عندما تحدثت السيدة سهى الطويل عرفات عن وراثة الزعيم الفلسطيني وهو حي، لم توجه اتهاماً ينال من كرامة اعضاء القيادة الفلسطينية، في السلطة ومنظمة التحرير، وتاريخهم وعلاقاتهم بالرئيس فحسب، وإنما اختزلت القضية الفلسطينية، تاريخاً وتعقيدات، بمماحكة ذات طابع عائلي في احسن الاحوال. وتحول الاتهام خطأ كبيراً في التقدير، لتزامنه مع كثرة الحديث عن كيفية ضمان انتقال السلطة الفلسطينية، وما يمكن ان يتخلل ذلك من توترات، وربما صدامات، بين الاطراف الفلسطينية، في اطار صراع مفترض على السلطة. كما ان «توزيع الارث» يقتضي الاخذ في الاعتبار لمعطيات فلسطينية واسرائيلية واقليمية ودولية، ما دام اهم عنصر في هذا الارث الاستمرار في البحث عن وطن ودولة للفلسطينيين.

اظهر المسؤولون، في السلطة والمنظمة والفصائل، خلال الايام الماضية ومنذ ان نُقل عرفات الى باريس، قدرة على التفاهم جعلت الوضع يحافظ على الحد المطلوب من الهدوء والاستقرار. واذا كان من المبكر التكهن بوجهة المداولات داخل القيادة ومع الفصائل، خصوصا في قطاع غزة، بدا ان ثمة التزاماً بأن يبقى أي تعارض او خلاف في وجهات النظر ضمن اطر الحوار والمعالجة السلمية، حتى الآن على الاقل. لكن ذلك لا ينفي احتمال الصدام السياسي، خصوصاً في شأن مسألتي القيادة الموحدة مع الفصائل ومصير العملية السلمية واسسها. ومن هنا تبدو الضرورة القصوى، لدى السلطة ومنظمة التحرير وخصوصاً الفصائل، ان يكون التحرك المقبل متطابقا مع الخطة التي توفر للفلسطينيين حضوراً في أي مفاوضات تلتزم «خريطة الطريق» التي لا تزال حتى الآن المدخل السياسي الوحيد الى الدولة الفلسطينية. ولعل أكثر ما قد يسيء الى الوحدة الفلسطينية، وتالياً لاحتمالات قيام الدولة، هو الاستمرار في تجاهل المعطيات الميدانية والتمسك بالنهج الكلي أو لا شيء.

يفترض هذا التعامل الفلسطيني الواقعي المطلوب ان تقابله خطوات اسرائيلية ملموسة، خصوصاً أن تل ابيب تحاول التأكيد بكل السبل استعدادها للتعامل مع قيادة جديدة. ولعل اهم هذه الخطوات، وإن كان الرهان على التنفيذ يبقى ضعيفا جدا، هو التعامل مع عرفات كزعيم لشعبه وان تكريمه يظل اغلى اماني هذا الشعب، خصوصاً لجهة اختيار المكان الذي سيحتضن رفاته. ويتزامن ذلك مع اعلان اطلاق الاسرى الفلسطينيين الذين تم الاتفاق في شأنهم مع حكومة «ابو مازن»، ووقف كل عمليات التوغل العسكرية والانسحاب من مناطق السلطة. وكذلك اعلان وقف خطة الانسحاب الاحادي من غزة، وتنسيق اي اخلاء مع السلطة. أي أن على اسرائيل التراجع عن كل الخطوات التي اتخذتها لمواجهة الانتفاضة، بما في ذلك رسم جدار الفصل.

شعار القرار الوطني المستقل الذي كثيراً ما كرره عرفات عنى دائماً رفض ربط المصلحة الفلسطينية، كما كان يراها، بحاجات أي نظام عربي. ويبدو ان مثل هذا الأمر اكثر الحاحاً اليوم، بعدما بات الاغراء كبيراً في نقل النفوذ الى الداخل الفلسطيني. بعض الفصائل ارتبطت صراحة في السابق بأنظمة عربية وقاتل باسمها، لكن تأثيره على الوضع الفلسطيني بقي في حدود الالهاء وليس التغيير، نظراً إلى هامشيته في الساحة. لكن الفصائل المعارضة اليوم بات لها وجود فاعل وغير قابل للالتفاف عليه. من هنا الضرورة كي تكون علاقة الانظمة العربية مع الوضع الفلسطيني علاقة الحياد الايجابي، أي دعم الخط العام المفضي الى الدولة، وليس استغلال العلاقة مع هذه الفصائل لانهاك السلطة واضعافها، تمهيداً للانقضاض عليها.

المظلة التي يسعى الجميع اليها تبقى الولايات المتحدة، خصوصاً ان بوش هو الذي اطلق مبادرة الدولتين، وان حليفه الاوروبي توني بلير وعد بان يجعل هذه المسألة من اولويات سياسته الخارجية. ولا يختلف اثنان ان اعادة «خريطة الطريق» الى طاولة التفاوض، لا بل اعادة فرضها على جدول الاعمال في الشرق الاوسط، تبقى في يدي الادارة الاميركية. واي تحريك للجمود في العملية السلمية، سيكون اميركياً. لذلك على واشنطن ان تعيد النظر في موقفها الكامل الانحياز لاسرائيل ولحكومتها الحالية، واتخاذ موقف محايد في النزاع والمفاوضات، بما يعيد الصدقية لدورها.

قد يفتح تنفيذ هذه المتطلبات مجتمعة وعلى نحو متزامن كوة في المأزق الراهن. ومن الواضح ان كلا منها، سواء على الصعيد الفلسطيني او الاسرائيلي او العربي او الاميركي، يحتاج لجهود استثنائية، إن لم يكن لمعجزات من اجل تنفيذه. وهذا يعطي فكرة عن حجم المشكلات التي على اي قيادة فلسطينية ان تواجهها، وعن معنى «الارث» الذي يتركه ياسر عرفات.