صبحة الراشدي
لم يكن الصعود خياراً واضحاً منذُ البداية. كُنت أعتلي جبالاً لا أعرفها، بدت لي كأنها سلالم لا أعلم إلى أين تأخذني، تسلقتها وهي تنقلني من مُنعطف إلى آخر، ومن علوٍّ إلى أعلى، دون وعدٍ صريح بالوصول، لم يكن الطريق مستقيماً، ولا القمم ظاهرة، لكن شيئاً في داخلي كان يدفعني إلى الاستمرار، بلغتُ قمّةً ظننتها الأخيرة، أسندتُ ظهري إلى جانبها، ووقفتُ على قدميّ المرتعشتين، كأنني لم أقف عليهما منذ زمن. تنفست الصعداء، ورفعتُ رأسي، لأكتشف أنني ما زلتُ في المقدّمة، وأن الطريق لم ينتهِ بعد. كانت الشمس تداعب عينيّ، لا كمكافأة، لا بل كإشارة خفيّة: انطلق.
تابعتُ الصعود، نفساً بعد نفس، خطوةً بعد خطوة. تقدمتُ ببطء، وكادت أنفاسي تنقطع، حتى توقفت في زاويةٍ جانبية لأستعيد توازني. جلستُ قرب حجرٍ مستدير، وأخرجتُ آخر ما تبقى من الماء من الحقيبة خلف ظهري، وأنا أتنفس بعمق، رفعتُ رأسي لأري كم تبقّى من القمّة، لكن الضباب قد التف حولها، فأخفى ملامحها تماماً. حين التفتُ إلى يميني، لم أرَ من يسبقني، لكنني رأيتُ من لم يتوقفوا. حضورهم الصامت شدّني أكثر من أي سباق. ومن بين تلك الحجارة، رأيت من تعثّر وبقي خائفاً في مكانه. مددتُ له يدي وسحبته معي. جلس إلى جانبي، أعطيته الماء الذي في يدي، وقلت له بنبرة حازمة:
عندها أدركتُ أننا لم نكن وحدنا على الجبل، ولم نكن أسرعهم. كنّا نصعد دون مزاحمة، كلٌّ يعرف حدوده، ويفرح حين يتقّدم الآخر، كأن القمّة تتّسع للجميع. لم يكن التنافس هنا إقصاءً، بل دافعاً نبيلاً، لا على حساب بعضنا، ربطنا سِلالنا بحبلٍ واحد، يجمعنا في مصيرٍ واحد، لنحمي بعضنا ونشدّ أزر بعضنا. وبثقةٍ بالله عزّ وجل، ومع يد الجماعة، بدأنا نصعد من جديد، بأمانٍ ويقين. لم يعد الصعود عبئاً كما كان، بل صار أوضح وأخفّ، لأن الحمل لم يعد فردياً. وحين انقشع الضباب أخيراً، واتّضحت القمّة، اكتشفنا الحقيقة كاملة: لم يكن ما أمامنا جبل... بل صرح لا يتحدّى السماء، بل يصادقها. لا يُعلن العلوّ، بل يبرّر كيف يمكن للإنسان أن يرفع نفسه دون أن ينسى من حوله.
كنتُ هناك... على قمّة أعلى برجٍ في العالم، ولم أشعر أنني امتلكت القمة، بل أنني صرتُ أهدأ وأخف وأكثر انتباهاً لمن حولي. أدركت أن العلوّ لا يمنحك حقّ النظر من فوق، بل مسؤولية أن ترى أبعد، وأن القمم، مهما علت، تُبنى... ولا تُمتلك.














التعليقات