله... يضمحل.